لا يزال مترو الأنفاق المشروع الأهم في مشروعات النقل المصرية خلال العقود الماضية من كل الوجوه، رغم أنه جاء عام 1989 متأخرًا بأكثر من 130 عامًا عن مترو لندن الذي دُشِّن عام 1863. لكنه في النهاية جاء.
المترو هو الوسيلة المثلى في كفاءة النقل؛ تقليل هدر الوقت، تحسين البيئة، والحفاظ على التاريخ العمراني في المدينة. ولأنني من سكان مدينة نصر؛ فقد كان تشغيل الخطين الأول، فالثاني، مجرد خبر سار بالنسبة لي. استخدمتهما كسائحٍ في مناسبات محدودة أو وسائلَ إغاثة عند حالات الانسداد المروري القصوى، كأن أستقل الخط الأول من وسط القاهرة إلى كوبري القبة وأكمل المرحلة التالية بالتاكسي. ثم جاء الخط الثالث البديع الذي سيتوقف في مدينة نصر، وعلى تخومها في محطات: أرض المعارض، الاستاد، وكلية البنات. لكن عدم اكتمال الفرحة بمشروعات النقل هو قدر سكان العاصمة وكل المصريين.
دائرة مفتوحة
انطلق الخط الثالث بعد إلغاء ترام مدينة نصر/المطرية، الذي كان يتخذ مسار شارع مصطفى النحاس (درب الزحاليق الآن) ويمضي في شارع يوسف عباس. أي بالضبط كان من شأنه أن ينقل نسبة كبيرة من سكان مدينة نصر إلى محطة أنفاق الاستاد. كانت محطة الترام المغدور تبعد عن مسكني بنحو 300 مترٍ، وكان هذا يعني ببساطة استحالة أن أختار قيادة سيارة أو ركوب تاكسي لوسط القاهرة والزمالك وما بعدها لو كان الترام موجودًا.
المترو وسيلة آدمية، تضمن لي إنسانيتي واحترام مواعيدي. لكن ما حدث على أرض الواقع أن الترام أُلغي، واستُخدمت مدينة نصر معبرًا لما بعدها من الضواحي. وفي سبيل انسياب مسار العابرين إلى الضواحي أصبح الانتقال داخل الحي نفسه محنةً، بسبب الالتفافات الطويلة التي ضاعفت أجر وزمن الانتقال من نقطة إلى أخرى داخل الحي. وكمثال؛ فالمسار المروري القديم بين الحديقة الدولية ومحطة الاستاد يبلغ أربعة كيلومترات، يمكن قطعها على الأقدام في حالة وجود رصيف مشاه آدمي. الآن لا وجود للرصيف من الأساس والمسافة صارت الضعف، وتضاعفت معها بالتالي أجرة التاكسي.
أبناء الأرستقراطية المذمومة قبل يوليو خططوا مدينةً تدور حول النقل العام بينما خطط أبناء الفقراء للسيارة
والنتيجة اليوم هي الآتي: سعر الانتقال عبر التطبيق الأرخص من تطبيقات التاكسي من آخر عباس العقاد إلى محطة الاستاد يدور حول الستين جنيهًا، وتدور الأجرة من النقطة ذاتها حتى الزمالك حول المائة. هل يمكن لهذا الفارق أن يجعل راكبًا يختار المترو، فيغادر السيارة وينزل إلى تحت الأرض ثم يصعد من تحت الأرض عند الوصول؟ شخصيًا صار المترو إمكانية موجودة كخيار أزمة، في حالات المواعيد الرسمية الصارمة. وهكذا أصبح وجود خط المترو الأخضر مجرد خبر سعيد بالنسبة لي أرتاده في المناسبات مثل السياح.
ما يقال عن نتائج الغدر غير المبرر بخط ترام مدينة نصر يقال عن قطار مصر الجديدة، الذي ولد أساسًا من بنية الحي نفسه، ضمن المفهوم الذي انتشر بعد إنشاء مصر الجديدة بعشرات السنين، وهو مفهوم العمران الموجه نحو النقل العام/Transit-oriented development. ولأنه جزء من صميم تكوين الحي، كان من السهل الحفاظ على وجوده، مع تقليل عرض أرصفته أو إلغائها تمامًا. لكنه أزيل وصارت الشوارع خطرة بعد توسيعها المفرط، بينما أضيف مساره من جهة رمسيس إلى عرض الشارع؛ فهل ساهم في انسياب المرور؟ لا شيء سوى ترحيل الاختناق مسافة كيلو مترين.
وللأسف ليست هناك مراجعة وتقدير حالة لأي إجراء من إجراءات النقل والطرق للاستفادة فيما بعد؛ فالقوة فوق العقل. بالأساس، ليس هناك اعتراف بالفكرة المركزية في التنمية والنقل التي خصصت لها مقال فلسفة الدائرة في هذه السلسلة. وللأمانة، فعداءُ السلطة للدائرة ليس وليد اليوم، بل يمتد منذ 1952، وهذا ما جعل تطوير الصناعة على حساب الزراعة وجعل الاستثمار العقاري بديلًا عن النشاطين، وجعل وسائل النقل والطرق الواسعة دون جدوى، أو على الأقل دون المنتظر منها.
نصف ميل
لا تعمل أي وسيلة مواصلات بمعزل عن الأخرى، السريع منها بحاجة إلى الترام البطيء، القطار بحاجة إلى الأوتوبيس، والترام والدراجة والقدمين، وفي آخر الصف تأتي السيارة الخاصة، التي صارت بقدرة قادرين الوسيلة الأولى التي تُشقُّ لها الطرق وتُمدُّ لها الكباري ويُلغَى من أجلها الترام، كما حدث لترام القاهرة، أو يُعلَّق، فتنخفض جدواه، كما هي النية لترام الإسكندرية.
إعطاء الأولوية للسيارة الخاصة يضعنا إزاء مفارقةٍ كبرى؛ فأبناء الأرستقراطية المذمومة قبل يوليو خططوا مدينةً تدور حول النقل العام، بينما خطط أبناء الفقراء للسيارة. والأمر لا يقتصر على مخططي الجمهورية الجديدة السعيدة، بل أيضًا مخططي الجمهورية القديمة الحزينة، التي نشأت في ظلها الضواحي الغنية عشوائيًا كفرصة للكسب المتبادل من الأرض والعقارات بين عناصر النظام ورجال الأعمال، دون وضع تصور مسبق لبنية نقل عامة بين القاهرة وهذه الضواحي أو داخل كل ضاحية، فكانت مجرد اندفاع عمراني محموم لا يراعي الاستدامة في التخطيط العمراني أو النقل أو المرافق.
الركيزة الأساسية في التحديث العمراني بالنقل هي مبدأ النصف ميل (800 متر) بمعنى أن تكون أبعد محطة نقل عام عن أي ساكن بين ربع ونصف ميل كحدٍ أقصى، حيث يستطيع الراكب أن يقطع تلك المسافة بأمان ماشيًا إلى نقطة الركوب، ونقطة النزول كذلك.
يتكامل القطار مع الخط الأخضر بشكل رائع لكن الدائرة لم تكتمل لغياب وسيلة داخلية تتسلم الراكب من محطة القطار إلى بيته
غياب هذا المبدأ هو المسؤول عن النتيجة التي حققها تشغيل القطار الخفيف في ضواحي شرق القاهرة، لكن هذه النتيجة المنطقية بدت مفاجئة ومؤلمة للسلطة إلى درجة تحريم التقاط الصور في عربات القطار. كل هذا بسبب تجاهل مبدأ الدائرة المتأصل!
في الواقع يتكامل القطار مع الخط الأخضر بشكل رائع، لكن الدائرة لم تكتمل لأن الضواحي التي يخدمها لم تتضمن وسيلة داخلية عامة تتسلم الراكب من محطة القطار إلى بيته، لهذا، وببساطة شديدة لم يستغن ساكن هذه المدن عن سيارته، وصار القطار بالنسبة له خبرًا سعيدًا، أجمل ما فيه صورته لكنها ممنوعة!
تنبح اللجان وينبح نجوم الأمنعلام بما يمنع الحلول، يهبون في وجه كل من يبدي رأيًا بتلبيسه تهم العمالة والانخراط في جماعة محظورة، ويطلبون ما يسمونه النقد البناء، وتقديم البدائل.. إلخ!
من أجل نقل عام فعال
وها هي النصيحة لوجه الله: القاهرة ليست بحاجة إلى المزيد من محاور الطرق التي يُدمَّر من أجلها تراثنا المعماري ورأس المال الروحي للمدينة المتمثل في هدم مقابر وأضرحة الرموز الدينية والفكرية، بل تحتاج وبشكل عاجل إلى إجراءات أخرى تمامًا، وهي: أولًا، إعادة ميزان الأولويات المرورية في نصابه الصحيح ككل مدن البشر؛ المشاة، ومن بعدهم النقل العام، ثم السيارة الخاصة. وهذا يعني العدول عن أسلوب إلغاء أرصفة المشاة لأنها مفتاح جدوى النقل العام.
ثانيًا، تولي الدولة بقدر استطاعتها النقل العام بنفسها، وإن كان استمرار الاعتماد على شركات خاصة ضرورة فهذا لا يلغي حق الدولة في التنظيم؛ إنشاء المحطات وإلزام الشركات بها وبقواعد التوقف فيها ومغادرتها بنظام.
ثالثًا، إكمال بنية الطرق التي تُسلَّم معيبةً تنقصها الإضاءة وإشارات المرور واللافتات الإرشادية الكافية وتخطيط الحارات بإتقان وبمواد جيدة، واعتماد الصيانة الوقائية في كل هذه البنود.
ورابعًا وأخيرًا، العمل الجاد على إكمال دوائر النقل بشكل علمي وليس بشكل أمنيات ونشرات دعائية عما سيحققه هذا المشروع أو ذاك.
وفي هذا الإطار، لا بد من العمل فورًا على إنقاذ استثمارات المونوريل بوضعه في دائرة نقل كاملة. يرتبط المونوريل مع مترو الأنفاق، لكن هذا مجرد طرف واحد، والطرف الثاني نقاط الوصول التي لا تلبي مبدأ نصف الميل الذهبي. والسؤال الجوهري الذي يجب طرحه قبل تشغيل المونوريل: ماذا سيفعل الراكب بعد مغادرة محطته؟
إذا كان من الصعب إنشاء شبكات ترام في المدن الجديدة، فلا بد من تأسيس شركات نقل داخلية محترمة وعلى معايير آدمية في كل مدينة من المدن التي يعبرها المونوريل، وبغير هذا ستظل هذه الأطراف من العشوائيات الفخمة مقبرة لدفن أموال مشروعات النقل الكبرى.