
فانتازيا التطهير الطبقي| لماذا ينجب الفقراء؟
في غرفةٍ متواضعة جدرانُها باهتةٌ بلونٍ ترابيٍّ، ونافذتُها الوحيدة معدنيّةٌ بلا ستائر؛ يتسلل ضوءٌ خافتٌ من لمبة نيون صغيرة مُعلّقة على مسمار في السقف المتشقق، لنميَّز فرشةً متهالكةً على سريرٍ ضيِّقٍ بجوار الحائط، فقط ثلاث فتيات صغيرات نائمات جنبًا إلى جنب، في مساحةٍ لا تتسع لأحلام الطفولة.
تقف الأم بجوار السرير، تنادي بنبرةٍ واهنة تحمل استعجالًا معتادًا "بسملة.. بسملة.. اتأخرنا، يالا قوموا". تُتمْتم الطفلة من تحت الغطاء، بصوتٍ متحشرج يمتلئ بالضجر والانهاك: سيبيني شوية. تربت الأم على كتف ابنتها وتقول بلطفٍ يمزج الشفقة بالعجلة "معلش يا حبيبتي.. معلش"، ثم تبدأ في إيقاظ البنتين الأخريين، لتُلبِّس الثلاثَ على عجل، ثم تُمسك كشافًا صغيرًا تضيء لهنُّ به طريق الخروج من البيت في صمتٍ مشوبٍ بالتعب إلى عتمة منتصف الليل.
هكذا يبدأ يوم العاملات في حقل الياسمين، قبل أن تشرق الشمس، في قرية مصرية تُصدِّر العطر وتحتفظ برائحة الفقر.
في حقل الياسمين بمحافظة الغربية، وسط زهورٍ تُقطف لتُسكب في قوارير فاخرة تُباع بآلاف الدولارات، تضحِّي هذه الأسرة بساعات النوم وراحة الجسد، لتشتري بالكاد يومًا جديدًا من البقاء، فالحياة لا تمنحهم سوى فتات العيش بالكاد.
هناك من يشاهد هذا المشهد، وأول ما يخطر في باله هو أن يسأل مستنكرًا عن أسباب إنجاب هذه الأم ثلاثَ بناتٍ إن لم تكن قادرةً حتى على تركهنَّ ينعمنَ بنومٍ هادئ على فراشهنَّ البالي.
ما يبدو مشهدًا شخصيًا في هذه الغرفة الفقيرة المزدحمة، هو نتاجُ منظومةٍ أوسع تتكرّر فيها القصة ذاتها مرّات لا تُحصى في القرى والمناطق المهمّشة. فحين تُسخَّر الطفولة للعمل، ويصبح النوم ترفًا مؤجلًا، يكون السؤال الذي ينبغي طرحه: ما الذي يدفع أسرةً بأكملها أن تبدأ يومها قبل أن يبدأ الضوء؟
البحث عن شبكة أمان
تقوم البنية الاقتصادية في مصر على عمالة كثيفة في مهنٍ تعتمد على المجهود البدني، مقابل أجور منخفضة. فمثلًا، تحتل الزراعة مكانةً مركزية في الاقتصاد المصري؛ فهي تستوعب 25% من إجمالي القوى العاملة في البلاد، وترتفع هذه النسبة إلى 30% من العمالة في الريف. ولا يختلف الحال كثيرًا في المدينة. ففي حيٍّ مثل منشية ناصر، يعيش أكثر من ربع مليون مواطن يعتمدون على العمل اليدوي الشاق في جمع وفرز القمامة.
هنا، يصبح الجسد البشري نفسه وسيلةَ الانتاج الأساسية. ولأن ساعات عمل الفرد هنا تقل بتقدم السن، وبالتالي دخول الأُسر؛ لا يعود إنجاب الأطفال ترفًا أو فعلًا غريزيًا غير محسوب، بل جزءًا من آليات البقاء وضرورةً مُلحَّة لاستدامة الدخل.
ويزيد من ضرورة الإنجاب هنا أن مظاهر التكافل الاجتماعي الكثيرة في البيئات الفقيرة، من تبادل الخدمات إلى الاقتراض من الجيران على شكل جمعيات، مرورًا بتقاسم الطعام ورعاية الأطفال، على أهميّتها؛ لا تُنتج شبكات دعم متماسكة أو رأسمال اجتماعي فعَّال بإمكانه الصمود أمام الهزات الاقتصادية. حيث يتطلَّب تكوين شبكة دعم حقيقية فائضًا في الوقت، والدخل، والطاقة النفسية. وهذا الفائض نادر جدًا في بيئات الفقر، حيث يركض الجميع لتأمين الحدّ الأدنى من البقاء.
في دراسة صدرت عام 2016 عن "السكان والتنمية في دول الساحل الإفريقي"، يذهب البنك الدولي إلى أن الأسر ذات الدخل المنخفض تنظر إلى الأطفال كمصدر أمان لدعمهم أثناء الشيخوخة في غياب أنظمة الحماية الاجتماعية الرسمية. علاوة على ذلك، تُظهر دراسة متخصصة أن 75% من المسنين الأفارقة لا يملكون سوى أطفالهم كشبكة أمان وحيدة.
في هذه الظروف، لا يبقى أمام الأسرة الفقيرة سوى التعويل على ذواتها. الأبناء، هنا، لا يُنظر إليهم كأعباء محتملة في المستقبل، بل كامتداد لشبكة الأمان الوحيدة المتاحة. و"العزوة" ليست فقط رمزًا للتماسك أو الفخر الاجتماعي، والإنجاب ليس دومًا "رغبة فردية"، بل آلية حماية، فكل فرد جديد في الأسرة هو، عمليًا، يدٌ إضافيةٌ تساعد، وجدار سند محتمل، ليس فقط لسدِّ فجوات الدخل، بل لتحقيق شكلٍ من الاستقرار النفسي والشعور بالأمان عند التقدُّم في العمر، أو إذا اشتد المرض.
وهكذا، تتشكل العائلة الكبيرة ليس بوصفها بنية تقليدية أو ثقافية فقط، بل كآلية تعوِّض غياب الدولة التي تسبب القمع المزدوج للفقراء. ففي مجتمعات لا توفّر مؤسسات الدولة فيها رعاية كافية لكبار السن، ولا أنظمة تقاعد عادلة، ولا حماية صحية أو نفسية في حالات الطوارئ، ولا رأس مال اجتماعي يمكن الركون إليه، يصبح الأبناء هم المعاش.
مقاومة الموت
ولا يرتبط الإنجاب في البيئات الهشة فقط بحاجة الأسرة للدعم، بل يتقاطع أحيانًا مع مشاعر الخوف من الفقد، خاصة عندما تكون معدلاتُ وفيات الأطفال، أو إصابتهم بأمراض مزمنة في سنٍّ مبكرةٍ، مرتفعةً.
وفي مصر، لا تزال المخاطر الصحية التي تهدد الأطفال في بيئات الفقر حاضرة بقوة؛ فالتقزّم يصيب واحدًا من كل أربعة أطفال دون الخامسة. ويعاني نحو 10% من الأطفال من الهزال وسوء التغذية الحاد، حسب يونيسيف.
الفقر لا يولد من رحم الإنجاب، بل من رحم النظم التي تضمن أن يبقى العائد الاقتصادي حكرًا على قلّة
في هذا السياق، يظهر ما يُعرف في الأدبيات السوسيوديموغرافية بأثر الإنجاب التعويضي/replacement hoarding effect، وهو نمط تتبناه بعض الأسر الفقيرة بإنجاب أكبر عدد من الأبناء، تحسّبًا لفقد بعضهم. هذا النمط ليس استثناءً محليًا في مصر، بل جزء من مسار ديموغرافي يتكرر حول العالم.
وتشير الدراسات إلى أن الانتقال الديموغرافي؛ أي التحول من بيئات مرتفعة الخصوبة والوفيات إلى بيئات منخفضة في كليهما، لم يحدث في الدول الصناعية إلا بعد تحسّن فرص بقاء الأطفال على قيد الحياة. بعبارة أخرى، فإن انخفاض معدلات الإنجاب لم يسبق تحسّن فرص النجاة، بل تلاه كنتيجة.
هذا النمط إذن ليس حالة "عدم وعي"، كما يصوّره البعض، بل استجابة لبيئة لا يمكن فيها التنبؤ بالمستقبل، ولا يضمن فيها أحد أن الطفل المولود سيبقى حيًا أو معافى. وبالتالي، يتداخل الفقد المحتمل مع قرار الإنجاب، ويتحوّل الجسد، مرة أخرى، إلى وسيلة لإعادة إنتاج الأمان، حتى لو كان ذلك مشروطًا بالألم.
المعنى للنساء
في مجتمعٍ يمنح النساء اعترافًا وأهليةً اجتماعيةً وبعض الحماية بشرط الأمومة. وتحت وطأة الفقر، وانعدام الفرص، وتزايد معدلات العنف ضدهنَّ، لا تجد كثير من النساء خيارات واقعية يمكن أن تمنحهن قيمةً أو اعترافًا من المجتمع المحيط إلا بالإنجاب. تشير الدراسات إلى أن النساء في الطبقات الأفقر معرضات لضِعف ما تواجهه النساء الأخريات من عنف.
وحتى في سياقات مغايرة ثقافيًا، يتكرر أن تكون الأمومة ملاذ المهمشات. ففي دراسة أجرتها الباحثتان كاثرين إيدين وماريا كيفالاس عن أهمية الإنجاب بالنسبة لمحدودات الدخل في الولايات المتحدة، عبّرت امرأة عن الواقع بوضوح قائلةً "الزواج رفاهية، شيء نتطلع إليه، لكن الأطفال ضرورة، جزء أساسي من حياة المرأة هنا، المصدر الرئيسي للهوية والمعنى".
رهان الترقّي
كثيرًا ما يحمل الأبناء "رهان الحياة" بالنسبة لأسرهم. وليس غريبًا أن يتمنى الأب أن يرى في ابنه ما لم يُتح له، أو أن تصرّ أم على تعليم ابنتها أملًا في مستقبل مختلف. الأطفال هنا لا يكونون فقط وسيلة للحماية، بل نافذة صغيرة على احتمال آخر، على تعويض رمزي للحرمان، وعلى مدِّ حلم انقطع.
في بحثها عن نماذج ناجحة من عزبة الزبالين، وجدت اليوم السابع الصيدلي أمين صادق، الذي حرص أبوه على أن يكمل تعليمه "والدي يعمل في إعادة تدوير البلاستيك، وكنت أساعده أيام الإجازات (..) من صغري كنت بحلم أفتح صيدلية في منطقتنا وفعلاً حققت ده". وكذلك رزق يوسف حنا الذي ساعدته دراسة الحقوق والآداب في توسيع نطاق عمل أبيه من جمع القمامة إلى إدارة مصنع لإعادة تدويرها؛ "أبي أراد كسر تلك القاعدة، وأصر على تعليمي كما قال 'يا بني أنا هاعملك علشان تبقى حاجة تانية وما يبقاش كلنا زبالين'".
تتكرر مثل هذه القصص في آلاف البيوت، لتكشف كيف ترى الأسر الفقيرة في أبنائها امتدادًا لحلم لم يحققوه هم. النجاة المرجوّة هنا ليست شخصية فحسب، بل تمتد إلى محاولة منح العائلة فرص حياة أفضل. لكن هذه القصص لا تلغي قسوة الواقع، ولا تعفي المنظومة من مسؤوليتها عن إنتاجه، لكنها تفسّر لماذا لا يتوقّف الأهل عن الحلم، رغم كل شيء.
لا يحلم الأهل لأنهم يراهنون على المعجزات بسذاجة الأطفال، بل لأنهم يعرفون أن الحياة، أحيانًا، تمنح بعض الفرص، ويريدون أن يكون أبناؤهم جاهزين لها. ليس بالضرورة بحثًا عن نجاة شخصية، بل أملًا في أن يحظى من يحمل جزءًا منهم بداخله بفرصة لحياة أفضل.
بطبيعة الحال، لا يمكن اختزال وحصر دوافع الفقراء في الإنجاب في تفسيرات مادية أو ديموغرافية صرفة. فالإنجاب، في نهاية المطاف، فعل إنساني معقّد، يختلط فيه البحث عن المعنى، بالأمل في الامتداد، بالخوف من الوحدة، بالحاجة للبقاء.
كما أن الإنجاب، وإن كان من المهم تحليله داخل السياقات الطبقية والاقتصادية والاجتماعية، يظل حقًا إنسانيًا أصيلًا. واستنكار هذا الحق، أو الدعوة لتقييده على الفئات الأكثر هشاشة، لا يحمل في طيّاته منفعة اقتصادية أو اجتماعية، لأن الإقصاء يعيد إنتاج الفقر.
بدلًا من محاكمة الفقير على ما يملكه –أو لا يملكه– قَبل أن يُقبل على الإنجاب، ربما يجب أن تُوجَّه الأنظار إلى النظام الذي يصنع التفاوت ويعيد إنتاجه. في كتاب لماذا تفشل الأمم: أصول السلطة والازدهار والفقر، يجيب دارون أجيموجلو وجيمس روبنسون، الحائز على نوبل في الاقتصاد عام 2024، عن السؤال الذي يطرحه العنوان، بأن الأمم تفشل حين تُبنى مؤسساتها على إقصاء الأغلبية من النفوذ والثروة لصالح نخبة صغيرة. الفقر لا يولد من رحم الإنجاب، بل من رحم النظم التي تضمن أن يبقى العائد الاقتصادي حكرًا على قلّة، تٌلقي للبقية الفتات.
السؤال إذن، ليس "لماذا ينجب الفقراء؟"، بل لماذا نُصر على اعتبارهم وحدهم مسؤولين عن واقعٍ هم ضحاياه؟
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.