ظهر على السوشيال ميديا من ينعى ترام الرمل بالإسكندرية؛ ويعلن توقفه في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. تفاعل مع هذه البوستات عدد كبير من المستخدمين، بعضهم غَضِب دفاعًا عن هذا المَعلَم البارز، وبعضهم لأسباب عملية بسبب التوقيت في بداية موسم المدارس، مع توقعات بشلل تام للمدينة التي تعاني من وقف قطار أبو قير.
استمرت الضجة يومًا أو اثنين، حتى خرج الرد الرسمي عليها يوم 12 سبتمبر/أيلول الفائت، في شكل تصريحات من وزارة النقل، تنفي وجود قرار بإيقاف الترام، وتؤكد أن المشروع لا يزال محل دراسة مع الشركات المنفذة. جاء الرد من الهيئة المصرية للأنفاق وهيئة النقل العام في الإسكندرية، على لساني مجهولين بالهيئتين. إحدى الصحف استخدمت تعبير مصدر مقرب من المشروع!!
وكما نعرف؛ فالهيئات طير أخرس، لكي نفهمها ونُصدّقها، لا بد أن يتحدث عنها شخص ما من لحم ودم وأعصاب، ذو صفة رسمية، رئيسًا كان أو متحدثًا إعلاميًّا. لكن غاب اسم الشخص عن الرد الذي تضمن تأكيدًا على أن المشروع قائمٌ دون تحديد موعد بديل ولو بالتقريب، أو طمأنة المواطنين أن التنفيذ سيبدأ بعد تجديد قطار أبو قير. لهذا بدا أن الرد أملته حالة الارتباك في مواجهة البوستات الغاضبة، لم ينجح في تبديد ما وصفه بالشائعة التي لا أساس لها من الصحة.
مصدر مسؤول
تضمن الرد الإشارة إلى أن المشاورات لا تزال مستمرة، لكن استمرار البحث يتعارض مع أخبار أخرى معلنة عن فوز شركة كورية بالمناقصة. علمًا بأن كل شيء في المشروع محدد: تكلفته، وتفاصيله الفنية من حيث الطول الإجمالي والمسافات العلوية والنفقية والسرعات المطلوب تحقيقها.. إلخ. وكلها منشورة في الصحف بصيغة ثابتة منقولة عن بيان غير مؤرخ على موقع الهيئة القومية للأنفاق مصحوبًا برسم توضيحي. كيف يستقيم أن تكون تفاصيل المشروع محددة بهذه الدقة وفق تعاقد، ويظل وصف المشروع أنه "تحت الدراسة"؟!
لا يمكن مناقشة المصدَر غير المُعرَّف، وبالتالي غير المسؤول، وليرحم الله أحمد فؤاد نجم الذي تنبأ مبكرًا بالظاهرة، التي صارت سمة للإدارة المصرية، ابتداءً من المصدر "المطلع" الذي يقول أشياءً عن حرب لا يسميها ودولة لا يسميها ويلقح عليها بكلام رقيق يبكينا ويضحكها، وانتهاءً بالمصدر الذي يتولى التصريح بشأن ارتفاع سعر الطماطم؛ فلا نصدقه ولا نفهم منه ما يطمئننا على مستقبل طبق السلطة.
لمشروعات النقل منزلة بين منزلتي الحرب على غزة وحرب الطماطم. وهي بطبعها لبيسة تهم، لأنها تعاني من ظاهرة غريبة جدًا، تجمع بين ثقل اليد وارتعاشها. تمضي الغلظة بالمشروعات في طريقها، بينما يظهر الارتعاش عندما يستدعي الأمر ردودًا تمتص الغضب فتخرج مرتبكة، لتعود اليد الثقيلة وتكمل ما أغضب الناس، كما خططت له تمامًا.
تعطيل إمكانات النقاش والضعف الشديد للإعلام قطعا الطريق الذي كان من شأنه أن يساهم في تطوير الأداء وتحقيق الصالح العام والتراضي؛ فتحول الخلاف حول المشروعات التي نمولها بالدَيْن إلى مجرد حالة من الكر والفر على السوشيال ميديا، بين القلقين الساعين إلى الفهم والمواطنين الشرفاء الذين يطاردون بهراواتهم كل من يجرؤ على السؤال. والتهم جاهزة؛ ألطفها الجمود وكراهية التطوير، وأثقلها وأكثرها دناءة معاداة السامية التطويرية وإهالة تراب الحفر على كل الإنجازات لأهداف خبيثة.
الهوس بالسرعة
تطوير ترام الإسكندرية ليس المشروع الوحيد الذي كان موضوعًا للكر والفر، بل سبقته التغييرات المجحفة في شوارع المدن المصرية، خصوصًا العاصمتين التاريخيتين؛ القاهرة والإسكندرية. لم يَفلح العنف الافتراضي في تحسين الخطط، لكنه نجح في تعزيز حالة الاحتراب الأهلي التي تؤكد أن الأمور ليست على ما يرام، بخلاف تداعيات ترسيخ الغوغائية على المستقبل.
والحقيقة أن الترام من العراقة بحيث يستحق أن يثير الحديثُ عن وقفه خوفَ محبيه. هو جزء من الذاكرة الجماعية والفردية، وجزء من تاريخ المدينة ورأسمالها الرمزي بين مدن الدنيا. وأي مقارنة جادة بين القاهرة والإسكندرية بخصوص حرية حركة الفئات الضعيفة من الصغار وكبار السن والمعاقين في شوارع المدينتين ستكون لصالح الإسكندرية بالطبع، والفضل في هذا للترام وحده.
هناك استخفاف بهذه المعاني التي لا تُشترى أباح مذابح الأشجار. لكنَّ النظرة النفعية ذاتها تجعل الترام يستحق البقاء، وتحتم التفكير في العودة إلى اعتماد هذه الوسيلة في كل المدن الكبيرة. ولا يحتاج تقدير الترام ببطئه إلا القليل من الوعي بمعنى المدينة.
تهرول المؤسسات إلى استخدام التكنولوجيا بداعٍ ودون داعٍ مع افتقاد القدرة على صيانتها
يطرح مشروع تطوير ترام الرمل، ككل مشاريع السنوات العشر الأخيرة في مجال النقل، ميزة زيادة السرعة. ورغم أنها لا تتحقق دائمًا بعد التنفيذ، إلا أن طموح تحقيقها يقف خلف كل التشوهات العمرانية التي سببتها مشروعات النقل الممولة بالدَيْن.
يعكس طموح السرعة هذا غياب المعرفة بطبيعة المدينة. وعدم الوعي باختلاف وظيفة الشارع داخل المدينة، عن وظيفة الطرق الدائرية حول المدن، والطرق السريعة بينها.
الانتقال من مكان إلى آخر وظيفة الطريق خارج المدن، وطبيعي أن يكون هاجس هذه الطرق تحقيق السرعة، لكن الانتقال ليس الوظيفة الوحيدة للشارع، الذي ينهض بوظائف التريض والتسوق والتعارف واللقاء الاجتماعي. لهذا يكفي أن يكون المرور منسابًا، في مقابل أن تتحقق في الشارع العدالة والرحمة، وهو ما يقتضي أن يكون الأولى بالرعاية عند تخطيط النقل المشاة، ثم النقل العام، ثم السيارة. لكن مشروعات السنوات العشر الأخيرة قلبت سلَّم العدالة رأسًا على عقب. لم تفكر في أمان المشاة ولا في ركاب النقل العام، بل كانت مولعة بإلغاء التقاطعات لتسريع حركة السيارات.
عندما توضع عدالة ترتيب الأولويات في الحسبان يصبح الترام ضرورةً، وسرعته كافية، كوسيلة مدينية، ولا بأس في أن ينتظر السيارات حتى تقطع مساره، وتنتظره السيارات حتى يمر، في مقابل ميزة سهولة وأمان استخدامه على سطح الأرض. وللمفاجأة، فسرعة ترام الرمل الحالية التي لا تعجب المطورين تصل إلى 11 كيلومترًا في الساعة، أي أسرع من ترام سويسرا، بلد صناعة الساعات، حيث تبلغ سرعات الترام 9.5 في المدن الصغيرة و7.7 في المدن الكبيرة.
الزمن الإجمالي لرحلة الترام ليس مهمًا، لأن نسبة الركاب الذين يستخدمون الخط من أوله إلى آخره تكاد لا تذكر مقابل نسبة من يستخدمونه لمحطات معدودة. يربط في معظم الأحيان بين نقطتين في الحي الواحد، وهو ما لا تستطيع وسائل النقل الأخرى تقديمه للمستخدم ببساطة وتكلفة منخفضة. وهكذا لا يجب النظر إلى أن سرعته 11 كيلومترًا في الساعة، بل إلى متوسط الزمن الذي يقضيه الراكب فيه.
هناك مشكلة أخرى في تخطيط النقل، وهي عدم الانتباه إلى تكامل وسائل النقل مختلفة السرعات والوظائف. هذا التكامل ضرورة. والعبرة رأيناها في القطار الكهربائي الذي يتردد فارغًا في ضواحي شرق القاهرة. ما ينقصه هو شبكة ترام داخل الشروق وبدر تقنع الناس بترك سياراتهم الخاصة واستخدامه، وهو ما يمكن أن يواجهه المونوريل دون أن ينشر الترام في التجمعات التي يقطعها.
الإدارة والكفاءة
والنقطة المهمة التي تطرقت إليها في مقال الشهر الماضي، هي ضرورة الوعي بأن أي طريق أو مشروع نقل لا يتم في فراغ، بل تقيمه إدارة ما من أجل مستخدمين، ويجب أن يقاس على إمكانيات الإدارة والمستخدمين، وليس على الصورة المبهرة التي يعد بها مسوقو القروض ومسوقو شركات التنفيذ الأجنبية. يجب أن يراعي المشروع كفاءة الإدارة في إنفاذ القانون بخصوص شفافية التنفيذ والتشغيل، وكفاءتها في تحقيق أعمال الصيانة، وبالقدر نفسه يجب أن تقاس على أحوال المستخدمين أنفسهم ثقافيًا واقتصاديًا.
وبالنظر إلى أوضاعنا، يصطدم الولع برفع وسائل النقل الكهربائية فوق الأعمدة وشعلقة محطاتها في الجو، بواقع الصيانة، الذي نراه مؤلمًا في تعطل السلالم الكهربائية للمشروعات القائمة، واستمرار الأعطال دون إصلاحها مددًا طويلة.
هذه الأعطال قدرٌ عنيدٌ يواجه مشروعات النقل، بما فيها شبكة مترو القاهرة، التي يُشكِّل تعطل سلالمها محنةً في محطات الربط ذات الأعماق الكبيرة. وفي الإسكندرية، مدينة الترام الذي يسعى التطوير لشعلقة بعض محطاته، يوجد نُصب تذكاري للسلالم الخربة، هو كوبري سيدي جابر للمشاة أمام محطة القطار. وقد صار الكفاح لإصلاح السلَّم الكهربائي لهذا الممر الجوي ملحمة وطنية، كان لها الفضل في تذكيرنا بوجود البرلمان بين عامي 2016 و2023، إذ داوم النائب السكندري حسني حافظ على الدفع باتجاه إعادة تشغيله في أسئلة واستجوابات، لكن السلَّم أبى واستعصم ولم يشتغل!
لا توجد معلومات عن تاريخ إنشاء الكوبري، لكن النائب السكندري يقول في تصريحاته إنه بُني في عهد المحافظ اللواء عادل لبيب. نعرف أن اللواء المحافظ لبيب تقلب على محافظات عدة وتولى الوزارة. وكانت فترته في الإسكندرية من 2006 إلى 2011. فإذن بني الكوبري في أي عام من تلك الفترة، وصار قضية قومية فكاهية، عصية على الحل إلى اليوم.
طبقًا لتصريحات صحفية للنائب، فقد اشتغل الكوبري عامًا بعد افتتاحه. وعلى مدار السنين، جرت محاولات إكراه للمشاة بالحواجز أمام مداخل الكوبري لإجبارهم على صعود السلالم المعطلة لكن تلك الجهود لم تنجح. وحافظ الكوبري على صفته كخرابة تكنولوجية.
وهذا مجرد مثال على مستوى الصيانة في كل ربوع مصر، وفي كل المؤسسات التي هرولت على استخدام التكنولوجيا بداع ودون داع مع افتقاد القدرة على صيانتها. يحتاج الترتيب الهزلي لأولويات الدولة التكنولوجية إلى وقفة مطولة، لكننا نرى كيف أن البوابات الإلكترونية، التي تستهدف تقليل عمالة الأمن، تحولت في مصر إلى سبب لزيادة العمالة، حيث يجب أن يقف من يُعطِّلها ليرفع حصارها عن العابرين، لأنها تعاني الأمية ولا تنجح دائمًا في قراءة الباركود على الكارنيهات وتذاكر الركاب في مشروعات النقل.
أخذ طبيعة المدن وحاجاتها والحالة الهزلية للصيانة في الاعتبار يقتضي بالضرورة وقف الاندفاع في شعلقة وسائل النقل في الهواء. وليتذكر المخططون أن أول ما يفسد من سمكة المشروع هو سلمه الكهربائي!