دائمًا ما كانت الدولةُ في مصر تسبق المجتمع، وبمسافة، على مستويات تعقيد البنية والتنظيم. مهما كانت ظالمة أو متخلفة، تظل هي الأكثر تقدمًا. ولكن هذا جانب واحد من جوانب الصورة. فالدولة أيضًا، تاريخيًا، استثمرت في إضعاف المجتمع، إلى حدود الإلغاء أحيانًا، في بعض المراحل الكئيبة من عمر أمتنا. من غير الممكن الإحاطة بالأسباب والشروط التاريخية لتلك العملية في مقال واحد، ولكن هذا هو وضعنا المصري على أي حال.. وللأسف.
ولكن الأمر تغيَّر كثيرًا في العقد الماضي، إلى حدٍّ لم تعد فيه الدولة حريصة على إضعاف المجتمع بغرض إخضاع حركته، وفقًا لتصوراتها ومخططاتها نيابة عنه وخدمةً لمصالح الطبقات العليا، بل بلغت هي وطبقاتها المهيمنة مرحلة السعي إلى إلغاء المجتمع وتحطيمه، على نحو يعجز فيه عن أي فعل في مواجهة أي تحدٍّ، حتى وإن كان تحديًا معيشيًا مباشرًا.
في العشرية الماضية، حُرم المجتمع من قدراته التنظيمية تمامًا. اعتُبِر المثقفون والمتعلمون خطرًا محتملًا ومستمرًا على النظام العام، بعد اقترافهم "جريمة" الثورة في يناير. أما الفقراء والكادحون الذين يشكلون القوام الأكبر من الشعب المصري، فنُظر إليهم باعتبارهم خطرًا ماديًا يوميًا، يستدعي الردع العنيف الدائم. فالدولة وطبقاتها يعلمون جيدًا كيف تُسبِّب سياساتهم الحالية تعاسة يومية لأغلب المصريين من الفقراء، وكيف تحاصرهم داخل أقبية الكآبة والإذلال.
هنا وبالتدريج، سواء بوعي أو بدون، تحول المجتمع/الشعب إلى عدو للدولة وطبقاتها الحليفة، الذين صاروا يعلنون ضجرهم منه بسبب الخطر الخطابي المحتمل من طبقاته الوسطى، وبسبب وجود الفقير، الذي صار وجوده يشكل في حد ذاته عبئًا على تصوراتهم لبناء دولة تستثني معظم سكانها من نعمها ومغانمها.
والأنكى، أن تصورات وخطابات الدولة وطبقاتها تزداد تطرفًا وعدوانية يومًا تلو آخر، ولا تُبدي اكتراثًا بغالبية السكان ومعاناتهم، وتواظب على تحميلهم مسؤولية أحوالهم السيئة، وهم المجردون تمامًا من أي أداة للتعبير والممارسة، لدرجة خلقت خطابًا أكثر راديكالية لدى المتضررين الجدد من الوضع الحالي، وأغلبهم من أفندية الطبقة الوسطى؛ خطابًا وصلت حدته أحيانًا إلى تشبيه الدولة وطبقاتها الحليفة بدول الاحتلال.
تشارك الدولةُ شعبَها العدو مقاديره مهما سعت للهروب منه ومنها
لكن الفرق أن أي احتلال أجنبي، مهما كان بشعًا، لديه في النهاية خطوط رجعة وأوراق مناورة، آخرها عودته مهزومًا إلى دياره بعد تدمير واستنزاف موارد مستعمراته المحررة، وهو ما لا يتوفر للدولة في مصر. حتى وإن سعت لترك القارب، فلا توجد مرافئ للهروب.
تشارك الدولةُ شعبَها العدو مقاديره مهما سعت للهروب منه ومنها، ما يُصعِّب الأمر على الطرفين. إنها حارة سد، أو قفلة دومينو.
مخاوف الفوضى والسيئ والأسوأ
في حوار مع بعض الصديقات والأصدقاء عن أعظم مخاوفنا وأشدها سوداوية، قالت الأولى إنها تخشى على المصريين من انهيار الدولة والأمن على النحو الذي يفضي إلى صدامات أهلية غير محددة الجهات والمعسكرات.
أما الثاني، فكان قلقًا من أن يؤدي الوضع الاقتصادي وحالة الدولرة إلى المصير اللبناني، مع اختفاء مؤسسات الدولة أو ضعفها وظيفيًا، لأن مصر في رأيه "صفر" دون المؤسسات التي توفر لأغلب الشعب خدمات التعليم والصحة وحتى تنظيف الشوارع، ما سيؤدي في النهاية لأن يصبح الفرد مسؤولًا عن مصيره وفق دخله، وهو أمر مرعب سينتهي إلى انفجار لن يحتمله الداخل والخارج.
أما أنا، فقلت إن أعظم مخاوفي تحقق بالفعل، ومنذ فترة، وهو تشتيت وتحطيم الطبقات الوسطى والمتعلمة في مصر، وما يستتبع ذلك من انهيار ذهني وقيمي ووجداني ومن ثَمَّ اقتصادي، وهذا هو ما يحدث بالفعل منذ أكثر من عشر سنوات. الأسوأ عندي حدث بالفعل، وما سيترتب عليه مجرد تفاصيل ونتائج طبيعية لأسباب اكتملت شروطها.
لكن في النهاية، كانت أبرز مخاوفنا جميعًا فوضى نعجز عن تعريف حدودها، عنوانها العريض انهيار أجهزة الدولة، وهو ما طرح أسئلة أخرى: هل ستحدث هذه الفوضى بين عشية وضحاها، أم ستكون تداعيات عملية بطيئة ومستمرة؟ هل انتهت انتفاضة 28 يناير الشعبية التي استمرت يوم ونصف إلى فوضى كاملة؟ وهل الانتفاضات الشعبية العفوية فقط هي التي يمكن أن تؤدي إلى انهيار أجهزة الدولة، على نحو يفتح الباب إلى صراعات أهلية غير متوقعة المآلات؟
في ظني، فإن الفوضى عملية مستمرة وليست لحظة فاصلة. أنها إدراك متتابع للتردي وتطبيع مستمر معه. فعلى سبيل المثال، يمكننا اعتبار البناء المخالف للقانون أحد أشكال الفوضى الفجة في مصر، لكنه يقينًا لم يحدث فجأة، وفي لحظة محددة من الزمن، بل أدت إليه سياسات طويلة امتدت لعقود، بدأت ببناء دور واحد مخالف بالتواطؤ مع مسؤولي الأحياء، وانتهت إلى أحياء كاملة مبنية بالمخالفة للقانون.
ماذا إذن عن شاب في مطلع عشرينياته، انفتح وعيه على العالم تحت بيادة دولة قمعية انتشرت في ظلها المخدرات إلى حدود مدمرة، تطالب الناس بالتطبيع مع انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة في اليوم، وتعتبر الإنفاق على التعليم والصحة نوعًا من الكسل الاشتراكي؟ شاب كهذا سيخلق تعريفه الخاص للفوضى، يختلف عن ذاك الذي في ذهن أبيه.
هذا التعريف لن يعتبر العنف نوعًا من الفوضى، لأنه الطبيعة الإنسانية كما اختبرها هو.
عالمية الأزمة وكارثيتها في مصر
مصر واحدة من بلدان كثيرة تشكل نصف الكرة الأرضية على الأقل، تخضع لمنطق ونفوذ الرأسمالية المدارة بقوة السلاح الأمريكي المتفوق. ولكن هذه البلدان لا تدور في الفلك الرأسمالي بنفس الكيفية، فمنها القريب من المركز وما يقع على أطراف أطرافه. ونحن لسنا في أفضل موقع بسبب تخلف بنية اقتصادنا واعتماديته وعدم مرونته وافتقاده أدوات المناورة بسبب سلطة الجهل المسلح.
تتفاقم الأزمة بدون تصور لحلها إلا عبر لوم الآخرين لكونهم إما متآمرين ومخربين أو جهلاء غير مؤهلين
من الآن ولسنوات قادمة، سيكون على البلدان التي تشبهنا أن تشتبك مع الشرط المادي التعيس الناتج عن أزمات الركود الرأسمالي العالمي وعدم قدرة المراكز المسيطرة على إدارته، إلا عبر تفجير مزيد من الأزمات والحروب. نحن نعيش في عالم يزداد فيه عجزنا عن توفير المزيد من حاجاتنا الأساسية، كلما حرك الاحتياطى الأمريكي سعر الفائدة بنسبة ربع في المائة، بسبب ارتفاع الدولار أمام عملتنا المحلية.
إن آثار الأزمة الممتدة على البلدان الأكثر تبعية وهشاشة ستكون أشد قسوة بالضرورة. وإذا كانت هذه البلدان تعاني أزمات سياسية واقتصادية، فسيكون الأثر مضاعفًا، ما يجعلها عرضة لتهديدات ربما تهز أركانها حد تهديد بقائها.
وعليه، فإن الاشتباك اللازم مع الشرط المادي الحالي للنظام الرأسمالي يستلزم تحولات عنيفة وجذرية بالتعريف، تعيد تشكيل علاقات السلطة والثروة وإدارة الموارد وتوزيعها، ومعها تحديد الأولويات بما يعيد تشكيل الخرائط الاجتماعية والمصالح المرتبطة بها على نحو جديد تمامًا.
أول هذه الخطوات ستكون عدالة توزيع الأعباء في ظل الأزمة؛ المساواة في الظلم عدل، حسب لغة الميري المصري. ولأنه، مرة أخرى، لا يمكن لثنائية مصر وEgypt الاستمرار في ظل الشروط الحالية المعرضة للتفاقم، لأن نتيجتها الحتمية في النهاية هي الصدام الأهلي، الذي سيتخذ مظاهر وتجليات مختلفة، بصرف النظر عن موقع الدولة وأجهزتها منه.
مشكلة انقطاع الكهرباء الحالية ليست إلا واحدة من مشكلات عدة، ولكنها شديدة الإيلام لأنها تمس الخطوط الحمراء التي حددها المصريون لجودة معيشتهم، السيئة من الأصل: ضمان استمرار إمدادات الماء والكهرباء والغاز، وتعليم الأبناء، وضمان الغذاء المشبع في حدوده الدنيا.
ما أناقشه هنا لا علاقة له بمن هو على رأس السلطة اليوم أو غدًا، فالأزمة الممتدة أقدم من أي نظام، لكنها تفاقمت بعد ثورة يناير ومع النظام الذي تولد عن فشلها، ثم اتضحت تجلياتها على نحو متسارع مع الأزمات السياسية والاقتصادية العالمية.
ربما يرى البعض في قراءتي للوضع، ولا سيما الليبراليون والدولتيون، نوعًا من الشطط اليساري المدفوع بغاياتي الأيديولوجية، بينما الواقع أن العكس هو الصحيح. أصبح الشطط والعناد الأيديولوجي لصيقًا بالجانب الآخر؛ تتفاقم الأزمة بدون تصور لحلها إلا عبر لوم الآخرين لكونهم إما متآمرين ومخربين، أو جهلاء غير مؤهلين للاشتباك مع التحديات الجارية.
أصبح التغيير على نحو جذري ضرورة تفرض نفسها بفعل شروط مادية محضة تتراكم وتتكثف عبر سنوات. انظر كيف تدهورت حياتك ومفرداتها في سنين معدودة، وكيف انحط سقف طموحاتك إلى حدود أصبح معه البقاء، مجرد البقاء، سلعة تقايضك عليها السلطة. وبعد أن كان عنوان المساومة هو الرضوخ والانصياع بدلًا من أن نصبح مثل سوريا والعراق، طُلب منك النظر إلى غزة التي تُباد يوميًا على حدودك.
ربما يقول البعض إنه ليس في الإمكان أفضل مما هو كائن، وإن أي تغيير سيكون نحو الأسوأ بالضرورة، وهو احتمال وارد وبشدة. لكن واقع الأمر أن كثيرًا ممن يُحذِّرون من التغيير لا يخشون الأسوأ، بل من فقدان استفادتهم من الوضع الحالي، والتي هي أكبر من فرصهم في ظل أي بنية جديدة، مهما تدهورت أوضاعهم الحالية قياسًا بما سبق. هنا المصلحة، لا الخوف، هي التي تصيغ الأفكار في الرأس، وتشكل مخاوف الوجدان.
أنا لا أدعو إلى الفوضى، بل إلى أن يسترد المصريون حياتهم. علينا أن نتذكر أن أكثر الأماكن استقرارًا هي قبور الموتى، ولكن ماذا عن مقابر الأحياء؟