بعد عشر سنوات من التطبيق الصارم لسياسات الفصل والاستبعاد الطبقي بإجراءات خشنة حاسمة، بلغ التمييز بين المواطنين محطة الخطاب الرسمي، لتصبح مصر "الجمهورية" الوحيدة التي تُقسِّم مواطنيها طبقيًا إلى فئاتٍ دُنيا وعُليا؛ فتمنح هؤلاء حقوقًا تحظرها على أولئك، مُستهلَّةً طريقًا قد نصل في آخرها إلى إلغاء الحظر الدستوري للرتب المدنية، وإحياء امتيازات نبلاء ولوردات العصور الوسطى ومنحها للأونرز من الإيچبشنز، وترْك عامّة المصريين يلعقون الفُتات خارج أسوار القلاع الجديدة وقد أصبح اسمها الكومباوندز.
يتصالح الجميع اليوم ليس فقط مع وجود ثنائية مصر وإيجبت التي تعكس اتساع الهوة الطبقية على نحو متسارع منذ 2014، لكن أيضًا مع الخطوط الغليظة الفاصلة بين العالمين لمنع اختلاط الحابل بالنابل، والحفاظ على شعور "الزبائن" في إيجبت بالتميز وتذكيرهم دائمًا بما يتمتعون به من امتيازات. ساعد على ذلك بشكل كبير تآكل المساحات التي كان المواطنون يجتمعون فيها على اختلاف طبقاتهم بندية ومساواة، مثل الجامعات الحكومية والحدائق والشواطئ العامة وملاعب الكرة، والمهرجانات والاحتفالات ذات الطابع الجماهيري العام.
وعلى أثر تدهور مستويات جودة الحياة في "مصر"، إذ يُفقر الناس وتُسلَب مواطنتُهم ويُهدر القانون بأنماط متكررة وتعمُّ الفوضى وتسود القذارة والزحام في الشوارع الخانقة حليقة الأشجار، وتنعدم الخصوصية ويقلُّ الأمان وتتردَّى خدمات التعليم والصحة والموصلات العامة؛ تتحول الحقوق الأساسية التي ينبغي على الدولة كفالتها للمواطنين جميعًا إلى حزمة من الامتيازات الطبقية تقدِّمها شركات التطوير العقاري بأثمانٍ باهظةٍ، لا تُدفع على هيئة نقودٍ فحسب.
ففي هذا السياق المنقسم، لم يعد امتلاك بيت في إيجبت مجرد رفاهية تناسب الأثرياء من الباحثين عن التميز، لكنه أصبح السبيل الوحيد للعيش في بيتٍ مشمسٍ جيد التهوية، يطل على شارع به رصيف تظلله أشجار، يمكن المشي فيه بكرامة وأمان بعيدًا عن أعين المتطفلين من المجرمين والمخبرين. ولم تعد المدارس الخاصة أو الدولية المُكلِّفة وجاهة اجتماعية بل ضرورة مع انهيار نظيرتها الحكومية. انتهى زمن الخدمات العامة، ولم يعد من سبيلٍ للحصول على بدائلها إلا بالعيش بين الأثرياء.
على هذا المنوال جرى تسليع الحقوق البديهية للمواطن بعد أن تآكلت في "مصر"، وتقديمها حصريًا في مجتمعات إيجبت المغلقة، التي تنظم شركات التطوير العقاري دخول المصريين إليها بعملية انتخاب طبقي واجتماعي مقيتة، أكسبتها صلاحيات واسعة حوَّلتها مع الوقت من مجرد شركات عاملة في السوق تبحث عن الربح والثروة، إلى كيانات سلطوية ناشئة تفرض على عملائها عقود إذعان جماعية، تحتكر بموجبها تنظيم اجتماعهم في محمياتها المغلقة.
الشركة "الدُّويلَة" وأعمال السيادة
تستند شركات التطوير والتسويق العقاري وغيرها من المؤسسات التي تقدم خدماتها في إيجبت، في حملاتها التسويقية بل وحتى في تعريفها لنفسها، على كونها تجمُّعات للصفوة تنتقي زبائنها بعناية وتقدم نمطَ حياةٍ كاملًا، لا مجرد عقار أو خدمة تعليمية أو ترفيهية.
نظرة متعجِّلة على الحقائق قد تجعلنا نصدِّق هذه الكذبة. فمثلًا؛ تزداد أسعار العقارات في المشروعات العمرانية الجديدة بمعدلات أعلى من زيادتها في وسط القاهرة، وهو تفاوت يمكن النظر إليه باعتباره آليةً للفرز أو الاستبعاد الطبقي. هذا صحيح طبعًا، لكن أيضًا لا ينبغي إغفال أنه ورغم هذا التفاوت، تبقى زيادة أسعار العقارات دون متوسط معدلات التضخم العامة، كما يلفت الباحث الاقتصادي أسامة دياب في تحليله الذكي، الذي يدفع فيه بأن العقارات في مصر تشهد، رغم ارتفاع أسعارها، انخفاضًا في قيمتها يعوقنا التضخم عن رؤيته.
كما أن الحاجة أصلًا إلى آليات الفرز والاستبعاد الطبقي والاجتماعي، مثل رفع الأسعار وإنترفيوهات قبول العملاء بل وحتى نمط العمران نفسه، لم تكن لتوجد لولا أن شركات التسويق العقاري التي تنظم إجراءات المرور إلى إيجبت وسَّعت نطاق عملائها، ليشمل "اللائقين" من زبائن حِزَم المواطنَة المُسلَّعة من أبناء الطبقة الوسطى، إلى جانب الباحثين عن الرفاهية والتميُّز من النخب الثرية الراسخة، وهي نخب لا يتطلب استهدافها وحدها كل آليات الفرز هذه.
يمكننا ملاحظة ذلك من تضخم وزن القطاع العقاري في الناتج المحلي المصري من 13.1% من إجمالي الناتج القومي عام 2011 إلى 19% في 2022. ليكون إلى جانب القطاعات المرتبطة به من صناعات وخدمات "الأكثر نموًا في السنوات الماضية بلا منازع"، كما يشير المحلل الاقتصادي عمرو عادلي، الذي يوضح أيضًا أن هذا النمو كان أغلبه في وحدات الإسكان الفاخرة داخل الكومباوندز والخدمات المرتبطة بها.
بتناغمٍ نادر إذن، تتوافق سياسات وإجراءات مؤسسات الدولة بتدمير "مصر" وجعلها مكانًا طاردًا غير صالح للعيش مع مصالح هذه الشركات وهي تُراكم المزيد من الثروة مع توسُّع نطاق عملائها الهاربين من هذا الجحيم إلى جنَّات الهدوء والراحة والخصوصية.
وتحت شعارات حماية هدوء هذه الجنَّات من "السرسجية"، وبدعوى أحقية كل شركة في تقديم سلعها وخدماتها لمن تشاء، مارست هذه الشركات تمييزًا ممنهجًا وهي تضع معاييرها الطبقية والاجتماعية لاختيار عملائها، ومارست وهي تفعل ذلك أدوارًا سلطوية وفرضت قرارات إلزامية على عملائها، كشرط لاستمرار تمتعهم بالسلع والخدمات التي اشتروها ودفعوا أثمانها بالفعل.
لا مكان في إيجبت لـ"المصريين" بلا كفيل ولم يعد مُرحَّبًا بهم هناك فرادى
فمثلًا، تُجري بعض شركات التطوير والتسويق العقاري مقابلات شخصية مع الراغبين في الشراء، وتستبعد بعضها النساء المحجبات، أو حملة المؤهلات المتوسطة الذين تفضل الكثير من المدارس عدم قبول أبنائهم لديها أيضًا، جنبًا إلى جنب مع أبناء المطلقات. أما في المنتجعات الساحلية وأماكن الترفيه، فيستبدل بالمقابلة الشخصية المسبقة الاطلاع على حسابات السوشيال ميديا، ولا عزاء للراغبين في الخصوصية.
هكذا إذن يتسابق سكان "مصر" الذين تحققوا ماديًا لدرجة تسمح لهم بالسعي للعيش في إيجبت، على استيفاء الشروط التي تطلبها شركات التطوير العقاري وغيرها قبل إنترفيوهات القبول، في مشاهد تشبه توافد طالبي التأشيرات على السفارات الأجنبية. ومثلما تُرتِّب تأشيرة السفارة حق الدخول وبعض الامتيازات، يفعل الـ pass code الذي تمنحه الشركة/الدُّويلَة.
ولا تتوقف السلطوية بعد البيع. فمثلًا، تُلزم عدة شركات تطوير عقاري، اطَّلع كاتب هذه السطور على عقد شراء عقار من إحداها، المشتري باستكمال تشطيبات منزله عبر شركة معينة تحددها له، وإلا فعليه إيداع مبلغ تأمين إلى أن يُنهي العمال الذين جلبهم إلى الكومباوند أعمال التشطيبات. وإلى جانب هذا الارتهان، يتنازل صاحب العقار عن أي حق له في تعديل تشكيل واجهة بيته، ولو حتى ضمن قواعد عامة يتوافق عليها مجتمع السكان وفق أي آلية جماعية.
في إطار بحثهم عن حقوق المواطنة الضائعة، يتهافت المصريون على إيجبت بحثًا عن حدٍّ أدنى من العيش اللائق. ثم إنهم في رحلتهم هذه، يُجبرون على التنازل عن بديهيات المواطنة، وهم يخضعون لعقود إذعان جماعية كسرت بها هذه الشركات احتكار مؤسسات الدولة المنتخبة إصدار القرارات المُلزمة، لأن البديل هو البقاء في "مصر"، وأغلب من هناك تعتبرهم جمهورية مصر العربية، رسميًا، مواطنين من الدرجة الثانية.
مناطق التماس الطبقي وإدارتها
إلى جانب منح تأشيرات دخول مجتمعاتها المغلقة في وجه الآخرين، ثم انفرادها بتنظيم الاجتماع المشترك بداخل هذه المجتمعات المغلقة، اتسع نطاق أعمال السيادة التي تمارسها هذه الشركات، ليُضاف إليها كذلك إدارة مناطق التماس الطبقي التي يجتمع فيها أبناء العالمين، وقد أصبحت نادرة بعد تآكل مساحات الاجتماع العام، وتقتصر تقريبًا على التأمين وتقديم الخدمات، ومن بينها أعمال التشطيب التي ترتهن الشركات إرادة المُلَّاك بشأنها في عقود الإذعان التي تفرضها عليهم.
علّة شرط إيداع مبلغ تأمين في حال لم يرغب العميل في التعاقد مع الشركة التي حددها له المطور العقاري، أن لا مكان في إيجبت لـ"المصريين" بلا كفيل. فكل "المصريين" هناك موظفون أو عمال يتبعون شركةً ما تنظم وجودهم في المكان وتضبط سلوكهم وأفعالهم. لذلك، يبدو طبيعيًا في هذا السياق أن يلتزم الساكن بإيداع مبلغ تأمين إذا أراد جلب عمال من الخارج يُشطِّبون شقته، فهو المسؤول عنهم. بات "المصريون" مشتبهًا بهم ابتداءً في إيجبت، ولم يعد مُرحَّبًا بهم هناك فرادى.
باحتكارها تنظيم مناطق التماس الطبقي الذي بات شيئًا نادرًا، تغلِّظ شركات التطوير العقاري خطوط العزل الطبقي بين العالمين، وتبقيه دائمًا تحت أعينها. ومثلما كذبت وهي تسوِّق أنها تبني مجتمعات لا يدخلها سوى الصفوة، كذبت أيضًا وهي تدَّعي أنها مجتمعات آمنة ومستدامة، إلا إذا كانت نظرتها قاصرةً على ما تحت قدميها الآن. لأن صيغة التعايش هذه لا تخلق إلا مجتمعات هشة.
فمن ناحية، لا تتمتع الشركات بما تتمتع به الدول والحكومات من استقرار راسخ بل تبقى رهينة السوق وتقلباتها، وهي تقلبات عنيفة. ومن ناحية أخرى، من المستحيل ماديًا استمرار السيطرة التامة المستدامة على مناطق التماس الطبقي طوال الوقت.
تاريخيًا، احتكرت السلطة السياسية حق المصريين في التنظيم والإدارة وأساءت استخدامه باسمهم. صدرت القوانين عن برلمانات قلَّما كانت منتخبة ووُضعت السياسات عبر حكومات لم تمثِّل المصريين يومًا، ولكن كل ذلك كان يصدر باسم الشعب ودفاعًا عن مصالحه ولو نظريًا، وكان هناك إدراك بأهمية مراعاة الكثير من التوازنات أثناء تنظيم الاجتماع المشترك.
أما في الجمهورية الجديدة، فالقواعد المنظمة لاجتماع مواطني الدرجة الأولى باتت تُصاغ في اجتماعات موظفي شركات التطوير العقاري، وتكتسب إلزاميتها من انقسام المجتمع الذي يجعلها، على بؤسها، أفضل بديل لكلِّ فردٍ على حدة. وإن كان ذلك لن يجعلها بديلًا مستدامًا، لأن من شروط الاستدامة، أن يتحقق الحدُّ الأدنى من مصالح الملايين خارج الأسوار، دون الحاجة بهم إلى استجداء الدخول.