
"كبسوا كبسوا".. دليلك لفهم عالم تيك توك
في معرض تبرير حملات القبض على التيكتوكرز، قال رئيس لجنة الاتصالات بمجلس النواب أحمد بدوي إن بعض هؤلاء الفلوجرز يحققون أرباحًا طائلةً، مشيرًا إلى أن أحد المتهمين يجني 70 ألف دولار شهريًا.
هل يمثل التيك توك اقتصادًا موازيًا غامضًا؟ ما قوانينه الخاصة؟ ما لغته المشفرة التي تبدو طلاسم لمعظم الجمهور؟ ما هو "اللايف" الذي يدر كل هذه الأموال؟ من "الداعم" الذي يدفع؟ ما معنى الصرخات التي نسمعها مرارًا وتكرارًا كبسوا.. كبسوا؟
خلف واجهة الاستخدام البسيط المتمثل في مجرد رفع فيديوهات أو التقليب والاكتفاء بالمتابعة، يكمن عالم تحتي معقد من البث المباشر، والعملات الافتراضية، والتحديات، والوكالات والداعمين؛ عالم يفتح أبواب الثراء السريع، لكنه في الوقت نفسه يمثل فخًا للاستغلال.
لفهم هذا العالم، والحصول على إجابات لهذه الأسئلة الصريحة، استعانت المنصة باثنين من صُناع المحتوى.
المسرح الرقمي وقواعد اللعبة
على عكس منصات أخرى تتطلب شروطًا معقدة لتحقيق الدخل، يفتح تيك توك أبوابه على مصراعيها؛ نظريًا، يمكن لأي مستخدم أن يبدأ في جني الأموال من اليوم الأول عبر خاصية اللايف/البث المباشر التي أطلقها في أغسطس/آب 2020.
لا حاجة لآلاف المتابعين لبدء البث، فبمجرد الضغط على زر GO LIVE، يتحول المستخدم من مشاهد إلى مضيف/streamer، وهو صاحب المسرح الذي تدور عليه الأحداث.
لهذا المسرح قواعده الخفية. فلكي تتمكن من دعوة ضيف/guest لمشاركتك البث، وهو ما يزيد من التفاعل، عليك الالتزام بالبث لمدة ساعتين يوميًا لثلاثة أيام متتالية. هذه القاعدة تضمن ولاء المضيف للمنصة، وتجبره على قضاء ساعات طويلة أمام الكاميرا.
الأمر لا يخلو من رقابة تحضر بقوة لكن بشكل انتقائي. فظهور سيجارة في بث مباشر أو عري قد يؤدي إلى حظر فوري للحساب، بينما قد تمر الشتائم والألفاظ النابية دون عقاب فوري لصعوبة رصدها آليًا.
اقتصاد الهدايا ولغة المال
يقوم جوهر هذا العالم على الهدايا/Gifts، فهي ليست مجرد صور متحركة، بل وقود الاقتصاد بأكمله، تسير العملية كالتالي:
يشتري المشاهدون عملات/Coins بأموال حقيقية.
ثم يشتري المشاهدون الهدايا الافتراضية باستخدام العملات. تضم قائمة الهدايا وردةً وقيمتها عملة واحدة، وكذلك الأسد الذي يكلف عشرات الآلاف من العملات، وهو ما يبرر مقولة يارب أسد التي يرددها التيكتوكرز.
بعد تلقي المضيف الهدية، تتحول تلقائيًا في حسابه إلى ماسات/Diamonds. لتأتي مرحلة سحب هذه الماسات أموالًا حقيقية، من خلال حساب بنكي أو فوادفون كاش.
الجزء المثير للجدل في هذه الدورة المالية هو العمولة التي يقتطعها تيك توك. كشف تحقيق أجرته BBC عن استحواذ المنصة على ما يصل إلى 70% من قيمة هذه الأموال. هذا يعني أن من كل 10 دولارات ينفقها مشاهد، لا يصل إلى جيب صانع المحتوى سوى 3 دولارات فقط. إنها آلة ضخمة لجني الأرباح مصممة بعناية ليكون الجزء الأكبر من الربح في جيبها.
شخوص المسرحية
لا يكتمل المشهد دون فهم شخوصه الرئيسية، وهي أدوار تتجاوز مجرد الترفيه لتلامس عمق النفس البشرية والتركيبات الاجتماعية.
صانع المحتوى
هو نجم العرض، مهمته ليست فقط تقديم محتوى، بل إدارة جلسة البث، والتفاعل مع التعليقات، والأهم من ذلك تشجيع الجمهور على إرسال الهدايا.
عليه أن يتقن إدارة علاقاته مع داعميه الكبار، ويكون قادرًا على افتعال الدراما، سواء كانت صراعات مع تيك توكرز آخرين أو قصصًا شخصية حزينة، بهدف الحفاظ على حالة من التوتر والترقب التي تدفع الداعمين للتدخل "لإنقاذه" بهداياهم.
وهذا ما يخلق التحدي الأساسي وهو أن يحافظ على صورة "نظيفة" لتجنب حظر حسابه، ومن ناحية أخرى، عليه أن يقدم محتوى مثيرًا وجدليًا بما يكفي ليظل ذا صلة. هذا العمل ودخله يعتمد كليًا على أهواء ومزاج عدد قليل من الداعمين.
الداعم: الباحث عن المكانة
الداعم هو الشخصية الأكثر تعقيدًا. دافعه ليس مجرد الإعجاب، بل هو مزيج مركب من البحث عن القوة، والمكانة، والانتماء في العالم الرقمي، وهو ما يشتريه بإرسال الأسد في اللحظة الحاسمة، ليتحول من مجرد مشاهد إلى بطل ومنقذ "لقبيلته الرقمية"، ذلك كله يشعره بامتلاكه ولو بشكل جزئي لما يحققه المضيف/النجم من نجاح.
كما كان النباطشي في الأفراح الشعبية يرفع الصوت ليعلن أسماء من يوزعون "النقوط" وسط الزفة. النباطشي هنا هو التيكتوكر وصاحب النقوط هو الداعم. بمجرد إرساله الهدية يلمع اسمه على الشاشة، فيتحول من متابع عادي إلى بطل اللحظة.
التكبيس هو فعل الضغط المتكرر على الشاشة والمكبّسون هم الجنود المجهولون الذين يشكلون أساس قوة أي مضيف
تستمر عملية الشحن بلا توقف، فقد تحول إرسال الهدايا إلى مخدرات، لتغدو عملية الدعم إدمانًا خالصًا. كل عملية شحن تمنحهم نقاطًا ترفع مستواهم داخل التطبيق، فيما يُعرف بـ الليفلات/levels.
تختلف المستويات وفقًا لمعدل إرسال الهدايا وصرف العملات التي يملكها المستخدم، الدعم بألف عملة يضعك في المستوى 10، ودعم آخر بضعف الكمية قد يرفعك إلى مستوى 20، حتى تصل إلى مستوى 25، وهو المستوى الأعلى الذي يمنح الاسم في البث المباشر ميزة، إذ يرفرف على الشاشة عند دخول أي بث، متوَّجًا برمز خاص يعلن أنك داعم ثقيل.
ورغم أن مشهد "الهدايا الكبرى" على تيك توك يرتبط في الذهن المصري غالبًا بالداعمين من الخليج، فإن الهوس بالدعم لا يعرف جغرافيا. ففي المملكة المتحدة، تحولت قصة محاسبة بريطانية تدعى كاثرين جرينال إلى مادة دسمة للصحافة، بعدما اكتُشف أنها اختلست نصف مليون دولار من شركة سيارات عملت بها لسنوات، لتُنفق نحو 400 ألف دولار منها على شراء هدايا لمن تحب من التيكتوكرز.
المكبّس: جيش المشاة الرقمي
التكبيس هو الضغط المتكرر على الشاشة. والمكبّسون هم الجنود المجهولون الذين يشكلون أساس قوة أي مضيف. عملهم لا يكلف مالًا، ولكن يمكن اعتباره عملة اجتماعية حيوية ترسل إشارات لخوارزمية تيك توك بأن هذا البث مهم وتفاعلي، مما يرفعه إلى صفحة إكسبلور/explore وهي الأكثر مشاهدة من أجل جذب المزيد من العيون والمزيد من الداعمين المحتملين.
لغة تيك توك الخاصة
داخل هذا العالم، تطورت لغة خاصة، مزيج فريد من العامية المصرية واللهجة الخليجية. هذه اللغة ليست مجرد كلمات، بل هي رموز لترسيخ الهوية القبلية الرقمية:
أرحب بفلان: ليست مجرد تحية، بل هي إعلان عن وصول شخصية مهمة أو داعم كبير.
كفو عليك: تقال للداعم بعد إرساله هدية قيمة، وهي تحمل معنى الشكر والثناء.
تمد من زود: دعاء بالبركة والزيادة، وطريقة مهذبة لطلب المزيد.
يا مطنوخ: هي أعلى أوسمة الشرف التي يمكن أن تُمنح لداعم. الكلمة تصف شخصًا ينفق بسخاء أسطوري.
ارموا على الدبل: صيحة المعركة في الجولات، وتعني استغلال فترة مضاعفة النقاط لتحقيق نصر حاسم.
الدبل/Double والتربل/Triple: خلال الجولة، تظهر أحيانًا خاصية الدبل أو التربل لفترة قصيرة. إذا أرسل الداعم هدية خلال هذه الفترة، تتضاعف نقاطها في الجولة (الـ100 عملة تصبح 200 نقطة في الدبل، أو 300 في التربل)، لكن صانع المحتوى يحصل على القيمة المالية الأصلية فقط (100 عملة). هذا يخلق حماسًا كبيرًا للفوز بالجولة.
الجحفلة: أن يأتي الدعم لصاحب البث المباشر في نهاية الجولة أو في الثواني الأخيرة من المنافسة، وتسمى جحفلة لأنه فاجأ الخصم بدعم قوي جدًا يجعل السكور الخاص به ضعيفًا ويحتاج إلى وقت حتى يعاود الارتفاع.
الجولات، الوكالات، والجانب المظلم
لم يترك تيك توك الأمر للصدفة، بل حوّل عملية الدعم بالكامل إلى لُعبة تنافسية من خلال:
الجولات أو التحديات (PK - Player Kill) هي ذروة الدراما في عالم اللايف. إنها ليست مجرد لعبة، بل هي حرب قبلية مصغرة. يدخل مضيفان في بث مشترك، ويبدأ سباق محموم لمدة خمس دقائق لمعرفة من منهما يحصل على هدايا أو نقاط أكثر.
في هذه الدقائق الخمس يتحول الداعمون إلى جنرالات، و"المكبسون" إلى جنود. الجولة هي استعراض للقوة المالية والولاء القبلي، والخاسر يُجبر على تنفيذ "حكم"، ليكون عبرةً أمام القبيلة المنتصرة.
الوكالات هي شركات تعمل وسطاء بين تيك توك وصناع المحتوى وتقدم خدمات متنوعة لدعم التيك توكرز
الفائز في الجولة هو من يحصل على مجموع نقاط أعلى، ويحق له أن يفرض حكمًا على الخاسر، تتراوح هذه الأحكام بين الطريف والمحرج أحيانًا، مثل تقليد أصوات الحيوانات أو وضع مساحيق التجميل بطريقة غريبة، وهي أحكام يتم الاتفاق على طبيعتها قبل بدء الجولة.
حملات التكبيس: هي حملات منظمة لدعم شخص معين. المضيفون الذين يتلقون الدعم في جولاتهم، ينظمون حملات لرد الجميل لمن دعموهم. إنها تعمل بنظام يشبه أفراح الجمعية يتم تسجيل من دعم ومن لم يدعم لرد الدعم لاحقًا.
الوكالات: هي شركات تعمل وسيطة بين تيك توك وصناع المحتوى، وتقدم خدمات متنوعة لدعم التيكتوكرز. تشمل مساعدتهم في البث المباشر، وتحسين جودة المحتوى، وحل المشاكل التقنية، وتجنب الحظر، وحتى تقديم الدعم المالي في بعض الحالات.
هذه الوكالات، المعروفة أيضًا في الصين باسم "نقابات البث المباشر"، هي جزء متنامٍ من استراتيجية تيك توك التجارية العالمية لجذب مستخدمي البث المباشر إلى منصتها، وتعاقدت تيك توك معها لمساعدة صانعي المحتويات على إنتاج بث مباشر أكثر جاذبية.
هذا من شأنه تشجيع عدد أكبر من الناس على استخدام التطبيق ولفترات أطول لجذب المزيد من الإعلانات والهدايا، وهذا بدوره يزيد أرباح تيك توك. فيما تحصل في المقابل على عمولة اعتمادًا على مدة البث المباشر وقيمة الهدايا التي يتم التبرع بها.
تحوَّل عالم التكبيس والجولات إلى اقتصاد موازٍ متكامل، له لغته وقوانينه وشخوصه الذين يعكسون تحولات عميقة في مفهوم الشهرة والعمل والعلاقات الإنسانية.
خلف واجهة الترفيه والبث المباشر، تقف آلة ضخمة ومُحكمة التصميم، تتقن تحويل المشاعر الإنسانية إلى لعبةٍ بدءًا من رغبة صانع المحتوى في التقدير المادي، وصولًا إلى سعي الداعم لشراء مكانة وبطولة رقمية مؤقتة، وانتهاءً بجهد "المكبّسين" الذين يمنحون ولاءهم المجاني أملًا في الانتماء لعالم ربما يمنحهم شيئًا من بريقه.