بين كومة الصحف والمجلات في أرشيفي الشخصي، عثرت على أربعة أعداد من مجلة حواء صادرة في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، تحمل عنوانًا واحدًا مثيرًا للفضول "إني أعترف".
تكمن إثارة الاعترافات في كونها حكايات نتلهف لمعرفة تفاصيلها ونتتبع أبطالها ومصائرهم، كما أنها تهبنا لذة التلصص على الآخرين دون جرحهم.
هذا ما جعل من حكايات القراء مادة خصبة للصحف والمجلات منذ القرن الثامن عشر، فظهرت أبواب مخصصة لبريدهم تتنوع بين الآراء والشكاوى والمشكلات العاطفية، اشتهر منها: قلوب جريحة، قلبي يسأل، أريد حلًا، بريد الجمعة، والتي لعبت دورًا في مداواة المعترف. فالحكاية, كما يقول الكاتب علاء خالد, علامة على شفاء الراوي، إذ يتخفف من ثقل حكايته، صياغتها تمنحه المسافة التي يقدر معها على تجاوز الألم والمضي قدمًا دون أعباء الماضي.
امرأة قوية مستقلة
تضم الأعداد الخاصة التي بين أيدينا والتي صدرت في سنوات 75، 76، 78، و79 قصصًا، قد تصل إلى عشرين قصة في العدد الواحد، جميعها اعترافات لنساء، صيغت لتعبر عن المآسي بلغة درامية تميل إلى المبالغة، تحمل كل قصة عنوانًا وتصاحبها صورًا تعبيرية.
يأتي الاعتراف "ولم يكد نور الصباح يملأ الكون.. حتى كنت قد اتخذت قرارًا.. أن أذهب إليه.. من فقدته بإرادتي انتصارًا لمبادئي.. أذهب إليه بنفسي بنفسي.. رخيصة.. رخيصة.. أشهده على جناية نفسي على نفسي".
تحكي صاحبة "كرامة جسد" من عدد سبتمبر 1977، عن علاقة عاطفية جمعتها بشاب حالت ظروفه المادية دون الزواج بها، فطلب منها التواصل الجسدي. رفضت وتزوجت بآخر لا تحمل له أي مشاعر، لدرجة "وأحسست أنني رغم الشرعية.. أفقد طهارتي.. أمتهن جسدي.. أحتقره"، فقررت الرجوع لحبيبها، تعرض عليه نفسها، لكنه هذه المرة هو من يرفض كي لا تفقد احترامها لذاتها. تنتهي الحكاية بقرار الانفصال عن زوجها، لتصبح حرة، "اخترت حريتي.. وفي انتظار بداية جديدة سليمة".
يبدو الاعتراف، الذي تدخل المحرر في إعادة صياغته ليظهر بإسلوب متماسك ولغة أدبية، بوحًا يعكس تصالحًا مع النفس. كما يشير إلى المساحة الآمنة التي تقدمها المجلة لقارئاتها. لا توجد أحكامًا مسبقة ولا مواعظ أخلاقية. مجرد اعتراف يستعيد الموروث الديني في التخلص من الذنب لا يعقبه سوى الغفران. محققًا الغاية من الكتابة التعبيرية حسب جيمس بينيبيكار "عندما نترجم تجاربنا العاطفية إلى كلمات وقصص فإننا نبدأ في التفكير بهذه التجارب بسياق أبسط وأقل تهديدًا".
تعكس القصص المختارة تصورًا عن المرأة التي تدعمها المجلة؛ قادرة على اتخاذ قرارات حياتها، ساعية للحرية واعية بقيمتها. كما تكشف عن جانب خفي من حياة نساء الطبقة المتوسطة، المتعلمات اللاتي يعشن بالمدينة، وفي الغالب يعملن، إذ من السهل تحديد ملامح صاحبة الاعتراف، طبقًا لملامح جمهور المجلة النسائية المتخصصة.
دون وسيط
اليوم، لم يعد هناك مكان للتخفي، على السوشيال ميديا، المساحة مفتوحة للاعتراف الذي أصبح فعل يومي، يقوم به الجميع دون تردد، تدفعهم شجاعة الاختباء خلف الشاشات، لكن الوسيلة التي تمنح التخفي تسلب الأمان؛ إذ لا يأتي الاعتراف دون تذييل/تعليق.
تقول إحداهن على صفحة society problems على فيسبوك "فوجئت وعرفت وشوفت خيانة جوزي ليه بعيني مع بنت عمه وهي أرمله وحكيت لأختي وقالتلي ما تعرفيهوش انك عارفه ونراقبه ونحاول نصوره وفعلا صورناهم مع بعض ف أوضاع مش كويسه وواجهته ونكر.....ولما نكر وريته الصور والفيديوهات ومن ساعتها وهو خاتم ف صباعي ومزلول ومفيش طلب أطلبه غير ما ينفذه حتي هي بهددها وباخد منها كل ال نفسي فيه فلوس واكل ولبس هو انا كدا اصرفت غلط او بفتري عليهم".
مقارنة باعترافات مجلة حواء، تختلف اللغة، صارت محكية بالعامية، لا يوجد من يدققها ويعيد صياغتها. ولا يقول الاعتراف شيئًا عن صاحبة المشكلة عدا أنها، كزميلتها في المجلة، قادرة على اتخاذ قراراتها وإدارة حياتها وإن اختلفت الأساليب.
هنا تحول الاعتراف إلى إبراء للذمة، يستجدي تعاطف الجمهور ويطلب تصريحًا بالموافقة على الفعل الذي تعلم صاحبته خطأه، من جمهور يقف ممسكًا بالمقصلة، بعيدًا عن التعاطف، لا يعرف طريقًا للغفران.
ترى رشا عبد الله أستاذة الصحافة والإعلام بالجامعة الأمريكية، أن وجود فضاء إلكتروني للاعتراف شيء إيجابي، مقارنة بالشكل الصحفي القديم، الذي يتدخل فيه المحرر إما بالمنع أو الاختصار وربما بتغيير المعنى، على عكس ما يحدث الآن، إذ تقرر النشر بنفسك وتتحمل تبعات ذلك في إطار القانون والدولة التي تعيش فيها.
ولهذا تنصح رشا عبدالله المعترفين على السوشيال ميديا "اختار المكان الأنسب لنشر اعترافك، وحدد الهدف في نفسك، طلب الغفران أو النصيحة أو حتى اللوم" ليصبح مستعدًا لما يأتيه من تعقيبات.
يختلف معها إبراهيم السيد الكاتب والطبيب النفسي، يقول للمنصة "يتفاعل المعلقين مع الاعترافات، باعتبارنا في السوشيال ميديا "أسرة مع بعضينا"، لكن لا يمكن حصر تأثير هذا التفاعل على صاحب الاعتراف، ممكن يتأثر ويتبهدل، ومش هنعرف ده".
ما يكتبه المستخدم المجهول، يحمل اعترافًا لا يريد المجتمع سماعه، كما أنه في المقابل لا يريد الاستماع إلى أحد، هو يتخفف من أسراره، إذ أن منح شكلٍ ملموسٍ للتجارب السرية عن طريق الكتابة يمكن أن يُساعد على تنظيم هذه التجارب بطرق جديدة كما يخبرنا بينيبيكار.
ما كانت تمنحه مجلة حواء كهدية علاجية، تقف التعليقات على السوشيال ميديا حائلًا دونه اليوم.
يبدو اعتراف هذه الفتاة قريبًا من هذا المعنى. نُشر الاعتراف في صفحة Cairo Confessions، التي تعتمد اللغة الإنجليزية في اسمها واعترافاتها تقول:
"لدي صديق مقرب جدا وهو مثلي الجنس. بدأت مؤخرًا أشعر بمشاعر تجاهه. أعرف على وجه اليقين أنه لا يبادلني المشاعر، إنه يحبني فقط كصديقة عزيزة. هذا العالم لا يُصدق ، لديه كل ما أحلم به في زوجي المستقبلي. إنه حنون للغاية ومضحك ونتشارك كل شيء تقريبًا في الحياة. حتى أنه يحب الهوايات التي أحبها. وهو أيضًا رجولي جدًا ولا يشبه الرجل المثلي النمطي. في الآونة الأخيرة بدأت أحلم أحلاما جنسية تتعلق به. إنه وسيم ومثير للغاية. الآن، هل أخبره عن مشاعري. أعلم أنه يريد الزواج يومًا ما من أجل وجود أطفال لكنه لن يكذب أبدًا بشأن ميوله الجنسية. أخبرني أنه يفكر في الحصول على ترتيب مع مثلية لإنجاب الأطفال. ماذا لو كنت أنا هذا الترتيب؟ هل تعتقد أن مثل هذا الزواج يمكن أن ينجح؟ لدي شعور بأنه سيوافق على الزواج مني لأنه يحبني ويريد الأطفال ويريد من عائلته أن تتوقف عن إزعاجه من أجل الزواج. أنا في حيرة من أمري لهذا السبب أطلب منك مساعدتي في اتخاذ القرار"(*).
تطلب صاحبة الاعتراف مساعدة في حل مشكلتها، لكنها في الوقت نفسه تتخفف من أفكارها، واختارت مساحة/صفحة تضع قواعدًا تنص على منع التجاوزات في التعليقات من التطاول أو الأذى. كما أن متابعون الصفحة متعلمون، من طبقة اجتماعية فوق المتوسطة، يتبنون قيمًا أكثر انفتاحًا وقبولًا للآخر.
وبالعودة للمقارنة مع اعترافات السبعينيات، يمكننا تصنيف المشكلات على السوشيال ميديا حسب لغة الكتابة، إذ تدور معظم الكتابات بالعربية حول مشاكل الزواج والحموات و"بيت العيلة"، وهي بذلك تتقاطع مع صفحات مجلة حواء. فيما تظهر المشاكل المتعلقة بالجنس والمثلية والتحرش وزنا المحارم في الصفحات التي تستخدم الإنجليزية، وتبدو متوازية مع اعترافات النساء في عصر الانفتاح. وكأن التحرر من اللغة يعطي مساحة للتحرر من قيم المجتمع.
هرمونات عاطفية سامة
تظهر اعترافات الجرائم العاطفية في الماضي أو الحاضر على حد سواء، والتي ربما تلهم صناع الدراما والسينما. نقرأ في مجلة حواء عام 1979، تحت عنوان "حبيبي لا أصدق" اكتشاف صاحبة الاعتراف محاولة زوجها التخلص منها بمادة كيميائية يضعها في كوب الشاي الصباحي، الذي اعتاد على تقديمه لها كنوع من الاهتمام.
تقول "وجدت كتاب عن أنواع السموم المختلفة.. وتطورات تأثيرها.. عند نوع معين، وجدت أكثر من علامة ومن تعليق.. نوع يسري مفعوله ببطء شديد في الجسم.. ولا يظهر له أثر في التحاليل".
المثير في الاعتراف أنها لم تكن ستعلم شيئًا عن خطته، لولا تعرضه لحادث سيارة أودى بحياته، واكشتفت الكتاب الخاص بالمواد الكيميائية في مشهد درامي وهي تحاول مداواة الحنين إليه عبر تفقُّد مقتنياته.
كما الأفلام، تتكرر الحادثة ولكن بطريقة عكسية، نقرأ على السوشيال ميديا حكاية الزوج الذي اكتشف أن زوجته أفسدت هرموناته الذكورية كي تمنعه من خيانتها. يقول"بعد 8 أشهر من ذلك ذهبت لفحص هرموناتي، وكانت مستويات هرمون التستوستيرون لدي منخفضة جدًا. أخبرتها، بدأت في البكاء على الفور واعترفت بأنها أفسدت مكملاتي الغذائية بمثبطات الهرمونات، لذلك فأنا لا أخونها، ولا أنظر أبدًا إلى امرأة أخرى، والآن سأعيش مع العلاج ببدائل التستوستيرون طوال حياتي، ولن أكون قادرًا على إنجاب الأطفال كما قال الأطباء"(*).
هذه الإثارة في الاعترافات، بقدر ما تحمل من تعجب على قدرة الأشخاص ارتكاب الجرائم، فإنها تزيد من الشك، خاصة على السوشيال ميديا. يقول إبراهيم السيد، الطبيب النفسي"هناك تداخل بين الإعلانات والمعلومات في المحتوى العربي يتمثل في نسخ حكايات حقيقية من صفحات أخرى أو فبركة حكايات 'حراقة' لإثارة الجدل والتفاعل، وهو ما يؤذي المتلقي، خاصة صاحب السن الصغير بتضليل فهمه للعالم وتعميم مفاهيم خاطئة، كل الرجال خائنون، كل النساء منحرفات".
يدرك السيد كمتخصص في الطب النفسي أهمية هذه المساحة المتاحة للاعترافات في مجتمعات فقيرة، فهي تعمل كوسيلة للدعم النفسي غير المتوفر للجميع بسبب ارتفاع التكلفة. لذلك ينصح بالحرص على استخدامها بشكل آمن ومنضبط من خلال صفحات موثوقة يقوم عليها أطباء متخصصون، لتصبح تجربة "علاج نفسي" بالمعنى الحقيقي بدلًا من الانسياق خلف الصفحات الإعلانية التي تسعى لزيادة المتابعين ويديرها مراهقون محترفون.
(*)ترجمة بتصرف عن اللغة الإنجليزية.