زاد الجدل مؤخرًا في مصر بشأن إمكانية انفجار فقاعة عقارية، وشمل هذا الجدل حديث مجتمع الأعمال ذاته، وهو الأمر الذي عادةً ما يُناقش باعتباره خطرًا قد يُسبِّب المزيد من المصاعب لاقتصاد يعاني أزمة حادة بالفعل.
وبينما تُرجِّح بعض التحليلات المنشورة مؤخرًا أن يؤدي انفجار الفقاعة لانهيار أسعار العقارات، أجادل في هذا المقال بأنَّ أسعار العقارات تهبط بالفعل منذ سنوات لكنَّ معدلات التضخم المرتفعة تخفي هذا الهبوط وراء زيادات الأسعار الاسمية.
كثيرًا ما يلعب القطاع العقاري دورًا محوريًا في دفع النمو الاقتصادي في الاقتصادات الطرفية. يحدث هذا لعدة أسباب: أولًا، لأن الاقتصادات الطرفية عادة ما تشهد معدلات نموٍّ سكانيٍّ أعلى من الاقتصادات المركزية، ما يخلق طلبًا دائمًا على السكن. وثانيًا لأنه، ومع غياب التنافسية والوصول لحدود التصدير الاقتصادية والبيئية القصوى، تجد الكثير من الاقتصادات الطرفية نفسها عاجزةً عن زيادة أرباح التصدير أو إحلال الواردات، لأسباب لها علاقة بالاحتكارات العالمية ونظام التقسيم الدولي للعمل وتوفر التكنولوجيا ورؤوس الأموال.
في هذه الأجواء، يظهر التوسع العقاري كحلٍّ سهلٍ وسريعٍ لأزمة الاستثمار والتشغيل والنمو، كونه سلعةً غير قابلة للتداول/non-tradable good يستحيل استيراده أو تصديره. سأستعير في هذا المقال توصيف أستاذ الجغرافيا الحضرية والاقتصادي ديفيد هارفي لهذه الظاهرة في الصين، وهو "التوسع الحضري الطائش/mindless urbanisation". يعبِّر المفهوم عن التوسع الحضري الكبير والسريع لأغراض كثيرة ليس السكن أحدها، مثل دفع النمو وخلق فرص عمل وتوفير مخزن للقيمة في ظل معدلات تضخم عالية، فضلًا عن امتصاص فوائض رؤوس الأموال.
عادة ما ينتج عن هذا الطيش ارتفاع معدلات حجز الوحدات العقارية، وفي أحيان كثيرة ترتفع معدلات الحجز بالتزامن مع أزمة سكن، حيث توجد ملايين المساكن الشاغرة بنيت للتعامل مع أزمة اقتصادية، لكن الأزمة الاقتصادية ذاتها تجعل قطاعًا كبيرًا من السكان غير قادر على تحمل تكلفة شراء مسكن من الأساس.
مهمة التضخم المزدوجة
في هذا السياق، السؤال الذي شغل بال كثير من المصريين الذين يختبرون هذا التوسع الحضري الطائش بشكل يومي، هو لماذا تظل الأسعار في ارتفاع كبير، يبدو مجنونًا أحيانًا، رغم كل هذا التوسع العمراني؟
تتمحور إجابات المدافعين عن هذا التوسع حول أمرين رئيسين: الأول هو أنَّ الطلب على العقار سيستمر في ظلِّ الزيادات السكانية الكبيرة، والثاني أنَّ القطاع التمويلي في مصر، خاصة فيما يتعلق بالرهن العقاري، ليس متطورًا بما يكفي ليخلق طلبًا مزيفًا يؤدي فيما بعد إلى فقاعة.
يخفي التضخم الفقاعة العقارية بسبب استحالة رؤية أسعار العقارات تهبط رقميًا
لكن هناك إجابة ثالثة لا يُقدِّمها أحد، وهي أننا ببساطة لا نستطيع رؤية أي انخفاض بسبب معدلات التضخم المرتفعة. لأن ارتفاع معدلات التضخم يزيد أسعار كل السلع والخدمات اسميًا، ولكن حساب ما يحدث وفقًا للقيمة الحقيقية مسألة أكثر تعقيدًا.
يزيد هذا التعقيد عندما يرتبط الأمر بالعقارات، لأن جزءًا كبيرًا منها لم يكن موجودًا منذ عشر سنوات لنتتبع تطور قيمته الحقيقية. كما أن تطور قيمتها يرتبط بالظروف المحددة لمشروعات بعينها، مثل العاصمة الإدارية الجديدة والساحل الشمالي.
تعدُّ المشروعات العمرانية الجديدة في مصر حالة فريدة، فهي على مدار تاريخها، بداية بالمهندسين ومدينة نصر في الفترة من الستينيات إلى الثمانينيات امتدادًا إلى 6 أكتوبر في التسعينيات والقاهرة الجديدة في مطلع الألفية، ترتفع الأسعار فيها بوتيرة أسرع من المدن القديمة.
يظهر هذا بوضوح في عقارات القاهرة الجديدة مثلًا، فوفقًا لموقع عقار ماب، زادت أسعار الشقق هناك العام الماضي بنسبة 33.45%، فيما بلغ معدل الزيادة 24% فقط في مناطق وسط القاهرة. تعكس أيضًا عروضُ الشقق على السوشيال ميديا الحالات السعرية المتطرفة مما يعزز من الانطباع بالزيادات الحادة في الأسعار.
بالإضافة إلى ذلك، يُجبر الدفع غير الفوري وبالتقسيط، في ظل معدلات تضخم وفائدة مرتفعين للغاية، المطورين، على زيادة السعر بشكل حاد، آخذين في اعتبارهم التضخم المستقبلي. من المعروف حاليًا أن الشراء من خلال الدفع الفوري قد يصل لنصف سعر الشراء بالتقسيط.
يحارب التضخم الفقاعة ويخفيها في الوقت نفسه. يحارب الفقاعة من خلال تحفيز الطلب على العقارات للحفاظ على قيمة النقود من التآكل بفعل التضخم، ويخفيها كما ذكرنا بسبب استحالة رؤية أسعار العقارات تهبط رقميًا.
قيمة العقار نسبة إلى الدولار والذهب
لكن لتقريب الصورة، دعنا ننظر إلى تطور أسعار العقارات وفق مؤشرات أوسع نطاقًا، تشمل عقارات موجودة في أحياء قديمة لا تخضع لآليات المجتمعات العمرانية الجديدة من الزيادات الكبيرة المرتبطة بحداثة المشروع والمنطقة، ثم نحسب قيمتها الذهبية أو الدولارية.
وفقًا لمؤشر عقار ماب، فمنذ عام 2013 زادت أسعار الشقق حوالي ثلاث مرات ونصف، أي لو كان هناك عقار ثمنه نصف مليون جنيه عام 2013، فإن قيمته اليوم نحو مليون و750 ألف جنيه. لو حولنا تلك القيمة من الجنيه للدولار أو الذهب سيتضح مستوى انخفاض أسعار العقارات الحقيقية. فالقيمة الدولارية لهذا العقار كانت نحو 71 ألفًا و500 دولار في 2013، بحساب أن الدولار قيمته 7 جنيهات وقتها. أما الآن فتبلغ قيمة العقار نفسه نحو 36 ألف دولار وفق أسعار الصرف الحالية. جدير بالذكر أن سعر الدولار نفسه انخفض كثيرًا خلال العقد الماضي.
أما بحساب قيمة الذهب، فكانت قيمة العقار المشار إليه في 2013 تساوي حوالي 1428 جرامًا، بحساب سعر الجرام بـ350 جنيهًا. أما الآن فقيمة العقار تساوي 450 جرامًا بحساب 4000 جنيه لسعر الجرام.
قد يبدو هذا صادمًا، وبالطبع الواقع أكثر تعقيدًا من هذا المثال البسيط، لأن المسألة تختلف حسب المنطقة والمدينة وطرق السداد، وما إذا كانت السوق أولية أم ثانوية وما إذا كان التسديد نقدًا أم بالتقسيط. لكن بالنظر إلى تقرير أصدره Global Property Guide يقارن فيه تطور الأسعار الاسمية والحقيقية للعقارات، نجد أن القيمة الحقيقية للعقارات قلَّت إلى النصف تقريبًا خلال العقد الماضي.
وفقًا لهذا الإحصاء، زادت حدة هذا الهبوط في سنوات التضخم المرتفعة بدءًا من عام 2017، ما يؤكد على هذا التحليل أيضًا هو ارتفاع معدلات الوحدات الشاغرة في العاصمة، فوفقًا لأرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء نقلًا عن مرصد العمران، فإن معدل شغور العقارات في القاهرة الكبرى بلغ 44%.
هل الركود يساوي الفقاعة؟
انهار النظام المالي في الولايات المتحدة في عام 2008 بسبب انهيار قيمة العقارات نتيجة عجز مقترضي الرهن العقاري عن تسديد قيمة القرض. في ظل ذلك النظام يضمن البنك أمواله عبر الاستحواذ على العقار في حال تخلف صاحبه عن سداد القرض، فيكون العقار هو غرض القرض والضامن له في الوقت نفسه.
نموذج الانهيار المالي الناتج عن الفقاعة العقارية غير وارد الحدوث في مصر على الغرار الأمريكي
لكن مع تخلف نحو 30% من أصحاب الرهن العقاري عن السداد، لم يغطِّ بيع هذه العقارات التي تعثَّر أصحابها، وعددها نحو ثلاثة ملايين، خسائر البنوك، مما أدى إلى إفلاس الكثير منها. نتيجة لذلك، انخفضت أسعار العقارات في الولايات المتحدة لخمس سنوات على التوالي من 2007 إلى 2011 بمعدل إجمالي بلغ نحو 35%.
لا تقدم البنوك في مصر تمويلًا مباشرًا لشراء سكن في مصر في شكل رهن عقاري إلا في أضيق الحدود، وبالتالي نموذج الانهيار المالي الناتج عن الفقاعة العقارية على غرار ما جرى في الولايات المتحدة غير وارد الحدوث على الغرار الأمريكي. لكن ما زال النظام المالي متورطًا بشكل كبير في القطاع العقاري من خلال تمويل المطورين، إذ تستحوذ قطاعات الإنشاء والبناء والتطوير العقاري على نحو ثلث حجم ما يدبره تمويل البنوك لأكبر مائة شركة في مصر.
رغم المكاسب الكبيرة التي يحققها المطورون حاليًا، واعتمادهم على العقارات الجديدة وانخراطهم في السوق الأولية التي تتبع منطقًا مختلفًا، فهذا لا يعني أن القطاع في مصر في مأمن كامل من الأزمات. ففي الصين في عام 2021 هدد إفلاسُ شركة إيفر جراند، إحدى أكبر مطوري العقارات في العالم، كنتيجة مباشرة للتوسع الحضري الطائش هناك، الاقتصادَ الصيني كله، الذي يشكل أكثر من خُمس الاقتصاد العالمي، ويتميز بقدرٍ كبيرٍ من التنوع ويوجد به قطاع تصنيعي وتصديري قوي، وتصعد في ظله طبقة متوسطة عريضة ذات قدرات شرائية متزايدة، على عكس ما حدث للطبقة المتوسطة في مصر.
خطورة التضخم، بالإضافة إلى كل الأخطار المعروفة، هي أنه يجعلنا لا نلتفت للاعتماد المفرط على الإنشاء والعقار كالمحرك الرئيسي للاقتصاد، ويؤدي إلى احتفاء كبير بالقطاع العقاري كوجهة مثالية للاستثمار بسبب زيادات الأسعار الاسمية. ببساطة، عندما يكون العقار هو قاطرة النمو، فتراجع الطلب عليه وانخفاض سعره يعني معاناة النمو والاقتصاد ككل.
بعبارة أخرى، حتى لو كان هناك اختلاف بشأن التعريفات الفنية للفقاعة العقارية، بسبب ارتباطها بالقطاع التمويلي المتنامي، والجدل الفني بشأن ما إذا كانت مصر تشهد فقاعةً أم تباطؤًا أم ركودًا أم ازدهارًا، فالمؤكد هو أن تحميل القطاع العقاري مهامَ اقتصادية تفوق دوره الوظيفي يُعرِّض الاقتصاد لمخاطر الهشاشة والتباطؤ بل وحتى الركود.
يلعب التضخم دورًا مهمًا في تعطيل القدرة على التصحيح الذاتي، من خلال منع إعادة توجيه رأس المال والمدخرات والاستثمارات الحكومية لقطاعات أخرى، أو حتى لأنماط وفلسفات أخرى للتطوير العقاري تعطي أولوية للقيمة الاستخدامية للعقار، مستهدفةً بذلك حلَّ أزمة السكن، بينما يجب التركيز على قطاعات أخرى كثيفة العمالة وذات بعد اجتماعي، مثل الرعاية الصحية، التي يصل حجمها في بعض البلدان إلى 14% من الناتج المحلي، بينما في مصر حجمها أقل من 5%، لخلق فرص عمل ودفع النمو.