
فانتازيا التطهير الطبقي| أوهام الميسورين عن إنجاب الفقراء
في شارعٍ غير مرصوف، يعجُّ بزحامٍ أغلبُه نسوةٌ متشحاتٌ بالسواد، تقف امرأة بثوب داكن وجسد يرتجف، تتمتم بأدعية متقطعة. تحاول التقاط أنفاسها اللاهثة. تظهر على وجهها آثار صدمة لم تستوعبها بعد، يلتف حولها أهل الحي، يحاولون مواساتها لكنهم عاجزون عن الكلام. سيرحل الناس، وستجفّ دموع البكاء، وتختفي آثار الصدمة، لكن سيبقى الفقد.
ودّعت هذه الأم ابنتيها معًا يوم 27 يونيو/حزيران الماضي في حادث الطريق الإقليمي الذي أودى بحياة 16 فتاة أخرى، جميعهن تحت سن العشرين، كنّ في طريقهن للعمل في مزرعة عنب بيوميةٍ لا تتجاوز 130 جنيهًا. تراصَّت الأكفان بجانب بعضها البعض لتستدعي أسئلةً عن هندسة القتل وتفشي الفساد في البنية التحتية. لكن معها تعالت أصوات وجدت أن هؤلاء الأمهات، الأبعدَ عن البطش، أقربُ إلى المساءلة؛ فلماذا يُنجب من لا يستطيع توفير "حياة كريمة" لأولاده؟
هذا السؤال الذي لا يعتبر الإنجاب حقًا إنسانيًا بل امتياز يُمنح فقط لمن يستطيع دفع ثمنه ليس وليد اللحظة، لكنه صدى لخطابٍ يتجدد كلما انكشفت تفاصيل مآسي الطبقات الأفقر، ويتكرر كلما سقط ضحايا جدد في الفجوة الطبقية التي تتسع بشراسة.
إلا أن أحدًا لا يقدّم تعريفًا لهذه "الحياة الكريمة"، وكأنها مفهوم مجرّد يستمدونه من مواقعهم هم في الحياة، بينما هي مسألة نسبية للغاية تتشكّل من تجارب الناس وتاريخهم وظروفهم.
أبٌ لم يكمل تعليمه وبدأ العمل وهو في التاسعة، الحياة الكريمة بالنسبة له أن يتمكن من إلحاق أبنائه بمدرسة حكومية، وتغطية دروسهم الخصوصية، وتأمين عمل صيفي لهم في مزرعة عنب. لأنه ببساطة يوفّر لهم ما لم يُتح له يومًا. في المقابل، قد يرى آخر ميسور الحال أن من لا يستطيع تسجيل أطفاله في مدارس خاصة أو دولية ودروس الموسيقى وممارسة الرياضة مع تخصيص غرفة مستقلة لكل طفل، يحكم عليهم بالشقاء، والأكرم له ولهم ألَّا ينجبهم من الأساس.
حين يُفرض التصوّر الطبقي للحياة الكريمة مقياسًا لأهلية الإنجاب، نصبح بصدد ممارسة طبقية مضاعفة؛ فبعد إفقار الفقير نسحب منه الحق في الإنجاب، لأنه لا يرقى لمعايير لا تعترف بحياته.
بالنظر إلى واقعنا الاجتماعي، نجد أن العلاقة بين الفقر والإنجاب ليست علاقة خطية يمكن اختزالها في سؤال فردي عن "الاستحقاق" المبني على ثروة الأسرة وقدرتها على توفير ما تراه الطبقة المتوسطة "حياةً كريمةً". فالقرارات التي تبدو في ظاهرها سهلةَ الحسم؛ مثل عدد الأطفال أو توقيت إنجابهم بما يتناسب مع الحالة المادية للأسرة، غالبًا ما تتشكّل داخل شبكة معقّدة من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية وانعدام الأمان، والشعور المستمر بالتهديد.
الحاجة إلى ضبط الفقراء
تمتد الجذور الفكرية لهذا الخطاب إلى نهاية القرن الثامن عشر، حين قدّم توماس مالتوس نظريته الشهيرة حول السكان، زاعمًا أن الفقر ليس وليد ظلم اجتماعي أو اختلال في توزيع الثروة، بل "زيادة غير منضبطة في أعداد الفقراء" مقارنة بمعدلات نمو الغذاء والموارد. حسب نظريته، فإن المجاعات والأوبئة، وحتى الحروب، هي "آليات طبيعية" لإعادة التوازن في حال عجز الفقراء عن ضبط نسلهم.
لاحقًا، شكَّلت هذه النظرية الأساس الفكري لسرديات تحميل الفقراء مسؤولية فقرهم، لنجد الخطاب النيوليبرالي في العقود الأخيرة يغلِّفها بلغة تنموية حديثة حول "التمكين الفردي" و"الاختيار المسؤول" و"التخطيط الأسري". وفق هذا المنطق، يُقاس قرار الإنجاب بمدى قدرة الفرد على "ضبط خياراته" بغض النظر عن الظروف البنيوية المحيطة به. يُقدَّم الفقر باعتباره اختيارًا، لا قهرًا. ويصبح في ظل ذلك الإنجاب فعلًا يستدعي المحاسبة، لا الفهم.
في مصر، نجد هذه السردية راسخةً في خطاب الدولة، التي لم تُقدِّم الملف السكاني باعتباره قضية عدالة اجتماعية أو توزيع موارد بل أكبر خطر يهدد مسار التنمية. ومن هنا كان "الفلاح" أو "الصعيدي" هو البطل والمُستهدف الأول في جميع حملات التوعية، كونه سبب الأزمة والجاهل الذي يعرقل التنمية بكثرة إنجابه، بينما لم تستهدف الحملات أبدًا الطبقة المتوسطة والعليا من سكان المدن، رغم أن الكثيرين منهم لديه ما يزيد عن ثلاثة أطفال.
لا يتعلق الأمر فقط بحملة عيلين كفاية التي وظفت نجوم مثل أكرم حسني، وركّزت على الفلاح والصعيدي. فهناك تراكم تاريخي للخطاب الذي يعتبر الانجاب حقًا طبقيًا، يُرتِّب الإخلال به من قبل الفقراء انسحاب الدولة من كل شيء.
لن يُنتج اختفاء الفقراء مجتمعات أكثر عدلًا أو مساواةً بل سيخلق طبقات جديدة من الفقراء لسدّ الفراغ
في عهد مبارك مثلًا، بررت الحملات الإعلانية غياب الدولة عن التعليم والصحة بالزيادة السكانية. لكنَّ جذور ذلك تعود إلى الميثاق الوطني، حيث اعتبر جمال عبد الناصر الزيادة السكانية أهم عقبة تواجه الشعب المصري في كفاحه لرفع مستويات الإنتاج بصورة مطردة. فلا يُنظر إلى الفقر نتاجًا لسياسات أو اختلالات بنيوية، بل نتيجة مباشرة للإنجاب "غير المسؤول".
هنا تصبح الأسرة الفقيرة عالةً لا ضحية. ويُختزل سبب معاناتها في كثرة الإنجاب لا في غياب الحماية أو العدالة أو الحد الأدنى من شروط الحياة الكريمة. خطاب لا يراجع بنية السوق ولا تآكل الأجور ولا هشاشة الخدمات العامة، بل يوجّه إصبعه مباشرةً نحو جسد الفقير وخياراته الفردية.
لا يمكن الجزم بما إذا كان خطاب الدولة لعقود متتالية هو ما شكّل استهجان الطبقة الوسطى إنجاب الفقراء وتحميلهم مسؤولية فقرهم وإعادة إنتاجه، أم أن الدولة استمدت خطابها هذا من مُخيّلة الطبقة الوسطى، لكن المؤكد أن كلا الاحتمالين نما تحت وطأة الاقتصاد النيوليبرالي، وتغلغل الفردانية في جميع جوانب الحياة.
إعادة إنتاج الفقراء
في ليلة خريفية من نوفمبر/تشرين الثاني 1976، لم يكن سكان قرية أوتاور الهندية يتساءلون إذا كانت حملة تنظيم النسل ستصل إليهم أم لا، بل كان السؤال متى، وبأي قسوة. كان الطابع الريفي يغلب على القرية التي يعاني أغلب سكانها من الفقر الشديد. وانتشرت آنذاك حكايات عن زيارات متكررة لمسؤولين حكوميين ورجال شرطة يدعون الرجال للخضوع للتعقيم، المعروف آنذاك بـnasband.
وفي فجر 25 نوفمبر، مع حلول الثالثة بعد منتصف الليل، بدأ مكبر الصوت يعلو من المدرسة الحكومية القريبة يأمر كل رجل يتجاوز عمره 15 سنة بالتوجه فورًا إلى المدرسة للتسجيل. لكن ما تبع ذلك لم يكن تسجيلًا طوعيًا. حاصر القرية أكثر من 12 ألف شرطي، بعضهم على ظهور الخيل، مسلحين بالسيوف والبنادق. يتذكر فاجري، أحد سكان القرية، الذي كان حينها في الثلاثين من عمره "كانوا يضربون بالعصي من يتردد أو يتأخر، لم يكن أحد يجرؤ على الاختباء، فقد كانت الشرطة تقتحم البيوت وتفتشها".
حملة nasbandi، التي نُفِّذت خلال حالة الطوارئ في عهد أنديرا غاندي، أجبرت أكثر من 8 ملايين شخص على الخضوع للتعقيم، غالبًا من سكان القرى والمجتمعات المهمشة، بذريعة تحقيق "التوازن السكاني". ورغم ذلك لم يختفِ الفقر من الهند، بل على العكس. في كتابها الانتخاب غير الطبيعي، توثق الصحفية مارا هفيستندال كيف اتخذت الهند قرارًا استراتيجيًا بالسيطرة على عدد السكان بوصفه مدخلًا أساسًا للتنمية، بتشجيع ودعم من مؤسسات دولية وبلدان غربية. لكن النتيجة كانت كارثية على جميع المستويات.
في الاقتصاد الرأسمالي لا يُعالج الفقرُ من جذوره بل يُعاد تدويره لدفع عجلة السوق للأمام
وحسب دراسة أكاديمية نشرها الباحث الاقتصادي ريشاب سينها عام 2023، فإن سياسات فترة الطوارئ، التي كان من أبرزها التعقيم القسري في منتصف السبعينيات، سببت خسائرَ اقتصاديةً جسيمةً. ويخلص سينها إلى أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الهند عام 1985 كان يمكن أن يصبح أعلى بنسبة تتجاوز 70%، ومتوسط العمر المتوقع كان سيرتفع بأربعة أشهر إضافية، لو لم تُفرض تلك السياسات القسرية.
لم تكن الهند أول من انتهجت هذه السياسات، فقد شهدت الولايات المتحدة طوال القرن العشرين ممارسات مشابهة، لا تختلف كثيرًا من حيث البنية الفكرية وإن اختلفت في الأدوات. استهدفت النساء الفقيرات من السود واللاتينيات والسكان الأصليين، وعُقّمت الآلاف منهن دون علمهن أو بعد التهديد بالحرمان من المساعدات الحكومية، تحت مظلة قوانين الصحة العامة والرفاه الاجتماعي.
وبين عامي 1909 و1979، تعرض أكثر من 20 ألف شخص للتعقيم في ولاية كاليفورنيا وحدها، معظمهم من الفقراء والمهاجرين والأقليات العرقية. وأشاد هتلر شخصيًا بالنموذج الأمريكي، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي أظهرت "بدايات واعدة نحو مفهوم أفضل للمواطنة".
لكن على عكس ما رُوّج له، لم تسهم تلك السياسات في تخفيف الفقر، بل فاقمت من هشاشة المجتمعات المستهدفة، وعمّقت شكوكها في مؤسسات الدولة، وزادت من تهميش أفرادها.
فالخفض القسري لمعدلات الإنجاب لم يتوازَ مع أي نمو اقتصادي ملموس في هذه المناطق، لأن المشكلة لم تكن أبدًا في عدد الأطفال، بل في غياب العدالة وسوء توزيع الموارد والثروة. فالاقتصاد النيوليبرالي في نهاية الأمر قائم على استغلال وفرة العمالة الرخيصة التي يوفّرها أبناء الفقراء، لمراكمة ثروة أصحاب الأعمال.
فماذا لو توقّفت هذه الطبقات عن الإنجاب فعلًا؟ هل سينتهي الفقر باختفاء الفقراء؟ لن يُنتج ذلك مجتمعات أكثر عدلًا أو مساواةً، بل سيخلق طبقات جديدة من الفقراء لسدّ الفراغ. ستنزلق شرائح أخرى كانت تقف على حافة الفقر إلى موقع المستغَل الجديد، لأن بنية هذا النظام تتغذى على استمرار التفاوت وتقتات على من يمكن تعويضه بسرعة بأرخص تكلفة.
في الاقتصاد الرأسمالي لا يُعالج الفقر من جذوره، بل يُعاد تدويره لدفع عجلة السوق للأمام.
أوهام التطهير الطبقي
عندما يظل الفقير حبيس طبقته الاجتماعية ليصبح خروجه من الفقر استثناءً، يمكن اعتبار رفض ممارسة حقه في الإنجاب أشبه بدعوة صامتة إلى "تطهير طبقي طوعي". حين يُطلب من غالبية الشعب ألا يُنجبوا لأنهم لا يملكون ما يكفي، فالسؤال الحقيقي يصبح ماذا يتوقع هؤلاء إذا اختفى جميع الفقراء وأطفالهم؟
في كتاب اقتصاد الفقراء، يشير أبهيجيت بانيرجي وإستير دوفلو إلى ميل الخيال العام لتصور الفقراء كائناتٍ شديدةَ البساطة؛ إما ضحايا يفتقدون للعقل، أو أبطال ميلودراما تليق بشاشات الأفلام.
في ظل هذه التصورات، يسهل إطلاق الأحكام الأخلاقية المتطرفة على خياراتهم؛ فيكونون في المخيلة العامة كسالى أو مغامرين، نبلاء أو لصوصًا، غاضبين أو مذعنين، عاجزين تمامًا ومتطفلين على الغير أو مكتفين بذواتهم وبقضاء الله وقدره. أشرار يرتكبون الجرائم في من حولهم، أو أبطال في قصص صعود ملحمية، وجميعها تصورات تنبع من تلك الفجوة بين المخيلة والواقع، وتعكس فشلنا في فهم قراراتهم ضمن سياق بنيوي معقد، لا خيار فردي يستحق المحاسبة.
ومع زيادة العزلة الطبقية والمدن المسوّرة في السنين الأخيرة، وانحسار الفضاء العام أكثر وأكثر. لا يظهر الفقراء بشرًا عاديين، بل يكون ظهورهم في الغالب مرتبطًا بقصة تستنهض العزائم، أو في مشهد مأساوي وهم ضحايا لحادث سير في طريقهم لعملٍ قاسٍ. وهم في ذلك كله، إما ينتزعون الإعجاب، أو يستدعون الشفقة والرثاء، وفي كثير من الأحيان الغضب.
لكن، ما الذي يجعل الفقراء ينجبون أصلًا في ظل كل تلك المخاطر؟ هذا ما سنحاول التوقف عنده في المقال القادم.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.