منشور
الخميس 25 مايو 2023
- آخر تحديث
الخميس 25 مايو 2023
حين كنت في المرحلة الإعدادية، كنت شغوفًا بقراءة الصحف وسماع نشرات الأخبار، وكانت الكتابات والأنباء هنا وهناك تتحدث عن أحزاب سياسية في أوروبا تسمى أحزاب الخضر، تصورتُ وقتها أن علة وجود تلك الأحزاب وحدود نشاطها هو الحفاظ على الأشجار والزهور، لم أفهم وقتها أن هناك شيئًا اسمه سياسات بيئية أو انبعاثات للكربون أو احتباس حراري، بالكاد استطعت الربط لاحقًا بين جهود الخضر وبين ما سمعته عن ثقب الأوزون الذي يهدد الكوكب من ناحية قارة أنتاركتيكا الجنوبية.
كنت في النهاية ابنًا لضاحية صحراوية في شرق القاهرة، وليدًا لعالم أجدب وحار مملوء بالغبار. كان أسفلت الشوارع الممهدة في منطقتي ساخن ومدبب. وفي تلك البيئة كانت الخضرة الاستثناء الذى يستحق العناية، إلى حد يجعلك تراقب رحلة نمو الأشجار من نبته حتى يصير لها فروع وأغصان.
السكان هم من زرعوا الوادي، ولو لم يفعلوا لما نبتت فسيلة واحدة فى أرضنا
كان سكان الأدوار الأرضية في المساكن الشعبية، وعلى الرغم من رقة حالهم، يعتنون بالحدائق الصغيرة الملاصقة للفناء الخلفي للبلوكات، يزرعون فيها أشجار الليمون والجوافة والتوت وتكعيبات العنب، وكانت اللذة والإثارة تتبدى في تسلق الأشجار وقطف بعض من ثمارها الناضجة في غفلة من أصحابها.
علمونا في الصغر أن مصر هبة النيل، وعلمنا أنفسنا في الكبر أنها هبة المصريين، فالنيل جاء بالطمي الأسود لا الزرع الأخضر. ليست لدينا مراعٍ طبيعية، والسكان من زرعوا الوادي، ولو لم يفعلوا لما نبتت فسيلة واحدة فى أرضنا. كل وجود أخضر على أرض مصر من صنع الإنسان، لا الطبيعة.
هناك بلدان، خاصة في أوروبا وإفريقيا، الطبيعة الخضراء فيها حية وكثيفة من دون وجود بشر بالضرورة. قد يرتحل الإنسان إليها كي يستوطنها ويهذبها تطويعًا لاحتياجاته. أما في مصر فالإنسان كان ولا يزال شريكًا للنيل في وجود الحياة، سلوكه تجاه طبيعة واديه شرط بقاؤه واستمرار حضارته منذ البداية وحتى الآن.
قيل لي من أحد الأقرباء حين كنت طفلًا إن اقتلاع الزرع من جذوره حرام، وأحد أصدقائي المقربين نهرته جدته واصفة إياه بالكافر "الخروبة" لأنه حاول نزع شجرة من الأرض، وفي فيلم الأرض تتجسد المأساة في نهايته مع لحظة تجريف الأرض الزراعية وصاحبها متمسكًا بنبتاتها، بينما يسحل العسكر محمد أبو سويلم لإبعاده عن أرضه.
لا نحتاج إلى ثقافة رفيعة لنعلم أن نصيب المواطن المصري من المساحة الخضراء هو من الأقل بين سكان العالم. أغلبنا يكره الصحراء ويراها الموت عينه، ننفر منها ونعرض عن اكتشافها. ولطالما تعجب أصدقائي الأجانب من قلة معرفتي أنا وكثير من المصريين بالطبيعة الصحراوية في بلادنا وتضاريسها المثيرة.
أفهمتهم أننا، معشر سكان الوادي، نبغض الصحراء ولدينا ميل طبيعي لإنكارها وكأنها غير موجودة. كانت منطقة الدرّاسة الملاصقة للجمالية هي ربوع الموت في عالم حارات نجيب محفوظ، فهي صحراء خارج "العمار"، والخارج منها هو الطريد المطارد.
في الثقافة العمرانية المصرية، والمدينية منها تحديدًا، هناك علاقة واضحة بين ثراء المنطقة وارتفاع مستواها الاجتماعي من جهة، وبين حجم المساحات الخضراء الموجودة فيها وكثافة أشجارها من جهة أخرى، وذلك منذ أيام جزيرة الروضة ومنطقة بركة الفيل في السيدة زينب في القاهرة القديمة.
ولا تتعلق المسألة بارتباط الخضرة مع الهدوء وأصوات الطيور اللطيفة، بل بتعدد الألوان والستر والظلال المتولدة عن وجود الأشجار والمساحات الخضراء، إمكانية التنفس والتنزه وراحة العين. أحياء المعادي والزمالك ومصر الجديدة وجاردن سيتي لم تكن الأرقى لأن مبانيها هي الأعلى أو الأجمل بالضرورة، بل لأن وفرة المساحات الخضراء فيها ساهمت بشدة في تحديد هويتها "الراقية".
ماذا تفعلون ولماذا؟
فى السنوات الثلاث الماضية ودون مبرر واضح، هناك هجمة شديدة الشراسة على المساحات الخضراء في مدن مصر. الأشجار يتم اقتلاعها في همة وحماس من داخل مساحة ضيقة على كورنيش مدينة المنصورة وكذا محيط النيل في الزمالك، والميادين يعاد تخطيطها في مصر الجديدة بشكل يدمر الوجود الشجري فيها بالكامل، وما هذا وذاك إلا مجرد غيض من فيض. وفي الوقت نفسه يتم الإعلان بمنتهى الفخر عن إنشاء "النهر الأخضر" الصناعي في العاصمة الإدارية الجديدة.
يبدو تجريف "الأخضر" من أحياء القاهرة بدعوى تطويرها وكأنه قرار بتخفيض وترثيث موقعها الاجتماعي عن عمد
والنهر الأخضر بحسب التصريحات الرسمية يشبه وجود نهر النيل في مصر، فبينما يشق النيل الدولة من جنوبها إلى شمالها، سيخترق النهر الأخضر العاصمة الجديدة بالكيفية ذاتها، مكونًا على ضفافه أكبر متنزه في العالم، مساحته أكثر من ثلاثة أضعاف حديقة هايد بارك الموجودة بالعاصمة البريطانية لندن، ويقع على مساحة 1000 فدان، ويضم بحيرتين صناعيتين.
تم إنشاء البحيرة الحالية في النهر الأخضر بالفعل على مساحة 4 أفدنة، وستتجاوز مساحة الثانية 25 فدانًا.
إذن يبدو تجريف "الأخضر" من أحياء عديدة في القاهرة بدعوى تطويرها وكأنه قرار بتخفيض وترثيث موقعها الاجتماعي عن عمد. وهذا ليس جديدًا بالمناسبة، سبق وحدث فى أحياء الحلمية والقبة وشبرا والسيدة زينب والهرم، الذين تعرضوا فى الماضي لأنماط مشابهة من التخريب.
الفارق أن ما حدث لتلك الأحياء فى الماضي تم عزوه إلى الإهمال وضيق ذات اليد الحكومية والبناء العشوائي من الأهالي، وليس بسبب مخطط مدروس من الدولة يتم تنفيذه بحماس من أجهزتها بدعوى التطوير.
فالأمر هنا يبدو وكأنه استكمال لمخطط طبقي واجتماعى غائي ومدروس، تتجاور فيه مصر المهملة الخربة مع Egypt ذات الأسوار المسيجة، وهو الأمر الذي سيعمق من هتك وتفتيت النسيج الاجتماعي المصري، الأمر الذي ينبئ بأزمات أهلية مريرة في المستقبل.
المخزون الثقافي عند المصريين، الظاهر منه والكامن، يدفعهم إلى الشعور بالأسى والجزع عند فقدان أي متنفس أخضر في حياتهم. نحن نرى في اقتلاع كل شجرة جريمة في ذاتها أيًا كان المبرر والدافع. حتى أن تقليم الأشجار يزعجنا أحيانًا ونشعر وكأنه اعتداء. وإن كان الطغيان الحالي له تجليات عدة على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فسيبقى أثر اقتلاع كل ماهو أخضر بدافع "التطوير" مغروسًا في الذاكرة، على الرغم من رمزيته.
بل ربما لأن رمزيته تلك تشي بالكثير والكثير.