تصميم سيف الدين أحمد، المنصة 2025
التفاوت الطبقي في التعليم

تحولات الفردانية والعنف| التمييز في الصغر كالنقش على الحجر

منشور السبت 31 مايو 2025

يحكي لي صديق يتولى منصبًا في أحد مراكز التأهيل التابعة لوزارة هامة في دولة عربية، كيف لاحظ فجوة واضحة على مستوى التعامل والفهم المشترك، بين أفراد الدفعة الحالية من الملتحقين بإحدى الوظائف، وعددهم 60 شخصًا، كونهم خريجي خمسة نظم تعليمية مختلفة، وبينهم ثلاثة أتموا تعليمهم في دول أجنبية.

عدم قدرة هؤلاء الزملاء حتى على فهم نكات بعضهم البعض أثناء الراحة، كإحدى تمثلات حالة الفردانية التي تحدثت عنها في المقال السابق، إنما تُلقي الضوء على دور المؤسسات التعليمية في ترسيخ التفاوت الطبقي. ففي ظل النظام الاقتصادي الراهن، تحوَّل التعليم من أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية أو خلق فرص متكافئة، إلى مرآة للفوارق الطبقية وأداة لإعادة إنتاجها. 

خلال العقود التي سبقت هيمنة النموذج الاقتصادي النيوليبرالي على المنطقة العربية، كان التعليم من أهم روافع الحراك الاجتماعي، وأداةً مركزيةً لدمج الأفراد في المجتمع. وطالما نُظر إليه بوصفه مشروعًا وطنيًا يهدف إلى توسيع قاعدة الطبقة الوسطى، وتوفير فرص متكافئة للترقي الاجتماعي. لم يكن مجرد وسيلة لإكساب المهارات، بل أيضًا قناة للتفاعل الثقافي والاجتماعي، حيث اجتمع أبناء الطبقات المختلفة في المدارس والجامعات العامة والحكومية، ما خلق قدْرًا من الفهم والتشارك.

هذا التفاوت لا يرتبط فقط بالجودة والمناهج، بل يُترجم لاحقًا إلى فروق هائلة في فرص العمل

في مصر مثلًا، مكَّن نظام التعليم في الخمسينيات والستينيات أبناء الطبقات الفقيرة من الوصول إلى وظائف مرموقة في الدولة، بل والانخراط في مؤسساتها كمواطنين كاملي الأهلية. وكان ذلك جزءًا من رؤية تنموية شاملة ترى في التعليم العام استثمارًا في المجتمع بأكمله، لا مجرد خدمة فردية.

ولكنَّ التعليم الذي شكّل في السابق جسورًا بين فئات المجتمع، وأسهم في تحقيق شيء من التوازن والعدالة في توزيع الفرص، تآكل اليوم لصالح أنظمة تعليمية متعددة الطبقات، تُعيد إنتاج التفاوت بدلًا من تجاوزه.

لم يعد بإمكاننا الحديث عن نظام تعليمي واحد، بل أنظمة موازية تعكس موقع الفرد الطبقي وتعيد ترسيخه. ومصر في ذلك ليست استثناءً، ففي المحيط العربي لا نرى الكثير من الصداقات العابرة للطبقات بين طلبة المدارس، في تعزيز للعزلة الاجتماعية. وبدلًا من أن يكون التعليم مصدرًا للحراك الاجتماعي، أصبح ختمًا طبقيًا.

في مصر يظهر هذا التفاوت بوضوح ما بين تعليم حكومي متدهور من حيث الجودة والتمويل، يلتحق به غالبية أبناء الطبقات الفقيرة والريف، وآخر تجريبي يستوعب من هم أعلى منهم قليلًا، ثم تعليم خاص "محلي" يقدِّم خدمة متوسطة للطبقة الوسطى، ثم تعليم الإرساليات الخاص للفئة الأعلى، فالتعليم الدولي مرتفع الكلفة لأبناء الشرائح العليا.

هذا التفاوت لا يرتبط فقط بالجودة والمناهج، بل يُترجم لاحقًا إلى فروق هائلة في فرص العمل والقدرة على التواصل مع السوق العالمي. بل إن الجامعات الحكومية نفسها تعيد إنتاج هذا الانقسام عبر أقسام "اللغات" التي تمنح خريجيها ميزات غير متاحة لغيرهم.

في بلد مثل لبنان، يظهر التعليم في ظل الهشاشة كأداة ترسيخ للوضع القائم وتعميقه عبر الأجيال، حيث تتشابك الأزمة التعليمية مع البنية الطائفية. فحسب تقرير اليونيسف طفولة محرومة وأحلام مسلوبة، الصادر عام 2022، فإن 30% من الأطفال اللاجئين غير ملتحقين بأي نظام تعليمي.

صورة عدلتها المنصة لسليمان عيد وعلاء ولي الدين وحسن حسني من أحد مشاهد فيلم الناظر (2000)، إخراج شريف عرفة

في المقابل، تُهيمن المدارس الخاصة المرتبطة بمناهج فرنسية أو أمريكية على تعليم النخبة.

ويكشف تقرير صادر عن الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية عام 2021، أن 60% من طلاب المدارس الدينية لا يختلطون مع أقرانهم من طوائف أخرى حتى سن الجامعة.

مع هذا الواقع، تفقد المدرسة وظيفتها كمكان للاندماج الاجتماعي، وتتحول إلى أداة لإعادة إنتاج التمايزات.

في كتاب Life as Politics، يوضح آصف بيات، كيف يدفع الاغتراب الناتج عن التفاوت الشباب إلى التمسك بهويات فرعية كملاذ. فالعدالة هنا لا تعني فقط توزيعًا متساويًا للموارد، بل تأمين شروط إنصاف حقيقية.

على سبيل المثال زاد التفاوت في الحصول على التعليم خلال جائحة كورونا، وفق دراسة منتدى البدائل العربي، نتيجة للفجوة الرقمية، إذ توصلت الدراسة إلى أن 89 مليون طفل في عمر 3 إلى 17 سنة، أي 75% من أطفال الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تعوزهم شبكة إنترنت منزلية.

في المقابل، من وُلد في بيئة تتيح له تعليمًا جيدًا، يملك الأدوات التي تجعله يُعيد إنتاج امتيازاته. هكذا يتحول التعدد التعليمي من تنوع، إلى ظلم مُؤسسي يزيد من حالة الانعزال من جانب الفئات المستفيدة وحالة اغتراب على الجانب الآخر من المجتمع. وهما الحالتان اللتان تقودان إلى تكوّن شخصيات فردانية، تبحث عن النجاة الفردية أو الترقي الفردي، ولو على حساب الآخرين.

وإذا أضفنا تأثير الثقافة خارج التعليم، سنجد أن المسارح والسينمات وقنوات التليفزيون القومية خلال العقود الماضية، كانت تُشكِّل فضاءات مشتركة لتلقّي الفن والدراما. كنا نشاهد نفس المسلسل في نفس التوقيت، فنتناقش حوله في المدرسة أو العمل، ونضحك على نفس النكات ونبكي على نفس المصائر. لكن اليوم، ومع تعدد منصات عرض الدراما، صار كل فرد يشاهد ما يشاء، وقتما يشاء، وباللغة التي يريد، وأحيانًا وحده تمامًا.

هذا التعدد، مع الاعتراف بما يتيحه من ثراءً ثقافيًا وفرصة لتنوّع الذائقة، يعزز حالة الانعزال ويكرّس فردانية المشاهدة ويُضعف التجربة الجماعية للفن، خاصة تلك التي كانت في قاعات السينما والمسرح. كل شخص لديه قائمته الخاصة/Watch List التي لا يشاركها أحدًا. بل أنك قد تجد أفرادًا في نفس البيت يشاهدون محتوى مختلفًا على أجهزة مختلفة في الغرفة ذاتها.

حتى بين مَن يتشاركون سنة الميلاد ذاتها، لم تعد هناك مرجعية فنيّة متفق عليها: أحدهم يتابع المسلسلات التركية المدبلجة، والآخر مشغول بدراما كورية، وثالث يتابع الإنتاجات المحلية أو العربية، وآخرون يعيشون مع الدراما الغربية. هذا التشظي لا يخلق فحسب فجوة بين الأجيال، بل أيضًا فجوة أفقية بين أبناء الجيل الواحد.

وبهذا يغدو الفن، بدلًا من أن يكون وسيلة لخلق حوار جماعي، مجرد محتوى شخصي يُستهلك في عزلة. وإن كان ذلك تعبيرًا عن حرية الاختيار، فهو كذلك يعكس نمطًا من التلقي الفردي يعمّق من الاغتراب والعزلة ويفكك روابط الانتماء الثقافي المشترك.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.