"وطن حر وشعب سعيد"، شعار رفعه الشيوعيون العراقيون في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، عنوانه البساطة والبراءة، أراد تلخيص المراد النهائي من جدوى اشتباكهم السياسي مع الواقع. لكن لم تتحرر الأوطان ولم تعرف الشعوب العربية طعم السعادة. ربما تجاسرت دولة الإمارات في السنوات الماضية على الحديث باسمها، بل وخصصت لها وزارة، ولكنها سعادة مواطنيها الأقلية المخدومة من جيوش الوافدين، ذلك أن ليس في العرب من يعرف السعادة إلا من سكن وراء أسوار المستوطنات.
في مصر ذات المئة مليون نسمة ويزيد، يتقلص يومًا بعد يوم كل ما اعتدنا أنه عام، أو يخص النفع العام، ماديًا أو رمزيًا، كبيرًا أو صغيرًا. حتى أن إبقاء الأشجار حية في عدد لا بأس به من أحياء القاهرة "الراقية" أصبح أمرًا محل تفاوض ومجالًا لإطلاق النداءات والاستغاثات.
في رحلة اقتلاع الأشجار ومحاولة التمسك بجذوعها، كما حاول محمد أبو سويلم التمسك بزرعته في فيلم الأرض، دُعِست كثير من المكتسبات العامة المهمة والمركزية، التي كانت حتى وقت قريب بديهية وكان فقدانها بعيدًا عن مخيلة أكثر المتشائمين كآبة، فماذا حدث ولماذا؟
لن تسعفنا صرخة "ضربونا يا بوحة" لأن هناك الكثير والكثير، أسَّس ثم أفضى إلى أن يضربونا يا بوحة
الاستبداد وحده لا يفسر الأمر. لن يكفى الاستناد على حائط الحكم العسكري ذي اليد المركزية الباطشة التي تختص بكل السلطات وتحدد كل شيء حتى أدق التفاصيل. لن تسعفنا صرخة "ضربونا يا بوحة" لأن هناك الكثير والكثير، أسَّس ثم أفضى إلى أن يضربونا يا بوحة.
من بين هذا "الكثير" هو كيف نعي العلاقة بين الملكية الجماعية والنفع العام من جهة ومواقعنا الاجتماعية من جهة ثانية. هل تُسهم الأولى في تحديد الثانية، أم أن العام والمشاع كما استقر في الوجدان المصري الجديد ليس طرفًا في تحديد مواقعنا الاجتماعية في مرحلة تاريخية نجومها ورموزها هم "رواد أعمال" ذوي ذوات فردية فريدة ومتفردة خلف أحلامها.
في أصول البديهيات
يفخر السكندريون بثغرهم ويؤمنون بأن مدينتهم هي الأجمل في مصر. لا لأنهم أحفاد الإسكندر الأكبر أو بطليموس الأول، بل لأن لديهم كورنيش. فكورنيش الإسكندرية الطويل هو ما يجعلها مدينة رحيمة حتى لو أحاطت بشريطها الساحلي أحزمة من الأحياء العشوائية الفقيرة.
يسع الكورنيش العام جموعًا من البشر، يُشعرهم بمؤانسة المكان الذي يعيشون فيه. وبالرغم من وجود أندية للخاصة وشواطئ مغلقة واستراحات أمنية، إلا أن الكورنيش للشعب ولو كره الكارهون. يمشي عليه مئات الآلاف، ويتريض فيه الأبطال الأولمبيين المصريين والذين، وللمصادفة المنطقية، أغلبهم سكندريون. فماذا لو فقد السكندريون هواء الله وبحره، وهو ما يحدث جزئيًا الآن في بعض المناطق التي يتم "تطويرها"؟
في الواقع، بدأ فقد السكندريين، والمصريين جميعًا، لبعض من هواء الله وبحره منذ عقود، وقت تم تخصيص الساحل الشمالي الغربي للمدينة كملكيات خاصة في قرى أشباح، يتم الاستفادة منها في مواسم الصيف لأغنياء المدينتين الكبيرتين؛ القاهرة والإسكندرية. كان هذا هو "التطوير" في عهد مبارك ووزير إسكانه حسب الله الكفراوي.
وقتها لم يرَ الكثيرون مشكلة في الأمر، بل اعتبروه علامة رواج اقتصادي ونشاط استثماري. الفرق بين الأمس واليوم أن اليوم لم يعد قادرًا على السباحة في الرواج الاقتصادي والاغتسال بماء الاستثمار إلا قليلين جدًا ممن لا نعرف لهم اسمًا، ولكنهم ينتزعون من الباقين إبصار البحر في مدينة الإسكندرية ذاتها، وليس مجرد شاطئ صحراوي مستقبلي كحال التسعينيات. فمرحبًا بالجميع بصحبة الشعب الذي لا يرى البحر.
تسرّب إلى وجداننا منذ نصف قرن، وبالتدريج سنة وراء سنة، أنه لا علاقة لتدهور مستوى ما هو عام ومجاني بمواقعنا الاجتماعية كأفراد. فنحن نستطيع النجاة بالانتقال داخل الأدراج الطبقية وجيوبها في بلد نعلم تمام اليقين أن نسبة الكادحين فيه هي الغالبة، حتى ولو تحسن استهلاكهم قليلًا بين مرحلة وأخرى. نؤمن أن هناك دائمًا هامشًا للنجاة، تعززه فى السنوات الماضية خطابات تَحقُّق السوپرمان الفردي الذي يجاور حسابه على تويتر حسابات إيلون ماسك ونجيب ساويرس.
في الولايات المتحدة، من بين كل ألف فتاة دخلت عالم "الپورن" تسطع نجمة واحدة تملأ المواقع بالتأوهات. أما الباقيات فيتم فرمهن في آلة ساحقة، معدل الدوران فيها لا يتجاوز العام الواحد، يخرجن منها بكل أشكال التشوه النفسي والوجداني. فهل منع هذا آلاف الوافدات الجدد من الالتحاق؟!
رحلة انتزاع الاشجار
في رحلة انتزاع الأشجار انتُزعت الحيوات أيضًا. جاءت جائحة كوفيد لتجد فى مصر نظامًا صحيًا عامًا متهاويًا. الأوبئة، ولا سيما تلك التي تنتشر في الهواء، لا تميز بين الغني و الفقير. ولما أصبح الوباء عالميًا، أُغلقت الحدود وصَدّت المطارات الأجنبية سادتنا وأغنيائنا. فوجدوا أنفسهم أسرى للإطار الصحي العام الذي يعمل أعماله في العامة. ففي غرف مستشفيات الخاصة من أهل مصر مبردات هوائية وكراسٍ للضيوف، ولكن ليس بالضرورة أفضل الأطقم الطبية، ولا معايير الأمان الصحي في أبسط صورها.
فليذهب العامة إلى قاع الجحيم كالعادة، ولنأخذ من السادة معيارًا لنتذكر أن عددًا من المشاهير والأغنياء والحكام ماتوا فى مصر وسط الجائحة، بينما نجا أغلب أقرانهم الطبقيين في الخارج. لا تحتاج لحمل شهادة الدكتوراة كي تدرك أنه حين يرتع الذباب والزبالة في المستشفيات العامة فإن المستشفيات الخاصة ستتسرب إليها البكتيريا والفيروسات غير المرئية بالعين المجردة، لدرجة أن البعض فضّلوا الموت الهادئ في منازلهم.
تلك هي قوانين الأواني المستطرقة، فهل تعلمنا شيئًا من الجائحة؟ من مئات الآلاف الذين أرُيد لنا ألا نحصيهم فاضطررنا لمقارنة عدد الوفيات عمومًا بين السنة والأخرى؟ الحقيقة لم نتعلم ولم نواجه، فلماذا لن تُدعَس الأشجار؟!
التعليم العام يُدمَّر تدميرًا، فما هو الحل؟ الذهاب إلى مدارس وجامعات سُمِّيت بالدولية، ولا أعرف بالضبط على أي أساس اكتسبت صفة دوليتها سوى أن الدولي عندنا هو نقيض المحلي ويعلو عليه. أو ربما لأن "الدولي غير الدوري" كما قال الكابتن فاروق جعفر.
أما لو أردنا الحديث الجاد عن الجودة أو المقارنة بما هو "دولي" فعلًا، فهي لا تقترب، ومخرجاتها هي نفس مخرجات التعليم العام والتجريبي منذ عقدين أو ثلاثة. غير أن ذات التعليم العام، في ذلك الزمن، كان سيئًا أيضًا بمعايير سبقته. لكن لدينا تراكمات من الخطابات الجربوعة التي طالما تحدثت بلا كلل عما جنته مصر سوءًا من استمرار مجانية التعليم، فهنيئًا بالرديء المُكلف.
الحي الجديد جميل طالما كان خاويًا، أما لو اكتمل العمران سيكتشف الخاصة أنهم في تجمعهم مكتمل النصاب صاروا عامة
يشيِّدون أحياءً جديدة ليعيش فيها الخاصة بعيدًا عن العامة. الحي الجديد جميل طالما كان خاويًا، لا تزيد نسبة إشغاله عن العشرين بالمئة. أما لو اكتمل العمران وزاد الإشغال، سيكتشف الخاصة أنهم في تجمعهم مكتمل النصاب صاروا عامة. وسيتحدث البعض منهم عن كيف "تبيأ" المكان، ويتساءلون متى زحف "الفلاحون" عليه، ثم سينزحون إلى مكان جديد كبدو رحل.
لن يمكنك أبدًا إقناع قطاعات من الأثرياء والطبقات الوسطى بأنهم لا يعيشون حياةً رغدةً ومتحقِّقة، وأنهم فقط يعرفون مواقعهم من خلال القياس على بؤس الآخرين، الذين يقبعون في درجةٍ أدنى من السلم الاجتماعي. فحياة غالبية الميسورين في مصر هي بأي معيار عالمي منخفضة الجودة في كافة تفاصيلها، وعالية التكلفة في الوقت ذاته.
لن تستطيع هذا أبدًا لأن هؤلاء رهينة من هم أدنى منهم، حتى لو تسيدوهم. فالمجتمع، مهما هرب من كونه مجتمعًا، سيظل مجتمعًا، حتى لو كان اجتماعه أليمًا ومفخخًا ومسكونًا بالذنب والعار والخوف من الانتقام.
ما استجد على المشهد في الفترة الأخيرة هو أن الدائرة تضيق أكثر فأكثر، وقوانين الأواني المستطرقة أصبحت تحكم بكل أحكامها، عقود من استثمار الكتلة الأكبر من المجتمع في الحلول المنفردة والتدافع بالمناكب. بينما القدرات الإنتاجية المجتمعية ضعيفة وغير قادرة على توليد الثروة عبر العمل والتراكم بالمستويات المطلوبة من التنظيم العلمي والعادل والفعال، فصارت مصر سمسارة أراضيها وبحارها وجزرها. كل هذا أفضى عامًا بعد عام إلى تضاؤل ما هو عام لصالح حتمية تخصيصه لأقل عدد ممكن من أصحاب الثروات داخل البلاد أو خارجها.
والعجيب أن كل تضاؤل لكل ما هو عام وجماعي، يحدث في بلد لا يحترم الملكية الخاصة من الأساس. حيث يمكن أن تُنزع الملكية العقارية من أصحابها كما السلام عليكم، لأننا جميعًا نسكن في بيوت صك ملكيتها هو أختام قضايا صحة توقيع العقود، لا التسجيل الموثق. ومدخراتنا يمكن أن تفقد نصف قيمتها في البنوك في ساعة نهار، وبدون القدرة على سحبها. وأعمال يمكن لأصحابها أن يخسروها بنفس الحجج التي برروا بها سابقًا فقدان ضحايا سابقين لها.
لهذه الأسباب وكثير غيرها، الوطن ليس حرًا والشعب ليس سعيدًا. وملكياتنا العامة نفقدها يومًا بعد يوم كمواطنين فى جمهورية، تصورناها مجرد شركات خاسرة من عهد جمال عبد الناصر، بينما الهواء ذاته سيصبح على وشك التسعير في بلد يمتلك نسبة قياسية من الرصاص في نسيم مدنه.
هذا المستوى المؤلم يفضي إلى طرح سؤال أكثر قسوة عن موقع "الاحترام" من تحديد مواقعنا الاجتماعية، فالمساواة ليست الأصل والاحترام ليس الأساس.
وهذا ما سنتناوله في المقال المقبل.