تُعرَّف الطبقة بشكل معجمي خفيف، بأنها مجموعة الأفراد الذين يتشاركون الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي أو السياسي أو التعليمي.
اعتقد كارل ماركس أن "الطبقة" بمعناها المعاصر تُعرَّف في المبتدأ والمنتهى والتحليل الأخير من خلال علاقة الفرد بوسائل الإنتاج وموقعه داخل علاقات الإنتاج الرأسمالية، في حين ناكفه ماكس فيبر بتصور يشمل المستويات الرمزية كالمكانة والتقدير، اللذين رأى فيهما أكثر من مجرد موقع داخل علاقات الإنتاج الرأسمالية، وإنما وضع ينبثق من مواقع الشرف والحيثية، وخلفهما القوة بالطبع. ثنائية الجنيه والكارنيه مثلًا في حالتنا المصرية البائسة، وكذلك المستوى الرمزي لقوة رجال الدين والقبيلة من دون امتلاك ثروة تكافئ هذه المكانة بالضرورة.
لكن عند بيير بورديو، المكانة في الطبقات الاجتماعية أكثر غموضًا من تلك التي عند ماكس فيبر. فالرساميل عنده أنواع؛ منها رأس المال الاقتصادي الذي يتشكل كأصول قابلة للتحويل إلى أموال مضمونة كملكية خاصة، وكذلك رأس المال الثقافي الشخصي المتمثل فيما يحوزه الفرد من تعليم رسمي و معرفة، وأيضًا رأس المال الثقافي العام من فنون وآداب ومشتركات عامة متراكمة.
وكذلك بالطبع رأس المال الثقافي المؤسسي الذي يتجلى من خلال مراتب الاحترام و الألقاب، والتي في حالتنا تعبر عن نفسها من خلال ألقاب الأسطى والأستاذ والدكتور والهانم والبيه والباشا، حتى ولو تم إلغاء اللقبين الأخيرين وأصبحنا جميعًا في نظر "القانون" سيد وسيدة.
مات بيير بورديو عام 2002 فحرمه الزمن من تأمل تراكم رؤوس الأموال "الافتراضية" وكيف أن هناك رأس مال معاصر يطلق على أبرز مراكميه اسم المؤثرين/ إنفلونسرز.
لكن في كل الأحوال أرى أن أغلب المهمومين يحاججون كارل ماركس ويشتبكون معه، إما لاستكمال ما طرحه أو هربًا من وطأة وثقل ما قدمه، على طريقة أن ما تطرحه هو شرط رئيسي وليس "الشرط الوحيد"، أو هو محض عامل من بين عدة عوامل. ما زال كارل ماركس عندي منتصرًا حتى الآن، و لربما حتى ينتهى الشرط المادي لنظريته هو.
في مقدمة الضحايا ومؤخرة الفاعلين
اهتز الاقتصاد العالمي في خريف عام 2008 ولكنه نهل من ثرواته المتراكمة والمستقبلية كي يدفن الأزمة في الرمال. لم تمُت الأزمة ولم تُدفن في الرمال ولم تُحاسَب النظم والمؤسسات المالية "العالمية" التي صنعت الكارثة، ما دُفن هو يقظة الأذهان وإرادة المواجهة الجادة سياسيًا ومعرفيًا.
وفي الأثناء اندلعت انتفاضات وثورات في بلدان العالم الأكثر فقرًا، لتتجدد بعدها الأزمة مرة أخرى بصورة أكثر كلاسيكية وأُلفة مع ميراث التاريخ الإنساني حيث الأوبئة والحروب واعتلال البلدان والمجتمعات بعلات تحتاج إلى الكثير من الحسم والصراع والتداوي من رفاهية الإنكار.
عادةً وتاريخيًا يعلو الحديث عن الصعود والانهيار الطبقيين فى أزمنة الأزمات الاقتصادية والمِحن التى تصاحبها، ولكن في زمن الأزمات المتراكمة التي تترافق معها انهيارات مالية وحروب لها طابع عالمي، يعلو الحديث إلى حدود الصراخ والعويل.
الموقع داخل الهرم الاجتماعي شيء ومدى تقدمية أو رجعية هذا الموقع داخل المجتمع كله ومسيرته عبر الزمن شيء آخر
فالأبنية والتصورات التي تُشكِّل المراتب والمقامات تتعرض لشك كبير، ويدرك أغلب الناس أن مواقعهم أضعف بكثير مما تخيلوه رسوخًا مستحقًا ومتراكمًا. والشكوك في لحظتنا التاريخية هذه بالذات أكثر ترويعًا وقسوة من أي شكوك مضت، لأنها جاءت لمساءلة عالم اعتبر نفسه نهاية للتاريخ وتتويجًا لنجاح أبدي لنمط الانتاج الرأسمالي واستدامة مسيرة من الرخاء والبحبوحة والنمو اللا نهائي. والأهم من ذلك كله كونه عالمًا مستقرًا يسوده السلام، أو بمعنىً أدق السلام الذي تنعمت وانفردت به دول الشمال الرأسمالي من بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
بشر زائلون وطبقات باقية
الصعود والهبوط للمنتمين داخل طبقة اجتماعية بعينها لا علاقة له بوجود الطبقة نفسها، فالطبقات بتراتبياتها موجودة بصرف النظر عن استدامه وحركة الأفراد دخولًا وخروجًا منهًا. يمكن للطبقة الوسطى مثلًا أن تبقى بشكل يحفظ لها ملامح وسمات أساسية وسط عملية تشكيل وإعادة تشكيل لقوامها المادي بشكل مستمر، لذا يمكن أن تبقى "التقاليد العامة للطبقات" بينما يتغير أعضاؤها من البشر. وكلما كانت المجتمعات أكثر تقدمًا كلما كانت هذه التقاليد أكثر رسوخًا.
لكن الطبقة ليست مجرد موقع داخل الاجتماع فهي أيضًا موقع من الزمن. الموقع داخل الهرم الاجتماعي شيء ومدى تقدمية أو رجعية هذا الموقع داخل المجتمع كله ومسيرته عبر الزمن شيء آخر. ومواقع الطبقات من الأزمنة والاجتماع تحددها عوامل كثيرة، أنماط الاستهلاك ليست إلا واحدة منها. والأصل أن التطور الرأسمالي آخر مئتي عام أحدث تزايدًا في الثروة العامة، أنتج معه حراكات اجتماعية لا تتوقف، صعدت بفئات اجتماعية إلى أعلى ما كانت عليه بعد أن غيرت من طبيعة بعضها كليًا.
لكن الرأسمالية أيضًا لها دورات، الصعود فيها عملية تاريخية تتخلله حلقات من الارتداد والارتجاج، والتحسن الكلي التاريخي في الأحوال الاجتماعية للبشر على مستوى عموم الكوكب لا يعنى أن التراتبية الاجتماعية ذاتها في زوال، لأنها تنحى طول الوقت إلى إعادة إنتاج نفسها باستمرار على المستويين المادي والرمزي، وذلك عبر خلق وتشكيل حاجات ومكانات جديدة يتم حفرها في وعى الإنسان مع الزمن.
وهذه العملية تحتاج إلى تعريفات جديدة كتعريفات البرمجيات وتحديثاتها، شفرات مستمرة تعيِّن المواقع والحدود والخطوط الحمر والمناطق الخضراء. نحن في مصر مثلًا نستخدم ألقاب البيك والباشا والهانم والأستاذ، لكن دلالات هذه الألفاظ اختلفت مع الزمن على الرغم من استمرار دورها المركزي كتعريفات لمراتب اجتماعية.
وفي بلدان مبتسرة التحديث كبلداننا العربية ومصر في قلبها، يعاني اجتماعنا الطبقي من جملة أزمات تحتاج كل منها إلى إسهاب يليق بحمولاتها الثقيلة؛ أزمات السيولة الاجتماعية التي تمنع التشكل الاجتماعي وإنضاجه، ومعها أزمات التراكم المبتور ماديًا ورمزيًا التي ترافق بدورها أزمات تواضع السيادة الحضارية للطبقات المهيمنة ماديًا، ومعها أزمات الانقطاع اللاحقة لعملية بتر التراكم، والتي تتخللها فترات من الانحطاط المديد في بعض الحالات، وفوقهم جميعًا أزمة احتراف إنكار الأزمات و إدمان التواطؤ. والتواطؤ هنا كلمة شديدة التهذيب قياسًا بالوصف الذي يليق بالحالة.
تساءل بعض المغردين المصريين في الأيام الأخيرة بعد انهيار الجنيه المصري أمام الدولار؛ هل من يركب الميكروباص الآن بعد أن اعتاد التنقل بسيارة خاصة نزل من طبقته الاجتماعية؟ حسنًا، هذا المقال الاستهلالي أعتبره مقدمة ضرورية قبل الخوض في مسألة الذين صعدوا إلى الطبقة والذين هبطوا منها.
من الذي صعد ومن الذي هبط؟ كيف ولماذا، وما هو موقع ركوب الميكروباص من هذه المسألة؟ وما هو مقياس الجدارة الاجتماعية في مصر المعاصرة، وكذا مراتبياتها في ضوء موقع الجنيه والكارنيه والأفندي منزوع المواطنة منها؟ وهل نحن في أثناء الرحلة أطحنا عن عمد برأس ماركس وفيبر وبورديو بضربة فأس واحدة من يد فلاح لم يعد فصيحًا؟ أم أن صنيع أيدينا لم يكن كافيًا لتقرير مصيرنا فوضعتنا الأقدار في ذيل عالم مأزومة مراكزه، وقد قررت تلك المراكز أن تُحصِّل منَّا أثمانًا غالية، لقاء صراعات نحن فيها الطرف الأضعف دائمًا؟
هذا ما سأخوض فيه في مقالات مقبلة إن شاء الله.