في الوقت الذي تُسلّطُ فيه الأضواءُ على المدن السياحية الأشهر في مصر، مثل العلمين الجديدة والساحل الشمالي ومنتجعات البحر الأحمر والأقصر وأسوان، تكتسب مناطق في الدلتا بريقًا خاصًا بين أوساط الشباب والأسر الباحثين عن خروجات وفسح مختلفة بميزانية محدودة لتغدو مزارات سياحية ذات طبيعة شعبية.
من أجل اكتشاف المزيد من هذه المناطق أطلق محمد يحيى مبادرة "سرديات الدلتا"، "بهدف تقديم قصص لجذب الجمهور وتغيير الصورة النمطية عن الدلتا"، كما يقول لـ المنصة.
يعمل المشروع على تدريب عدد من الشباب على صناعة محتوى عالي الجودة، من خلال ورش عمل وجلسات إرشادية ومنح إنتاجية، بالإضافة إلى عرض إنتاجهم في معرض الدلتا بعيون أهلها.
منة مصطفى، صانعة محتوى على السوشيال ميديا كانت واحدةً من المشاركات، لفت انتباهها نشاطٌ مرتبطٌ بالزراعة تابعٌ لإحدى الفعاليات الثقافية لمزرعة "أرض ولون" للفنون على طريق القاهرة إسكندرية الصحراوي، فتعلمت غرس فسيل النخل على يد مُزارع، لتكون هذه نواة قصتها المصورة الأولى بين السماء والأرض، التي تلقي الضوء على السياحة الريفية في مزارع النخيل بمدينة رشيد وما تتضمنه من حرف يدوية معتمدة على الجريد والخوص.
اشتهرت رشيد على مر العصور بزراعة النخيل، حتى أطلق عليها مدينة المليون نخلة، ليرتبط الكثيرون من أهاليها بمهن وحرف مرتبطة بالنخيل. وثّقت منة علاقة منصور بحرفته التي يعمل بها منذ 50 عامًا لصناعة الأقفاص وقطع الأثاث المتنوعة من جريد النخيل.
ياسمين شبرا بلولة
على خطى منة، من البحيرة إلى الغربية، جاءت الزيارة الأولى للمصور الوثائقي أحمد البطاوي لقرية شبرا بلولة، بهدف التصوير الذي اتخذه مجال عمل منذ 4 سنوات، لتصبح نواة قصته عن تأثير زراعة الياسمين على أهل القرية.
"الياسمين مصدر الدخل الأساسي للقرية وأبنائها"، يقول أحمد، إذ تنتج مصر 60% من الإنتاج العالمي للياسمين وتستحوذ قرية شبرا بلولة رغم بساطتها على نسبة كبيرة منه، وبلغ إنتاج مصنع العطور وعجينة الياسمين بقرية شبرا بلولة بمركز قطور 6000 طن سنويًا.
من خبرته التي اكتسبها من زياراته للقرية، يشرح أحمد أن "الحصاد يبدأ من الثامنة مساء وحتى الثامنة من صباح اليوم التالي، حسب المساحة، حصاد القيراط الواحد يستغرق من شخصين 6 ساعات".
ويستغرب كيف لهذا الإنتاج الهائل من الياسمين ألا يوازيه إنتاج محلي ضخم للعطور، يقول "إزاي مفيش ماركة عطور مصرية تستفيد من الياسمين ده بدل تصديره".
تحولت شبرا بلولة إلى مزار سياحي يجذب المهتمين بالأنشطة المختلفة، من بينهم بسملة درويش الطالبة بكلية طب المنصورة، تقول لـ المنصة "حسيت إني عايزة أعيش الأجواء اللي سمعت عنها في جمع الياسمين، تجربة جديدة ورخيصة"، تقارن بسملة تكلفة رحلتها للقرية واستمتاعها برحلاتها السابقة إلى مدن سيناء الساحلية.
"بدأت الرحلة الفجر وخلصت حوالي 11 الضهر، وفطرنا فطير مشلتت، ودفعنا 450 جنيه"، توضح الفتاة التي حجزت رحلة مع شركة سياحة تنظم مثل هذه الرحلات، مضيفة "لما عجبني برنامج الرحلة شجعت صاحبتي تيجي معايا".
تلاقي رحلات حصاد الياسمين إقبالًا كبيرًا، مما انعكس على شهرة القرية كوجهة سياحية، وعلى انفتاح الأهالي، فالزيارات تفتح بابًا جديدًا للدخل.
أسواق دمنهور الشعبية
"كانت القوافل التجارية تأتي من كل مكان وتقف بالخيول والجمال عند مسجد التوبة، وينتقلوا للسوق لعرض بضاعتهم" هذا ما جذب اهتمام إسلام حداية، أحد المشاركين بالمشروع، لينتج فيلمًا تسجيليًا يعتمد على الرواية الشعبية والأكاديمية المتخصصة لتاريخ مدينته دمنهور، عاصمة محافظة البحيرة، منذ دخول المسلمين إلى مصر حتى الآن، عارضًا نمط العمران الذي تشكل من خلال فلسفة العمارة الإسلامية، بارتباط قيام الأسواق الشعبية بجوار المسجد.
يأمل إسلام من إنتاجه لهذا الفيلم جذب الزوار إلى الأسواق
جاء اختيار إسلام متأثرًا بخلفيته الدراسية للهندسة المعمارية وصناعة الأفلام، فسوق الغلال هي إحدى أقدم أسواق المدينة السبع المتخصصة، التي صممت معماريًا لأغراض التجارة، التي اشتهرت المدينة بها قديمًا.
من بين ما تشتهر به سوق العطارين المجاورة لسوق الغلال "سلطة الحباش الدمنهوري"، وهي سلطة تعتمد على الطحينة الحمراء والزيت الحار مع إضافة خضروات من طماطم وفلفل وكزبرة وبهارات مميزة، وصناعتها إحدى محطات فيلم إسلام التسجيلي.
"معرفة تاريخ المدينة يجنب أبناءها صراع الانتماء"، يقول إسلام لـ المنصة أنه يأمل من إنتاجه لهذا الفيلم أن يترك أثرًا داخل قلوب أهل مدينته بتعزيز شعورهم بالانتماء، بالإضافة لجذب الزوار إلى الأسواق، طامحًا لاستعادة نشاط حركة التجارة داخل دمنهور من جديد.
طيور مهاجرة في جزيرة الشخلوبة
"عايز أبين للناس جمال المكان"، تبنى عبد الرحمن جلال مبادرةً لإعادة محافظته كفر الشيخ لخريطة السياحة.
أسس عبد الرحمن الذي يعمل مدرسًا مساعدًا بكلية العلوم في جامعة الأزهر بالقاهرة، وابن محافظة كفر الشيخ، مبادرة كامب برلس مع صديقه أحمد، عام 2020، بهدف تحويل بحيرة البرلس إلى مزار سياحي عبر جولات بالمراكب إلى جزيرة الشخلوبة لمشاهدة الطيور المهاجرة وحركة الصيد.
ورغم أن مبادرتهما لم تكن الأولى، وسبقتها عدة محاولات لتنظيم رحلات غير منتظمة للبحيرة منذ 2014، فإن عبد الرحمن طور المشروع مع شريكه؛ في البداية اشتريا مركبًا لكنهما لم يتمكنا من إدراته بنجاح، فلجآ لـ"الصيادين إللي غطوا معانا وسيلة الانتقال لأنه يعتبر دخل إضافي ليهم"، يقول لــ المنصة.
وفرت المبادرة بعض الدخل للمنطقة، فأصحاب المراكب بدأوا في تأجير مراكبهم للزوار، كما حرص أصحاب المطاعم على توفير أكلات تناسب الأذواق المختلفة، لتتكاتف أيادي الجميع لتوفير الخدمات المتنوعة وتحويل البحيرة إلى مكان سياحي بامتياز.
تقع بحيرة البرلس، شمال شرق فرع رشيد، وتعد ثاني أكبر بحيرة مصرية، وتبلغ مساحتها حوالي 469 كيلومترًا، وأُعلنت محمية طبيعية عام 1998.
زوروا البدرشين
في البدرشين جنوب الدلتا، يستحضر إسلام البستاوي، مدرس إدارة مواقع التراث الثقافي بكلية السياحة والفنادق جامعة السادات، تجربة الهند في السياحة الثقافية، في حديثه عن مشروع زوروا البدرشين للتنمية الريفية والحفاظ على التراث الثقافي.
يقول لـ المنصة "يمر السائح في الهند بتجربة أصيلة في التعرف على صناعة المنسوجات اليدوية المحلية، من خلال زيارة المشاغل والاطلاع على مراحل الصناعة المختلفة لإدراك كم الجهد المبذول في القطعة الواحدة، مع إمكانية مشاركته في صناعة قطعة مميزة كهدية تذكارية، وقد تصل التجربة إلى المبيت في المشغل للمرور بكافة مراحل الصناعة مع الأهالي".
شارك إسلام في تصميم مسارات سياحية داخل المدينة لتعظيم استفادة المجتمع المحلي من السياحة الريفية؛ تبدأ بزيارة مزارع النخيل التي تشتهر بها البدرشين والتمتع بمشاهدة الغروب من أعلى نقطة لبانوراما الأهرامات، ثم تجربة تناول الأكلات التقليدية، والتعرف على الحرف اليدوية المرتبطة بالنخيل وغيرها.
يتفاعل الأهالي مع هذه المبادرات، يقول إسلام "فيه واحد حوّل بيته لاستضافة الزوار للمبيت لإثراء تجربتهم السياحية".
لا يتوقف طموح يحيى عند معرض الصور الفوتوغرافية الذي جمع المزارات السياحية المكتشفة، الذي أقيم في مدينة المنصورة في 16 نوفمبر/تشرين الثاني، لكنه يستعد لإطلاق تطبيق إلكتروني يضم هذه الأماكن ويسمح للراغبين في حجزها بسهولة ويسر.