مسطحات عشبية محدودة مائلة للصفرة تتوسطها منشآت خشبية بسيطة يلهو حولها أطفال بألعاب ومجسمات فقيرة، وعلى أطرافها تتناثر بعض أشجار ونخيل لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، كانت ملخص صور وفيديوهات انتشرت في الآونة الأخيرة على صفحات حكومية وصحفية تروّج لـ"حديقة 30 يونيو بمدينة الخارجة بالوادي الجديد"، واعتبارها "إنجازًا حضاريًا ورؤية مستقبلية" و"متنفسًا للأهالي".
تخبرنا بيانات حكومية بأن رئيس الوزراء زرع عام 2021 فسيلة نخل في هذه الحديقة التي أقيمت بتكلفة 9.2 مليون جنيه على مساحة تسعة أفدنة وافتتحت للزائرين منذ عامين. تعجبت أن يكون هذا شكلها، فهي ليست حديقة ولا "جنينة" ولا ترتبط بأي مصطلح أخضر. ربما ساحة أو منتزه للأطفال لا أكثر.
أشعر بالإشفاق على أهالي الخارجة التي لم تُشرفني زيارتُها بعد إذا كان هذا حال "الإنجاز الحضاري". فهل هناك متنفسات أخرى في مدينة مركزية يزيد عدد سكانها على 106 آلاف نسمة، وبها مطار جرى تطويره حديثًا، وتتمدد أحياؤها لتسع المزيد من السكان والأنشطة؟
إحساس مماثل انتابني في مدينتي دمياط أثناء عيد الفطر الماضي. فبعد تمشية محببة على كورنيش النيل اقترحت على أصدقائي أن نزور حديقة بنت الشاطئ التي تقتطع مساحة 6500 متر مربع من الكورنيش، اشترينا التذاكر وثمنها جنيهان للفرد، ودخلنا ساحة لا تختلف عن باقي رصيف الكورنيش؛ أرض مكسَّرة كالعادة من الإنترلوك وأنواع أخرى من البلاط، وبعض المقاعد الخشبية العريضة، ولا مساحات خضراء تذكر. العدد المحدود من الأشجار العطشى بفروعها الجافة لا يمكن أن يجعل من هذا المكان "حديقة".
تذكرت والدي رحمه الله. كانت لي معه في هذا المكان ذكريات قليلة لكنها جميلة، ملونة بخضرة الأشجار الكثيفة وانعكاس الضوء الدافئ على صفحة النهر، لما كان يصحبني عندما أمرض إلى كازينو نيلي صغير، نأكل البسبوسة الساخنة، وبالقرب منا الصيادون الهواة يبارزون الوقت بصنانيرهم، وهو يدندن ليسرّي عني "هيلا هوب هيلا.. صلح قلوعك يا ريس".
أزيل الكازينو في التسعينيات ضمن خطة مكبّرة لإخلاء الكورنيش من الإشغالات، وخُصصت تلك المساحة حديقةً عامةً، خضراءَ مزهرةً، أضيفت إليها ألعاب الأطفال، ورحبت بالجميع دون تذاكر، فكانت قبلة البسطاء الراضين بفُسحة الذرة المشوية والفشار والترمس والحلبة، حتى حلّ "التطوير" في عهد المحافِظة منال عوض، التي عُيّنت وزيرة للتنمية المحلية في التعديل الوزاري الأخير، فأعيد تخطيط الحديقة ليغلب عليها اللون الرمادي، بتكلفة 11 مليون جنيه.
حُمَّى قطع الأشجار
يمضي الإنترلوك قُدمًا ليبتلع المسطحات الخضراء، حتى نشأت علاقة شَرطية بينه وبين التطوير لا ندري سببًا لها، ويعتقد بعض المراقبين أن هذه الظاهرة "قاهرية" فقط، لكن الحقيقة أن المحافظات تعاني أكثر، بعدد أقل من المتنفسات ومساحات أصغر للترفيه والتنزه.
ومع تصاعد اهتمام السوشيال ميديا وبعض المواقع الصحفية وتصديها للدفاع عن الأشجار والمساكن والمدافن القديمة، لا تبدو الحكومة مهتمة بمراجعة مواقفها. فنرى في المخطط الجديد لمنطقة عرب اليسار في القلعة بعد إزالة المساكن العتيقة والحارات والأزقة، الذي كان مفترضًا أن تتسع فيه المسطحات الخضراء تمهيدًا لإنشاء مبنى فندقي "حديقةً" أخرى من الإنترلوك، محاطة بمنشآت ذات قباب وأقواس حجرية تبحث عن هوية. وعلى بعد كيلومترات في كورنيش ماسبيرو، يتآكل المسطح الشجري إلى مستوى لا يليق بضفة النيل.
لماذا يتعارض أي مشروع ممشى مع وجود الأشجار، حتى إن بعض المساحات أزيلت منها الأشجار وأقيمت بدلًا منها أكشاك قبيحة لبيع الموبايلات والمشروبات؟!
في توسع وانتشار حدائق الإنترلوك حتى أصبحت ظاهرة، ثلاث دلالات مهمة، يساعد فهمها على التفسير ومحاولة التنبؤ بالمستقبل.
أولى هذه الدلالات هي حُمَّى قطع الأشجار وتآكل المساحات الخضراء التي يشهد عليها الجميع عدا المسؤولين المختصين، فها هي وزيرة البيئة ياسمين فؤاد بعد تجديد الثقة بها الأسبوع الماضي تصرح بأن "ملف التشجير سيكون أولوية لزيادة المسطحات الخضراء وبما يتوافق مع الميزان المائي وطبيعة كل محافظة".
على الأرجح لم تشهد الوزيرة التصريحات اللافتة التي أدلى بها المتحدث باسم وزارة الزراعة محمد القرشي لقناة صدى البلد منذ أيام، واعترف فيها لأول مرة باحتمالية إزالة الأشجار من قبل الجهات المسؤولة عن تنفيذ بعض المشروعات إذا لم تكن هناك حلول أخرى، واحتمالية إزالتها أيضًا إذا كانت شرهة للمياه. ويتطابق هذا الاحتمال الثاني مع ما أخبرتني به مصادر بمحافظات مختلفة وأوردته في مقال سابق عن أزمة سد النهضة، إذ رأت جهة حكومية ما أن الأشجار التقليدية غير المثمرة تستهلك حصة معتبرة من موارد مصر المائية المحدودة.
يدعم هذا التصور أن الردود الحكومية على إزالة الأشجار تتجه بشكل جماعي إلى مسألة أخرى، وهي زراعة المسطحات الخضراء في المدن الجديدة وعلى رأسها العاصمة الإدارية، رغم أن الصور الواردة من هناك لا تدل على ذلك، وتكتظ غالبيتها بالعشب لا الشجر.
لم يفصح متحدث الزراعة عن الجهات صاحبة قرار الإزالة، في ظل تداخل المسؤوليات وتعدد جهات الولاية وإقامة المشروعات، وبدا عليه الارتباك فوعد الإعلامية رشا مجدي بالتشاور مع زملائه والعودة لها مجددًا بالمعلومة. علمًا بأن القانون يضع مسؤولية حماية الأشجار، باعتبارها من الأملاك العامة "أيًّا كان غرسُها"، على عاتق المحافظات، ممثلةً في إدارات النظافة والتجميل.
حدائق جديدة لجمهورية جديدة
أما الجانب الثاني من الظاهرة فهو أننا نتجه تدريجيًّا إلى تحوّل جذري في دلالة كلمة "حديقة" لتنشأ أجيال جديدة على أرض مصر لا يرتبط مفهوم اللفظ عندها باللون الأخضر، بل بنسخة رديئة من الساحات العامة... إنترلوك ومقاعد فقيرة و"زحليقات ومراجيح" وأكشاك تبيع أي شيء!
فمن بين مظاهر التحول الدلالي للألفاظ ما يسميه رائد الدراسات اللغوية الدكتور إبراهيم أنيس بـ"انحطاط الدلالة"، لوصف تحول دلالات الألفاظ التي تطلق على الجمال والقوة والنبل وكل ما له منزلة عليا في المجتمع إلى دلالات دونية أو أصبحت تستهين بها الجماعة، ويرتبط ذلك بتحولات سياسية واجتماعية وثقافية كبرى، ربما نعيشها الآن ولا نلحظ مدى خطورتها.
ولا يبتعد مصير "الحدائق" في هذا السياق المعتم عن ألفاظ أخرى قُتلت ابتذالًا وتلاعبًا في مجالنا العام حتى لم تعد معبرةً عن حقيقتها بالمرة، مثل "التطوير" و"الهوية البصرية" و"المظهر الحضاري" و"الحوكمة" و"الحوار" و"المنافسة" و"عبور الأزمات" و"الميكنة" و"الرقمنة" و"الشفافية" و"العدالة الناجزة" وغيرها، ولا يتسع المقام لشرح ما باتت تعنيه تلك الألفاظ لدى المواطنين وأصحاب المصلحة المرتبطين بها.
دخل مفهوم "الحديقة" وعي الإنسانية الحديث مرتبطًا بالجنة الموعودة للمؤمنين كصورة مصغرة للفردوس المفقود، تتشابك فيها عناصر الجمال التي تسمو بحواس البشر وتبهج أرواحهم وتصقلهم بالحكمة، فاكتسب فن العناية بالحدائق أو البستنة أهمية متعاظمة في الحضارات الكبرى، وتداخل مع الفلسفة والهندسة والعمارة، ثم أصبح لها دور صحي وبيئي واجتماعي بارز، بالتزامن مع النهضة الصناعية وبدء تشكل المدن المليونية.
وأتصور أن حدائقنا الجديدة في مصر تقف خارج الجدل الذي أثاره الفلاسفة كانط وهيجل وشوبنهاور ورسكين حول الطبيعة الجمالية للحدائق وما إذا كانت تعتبر ضربًا من الفنون، فهي لا تمت للجمال أو الفن بأدنى صلة، وتبتعد بفعل فاعل عن أدوارها المجتمعية، لتصبح فقط مصدرًا للدخل وموردًا لتحصيل الرسوم، وهو أمر يتنافى مع جوهر فكرة الحدائق العامة والمنتزهات الشعبية التي نستمتع بها مجانًا في معظم دول العالم.
اعترضوا.. لا شيء يهم!
يودي هذا الواقع بنا إلى ثالث جوانب الظاهرة: الازدراء، بألف ولام التعريف.
فحدائق الإنترلوك تعكس نوعًا فجًا وعمديًا من ازدراء البشر والطبيعة على حد سواء. ورد الفعل الحكومي لا يتناسب مع كم المناشدات والمطالبات التي انطلقت في الفضاء الإلكتروني، ليس أملًا في توسيع الحدائق أو تطويرها بجدية أو تعدد معارض الزهور بدلًا من مركزيتها وضآلتها بالنسبة لتاريخ مصر الفلاحي، بل فقط للحفاظ على أشجار الشوارع والكورنيش وما أنقذه الدهر من براثن الإهمال والجشع الأسمنتي.
إنها رسالة واضحة من الحكومة، تمامًا كما في قضية الإزالات في مدافن القاهرة، بأن المخططات الموضوعة سلفًا ستُنفذ دون إبطاء، ولا فرصة للتواصل المجتمعي ولا مجال لرؤية أخرى. رسالة ترتكن إلى ثقة في غياب الرقابة الحقيقية، فلا يوجد ما يضطرها إلى تفسير أي شيء.
ولا مانع أيضًا من فرض التباهي بمشاهد مُجدبة كحديقة 30 يونيو بالوادي الجديد، أو بأخرى مثيرة للتساؤلات كحي جاردن سيتي في العاصمة الإدارية الجديدة، الذي نُشرت صور له لم تخلُ من الإنترلوك وسط عمارات سكنية عريضة ومتقاربة، دون أن ترى المسطحات الخضراء المتوقعة في حي اسمه يُترجم إلى "مدينة الحدائق".
المؤسف أكثر؛ أن تلك المساحات المبلّطة التي تغزو المدن المصرية وتُحتسب كمشروعات تطوير حضارية، تفتقد أبسط مقومات الاستمرارية لأداء وظيفتها بسبب العوامل المناخية والإهلاك البشري ومشاكل الأمطار وعزل المياه الجوفية والصرف الصحي، وكم من مرة رُصدت في القاهرة والمحافظات أعمال تبديل للأرضيات بعد وقت قصير من تركيبها.
ولأنها تفتقر، تصميمًا وتنفيذًا، إلى القيمة التذكارية أو النُّصبوية/monumental، فسيكون عمرها بالتأكيد أقصر من أشجار اجتُـثت بقسوة، ولم يشفع لها الظلُّ أو الجمال.