أن تكون صحفيًا، يعني بالنسبة لكثيرٍ من الناس أنك تملك إجابة كلِّ الأسئلة!
سألني حسن، حارس العقار الذي أسكن فيه "هنعمل إيه في رمضان يا أستاذ؟"، دون تفكير أجبته "ولا حاجة، العمل عمل ربنا". ضحك من ردّي وتركني وهو يتمتم كلامًا ميّزت منه "يا عبد المعين". انصرف حسن، لكنَّ سؤاله ظلَّ يطاردني؛ هنعمل إيه في رمضان؟ بل هنعمل إيه في بكره؟ هنعمل إيه أصلًا؟
هذه الأسئلة نفسها باتت تطارد ملايين المصريين في ظل غياب المعلومات، الذي يغيّب بدوره أيَّ نقاش جاد حول المستقبل بشأن القضايا البسيطة والكبيرة؛ الرئيس/الحكومة وحدهم يفكرون ويقررون، والكورال من خلفهم يهلل.
حسن رجلٌ عاديٌّ جدًا، أب لأربعة أبناء، يتابع الأخبار من التليفزيون ويقرأ ما تيسَّر من صحفٍ قوميةٍ يصدِّق ما فيها. أتذكر فرحته وأمله عندما حدثني عن الودائع الخليجية، والوعود السعودية والإماراتية والقطرية بضخ استثمارات كبيرة، وتصريحات رئيس الوزراء عن "الفرص الواعدة". صدّق حسن كذلك حديث الرئيس عندما قال قبل عشر سنوات "اصبروا معايا سنتين"، لكنه هذه المرة بدا حزينًا وغير مصدِّق لما قيل عن مشروع "رأس الحكمة".
حُلمُ حسن، كغيره من أبناء طبقته، أن يكمل تعليم أولاده ويزوّجهم "وبعدين أرجع أموت في بلدنا". لا يريد أن يُجبَر أولاده على العمل، مثله، في مهن تحتقرها قطاعات واسعة من المجتمع. "نفسي الواد جمال يبقى مهندس، وإبراهيم دكتور، والبت سها مُدرِّسة، وآخر العنقود ليلى تبقى مذيعة"، يعرف أنَّ أحلامه كبيرة لكنه يثق أنها ليست مستحيلة، وبتحقيقها فقط يرى أنه أتم واجبه في الدنيا.
لا يمكن اعتبار حسن من مؤيدي النظام أو معارضيه، لأنه يعتبر نفسه خارج الصورة أصلًا، ويردد بسخرية دائمًا أنه يمشى "على الحيط" وليس فقط إلى جواره. شارك حسن في كل المناسبات الانتخابية؛ استفتاءات الدستور والرئاسة والبرلمان، لكنه بات يرفض المشروعات العملاقة التي نفذتها السلطة في السنوات الأخيرة "مش الأولى يأكلونا وبعدين يعملوا اللي هما عايزينه".
عندما أتى حسن من الصعيد إلى القاهرة قبل عشر سنوات باحثًا عن عمل، جرَّب الكثير من المهن. ولأنه لم يتقن حرفة، استقر به الحال حارس عقار براتب ألفي جنيه، يصل إلى 3400 إذا أضفنا الإكراميات وشهرية تنظيف خمس سيارات أمام العقار.
أين أرقامنا؟
بهذا الدخل، ينتمي حسن إلى 29.7% من المصريين الذين صنفهم الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء "فقراء"، ولكن بحسبة انتهت صلاحيتها قبل أربع سنوات، في عام 2020. وذلك لأن آخر بحث عن الدخل والإنفاق والاستهلاك ومعدل الفقر، أصدره الجهاز عام 2020، وفيه حدد خط الفقر القومي لأسرة من أربعة أفراد بـ3218 جنيهًا في الشهر، أي 804.5 جنيه للفرد.
وبتقسيم دخل حسن على عائلته المكونة منه وزوجته وأطفاله الأربعة، يبلغ نصيب الواحد منهم 566 جنيهًا.
لا يعلم أحد الآن بالضبط كم من المصريين هبطوا إلى أسفل خط الفقر
هذا البحث، الذي يحدد خط الفقر ويكشف عدد الفقراء ونسبتهم، من المفترض أن يصدر كلَّ سنتين، وذلك بعدما كان يصدر كلَّ خمس سنوات حتى عام 2009. ولكن الجهاز لم ينتظم في إصدار البحثين الأخيرين، إذ صدر بحث 2017/ 2018 في يوليو/تموز 2019، وصدر بحث 2019/ 2020 في ديسمبر/كانون الأول 2020.
لكن البحث الجديد 2021/ 2022 لم يصدر أصلًا حتى الآن، في واقعة لم تحدث من قبل في تاريخ الجهاز إلا مرة واحدة عام 1986. ورغم تصريح اللواء خيرت بركات رئيس الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في أغسطس/آب الماضي بأنَّ البحث سيصدر في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023، فإن ذلك لم يحدث، على الرغم من أهميته لواضعي السياسات.
وعلى أي حال، لم يعد ممكنًا الاعتماد على آخر نسخة منشورة من البحث لتعيين خط الفقر وقياس معدلاته بشكل جاد. فالتقرير الأحدث، الصادر في 2020، تجاوزه الزمن بعد ارتفاع الأسعار بشكل كبير على وقع انخفاض قيمة الجنيه "رسميًا" من نحو 15.6 جنيه للدولار في سنة إصدار البحث، إلى أكثر من 48 جنيهًا الآن، بالإضافة إلى ارتفاع التضخم وأثر الحرب الروسية الأوكرانية.
متوديناش في داهية
مصدر مطلع على عملية إصدار الأبحاث السابقة، تحدث لي طالبًا عدم نشر اسمه، نفى بشكل قاطع أن تكون هناك أسباب فنية وراء عدم صدور البحث الأخير، قائلًا "أكيد فيه أسباب تانية بس أنا مقدرش أقولها". كلمة "أسباب تانية" فتحت الباب أمام تساؤلات كثيرة طرحتها عليه، "هل نسبة الفقر هي السبب؟ هل هناك جهة ما تعطل صدور البحث؟ هل هناك مَن يملك سلطة تعطيل إصدار البحث؟".
قال مصدري إن الإجابة على هذه الأسئلة "ممكن تودينا في داهية"، وأضاف، بعد التأكيد على عدم نشر اسمه مرة ثانية، أن المرة الوحيدة التي لم يصدر فيها البحث كانت سنة 1986، لافتًا إلى أنه حتى في سنة ثورة 25 يناير صدر بحث 2010/2011، وفي سنة الإضرابات التي شهدتها البلاد في عهد الإخوان صدر بحث 2012/2013. وبالتالي، والكلام للمصدر، "لا يوجد مبرر فني لتعطيل إصدار البحث".
ورجح المصدر أن تكون نسبة الفقر هي التي تعطل صدور البحث حتى الآن، مستنكرًا، "أنا مش فاهمهم. هم اللي بيعلنوا نسبة التضخم، وطالما بترتفع يبقى عدد الفقراء بيزيد. يبقى ليه يتفاجئوا أو يتضايقوا؟".
يُعد تأخر صدور البحث مخالفة للدستور، الذي نص على أن "المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة، حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية..".
وفي أبريل/نيسان 2020، أي قبل ثمانية أشهر من صدور بحث الدخل والإنفاق 2019/ 2020، نقلت صحيفة البورصة عن مصادر أسمتها "ذات صلة"، أنه تم الانتهاء من مراجعة وتدقيق المؤشرات النهائية لبحث الإنفاق والدخل منذ فبراير 2020، إلا أن "ارتفاع معدل الفقر أدى إلى اعتراض جهات عُليا على النتائج لتعارضها مع الإنجازات التى قامت بها الدولة خلال العامين الماضيين".
قد يكون هذا هو السبب وقد لا يكون. ولكن ستبقى الحقيقة أن لا أحد يعلم الآن بالضبط كم من المصريين هبطوا أسفل خط الفقر، ولا أين موضع حسن وأسرته منه. فعندما أُعلن أنَّ خط الفقر القومي للأسرة المكونة من أربعة أفراد هو 3218 جنيهًا شهريًا، كان ذلك قبل أن تظهر تداعيات فيروس كورونا والحرب الروسية الأوكرانية. فالنسب في بحث الدخل والإنفاق الأخير تعلقت بالفترة ما بين النصف الثاني من 2019 ونهاية فبراير/شباط 2020.
ووفقًا لدراسة أعدها "المركزي للتعبئة والإحصاء" عن تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على نمط الاستهلاك، وصدرت في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، نجد أن 74% من الأسر خفضت استهلاكها للسلع الغذائية. إذ خفضت 90% من الأسر استهلاك البروتينات، فيما خفض 74.7% استهلاك الأرز، ونحو 70% خفضوا شراءهم للبيض والزيت والفاكهة، وأشارت بيانات الدراسة إلى أن "سبب انخفاض استهلاك الأسر يرجع إلى ارتفاع أسعار السلع كسبب رئيسي".
أما عن أحدث الأرقام المتعلقة بالرقم القياسي لأسعار الطعام في العامين السابقين، فيرصد الجهاز المركزي قفزةً كبيرةً، إذ وصلت نسبة الزيادة من يناير 2023 حتى يناير 2024 نحو 47%، فيما بلغت نسبة زيادة اللحوم والدواجن 48.2%، والأسماك والمأكولات البحرية 58.5%، والخضروات 68.1%.
غابت المعلومة فحضرت التكهنات
في ظل عدم وجود إجابة رسمية عن عدد الفقراء في مصر، تصدت هبة الليثي أستاذة الإحصاء بجامعة القاهرة ومستشار الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، لغياب المعلومات، وأعدت دراسة مستقلة استنادًا إلى نموذج إحصائي، تطبيقًا على قاعدة بيانات الأسر التي استندت إليها آخر نسخ البحث، بالإضافة إلى نتائج الاستطلاع الذي كان أجراه الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء على نمط إنفاق الأسر في يوليو 2022.
توصلت دراسة هبة الليثي إلى أن مستوى الفقر في عام 2022/ 2023 ارتفع إلى 35.7%، معتمدة على أنَّ "التضخم هو العامل الأساسي وراء ارتفاع معدل الفقر".
هذا التضخم سيكون له تأثير كبير على حسن ومن مثله؛ فالفقر مرتبط بعدم التنوع الغذائي، بالتالي تنتشر بين أطفال الأسرة الفقيرة أزمات صحية تتعلق بسوء التغذية، مثل النحافة والتقزّم.
وتُشير هبة الليثي خلال ندوة عقدها مشروع حلول للسياسات البديلة، بالجامعة الأمريكية في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إلى أن الإحصائيات ترصد أنَّ 23% من فقراء مصر ينفقون أكثر من 10% من دخلهم على الصحة. ووفقًا لمعايير منظمة الصحة العالمية فإنّ نسبة الـ10% فأكثر تُعد مؤشرًا على تدهور الوضع المعيشي بما لا يسمح بالحصول على التأمينات الصحية.
والفقر أيضًا مرتبط بمستويات التعليم المنخفضة. تشير الإحصائيات إلى أن 9.4% فقط من الحاصلين على التعليم الجامعي من الفقراء، في حين أنّ نسبة الفقراء من الأميين تصل إلى 35%.
لا يستحق حسن وأسرته ما ينتظرهم في المستقبل، فهو واحد من ضحايا الدعاية الحكومية التي بشَّرته بمستقبل أفضل، وظلت تردد عليه الوعود الرئاسية بالصبر، من أجل أن "يشوفوا العجب".