ناقشت في مقال الشهر الماضي كيف أن الأصل في أزمات النقد مثل التي نشهدها في مصر حاليًا، برجع للتبادل اللا المتكافئ الناتج عن أنظمة وسياسات التسعير، أكثر من كونه ناتجًا عن تبادل مادي لا متكافئ، أي أن العجز التجاري النقدي في ميزان أي بلد لا يعني بالضرورة أنه استورد بأكثر مما صدَّر، إذا حسبنا قيمة الصادرات والواردات بما تتطلبه من موارد طبيعية وقوة عمل بشرية، فيما يطلق عليه "شروط المقايضة التجارية". بالتالي لا يمكن اعتبار التوازن النقدي في التبادل وحده دليلًا على التكافؤ.
قد يتبادر إلى الذهن أن التحول للتصنيع التصديري هو الحل للخروج من مأزق التبادل اللا متكافئ، وهي الفكرة التي سيطرت على المخيلة التنموية لدول الجنوب في مراحل ما بعد الاستعمار، الأمر الذي كان منطقيًا عندما احتلت المنتجات المصنعة قمة هرم القيمة المضافة، فيقول مثلًا فولكر فروبيل، مؤلف كتاب التقسيم الدولي الجديد للعمل الصادر عام 1981، إن "احتمال أن تحول بعض الاتجاهات المستقبلية داخل النظام العالمي الرأسمالي بعض البلدان النامية الحالية إلى مجتمعات رأسمالية صناعية مع نموذج تراكم مماثل، لم يعد من الممكن استبعاده عن الحسبان". لكن السؤال الذي يطرحه هذا المقال هو ما إذا كان التصنيع، خاصة التصديري منه، ما زال هو الحل التنموي الأمثل لدول الجنوب للتفاوض على موقع أفضل لنفسها في التقسيم الدولي للعمل؟
على الرغم من استمرار لفظ "البلدان الصناعية الكبرى" لوصف دول الشمال الأغنى، فإن التصنيع يشكل حاليًا نحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل في مقابل نحو 13% فقط من الناتج المحلي الإجمالي للدول مرتفعة الدخل (أنظر الشكلين 1 و2 أدناه). على الجانب الآخر تمثل الخدمات أكثر من 70% من إنتاج الدول مرتفعة الدخل في مقابل 54% من الدول منخفضة الدخل. بهذا المعنى أصبحت دول الجنوب هي الدول الصناعية، فيما يمكننا أن نطلق على البلدان الغنية "البلدان الخدمية الكبرى".
هل يعني هذا أن فرضية بريبش-سينجر التي تعود لسنة 1950 عندما كان التصنيع مرادفًا للقيمة المضافة العالية، والتي تجادل بأن أسعار السلع الأولية تقل نسبة لأسعار السلع الأولية مع مرور الزمن واضعة دول الجنوب في وضع هش، وكنا ناقشناها أيضا في مقال الشهر الماضي، كانت فقط بنت زمانها ولم تعد صالحة بعد انتقال التصنيع لبلدان للجنوب وخفض اعتمادها على إنتاج وتصدير السلع الأولية؟
جادل هانس سينجر في ورقة أحدث نُشرت عام 1999 بأن التصنيع المتنامي في الجنوب وتراجع التصنيع المتزايد في الشمال لا يبطل فرضيته هو وراؤول بريبش. على العكس من ذلك، يرى سينجر أنه مع زيادة حصة الصادرات المصنعة من بلدان الجنوب، يصبح من الضروري وقف الحديث عن "تحديد شروط التجارة بين السلع الأولية والسلع المصنعة [...] وإجراء دراسات منفصلة عن شروط التجارة بين المواد المصنعة بينها وبين بعضها". توصل سينجر في سنواته الأخيرة إلى إدراك أن التصنيع بحد ذاته لا يعد خلاصًا من تدهور شروط المقايضة التجارية، كما كان الوضع في خمسينيات وستينيات القرن العشرين.
منذ أن كتب سينجر ورقته في نهاية التسعينيات، تعمقت بشكل كبير تكامل عمليات الإنتاج العالمية، بحيث أصبحت مراحل تصنيع المنتج الواحد تمر عبر بلدان عدة فيما يعرف بسلاسل القيمة العالمية. تظهر أيضًا نماذج توزيع القيمة عبر سلاسل القيمة العالمية أن جزءًا متزايدًا من القيمة المنتزعة يذهب للمراحل الخدمية ما قبل التصنيع (مثل البحث والتطوير والتصميم) وما بعده (مثل التوزيع والتسويق) وجزءًا متناقصًا يذهب لعملية التصنيع التحويلي الوسطى، فيما يسمى بنموذج الابتسامة الآخذة في الكبر Growing Smile.
مثلما هو الحال في علاقة السلع الأولية بالثانوية كما رصدها بريبش وسينجر سنة 1950، فنحن الآن أمام موقف شبيه في علاقات السلع الملموسة بكل أنواعها (الخام والمصنعة) بالخدمات، وعلاقة مراحل الإنتاج الموزعة جغرافيًا ببعضها البعض، حيث تقل فيه قيمة مدخلات الإنتاج الملموسة في مقابل الخدمية، ومراحل التصنيع في مقابل مراحل الإنتاج الأخرى.
تتحدى هذه الرؤية نظرة جماعات اليمين القومي في دول الشمال بأن الغرب فشل في منافسته مع الصين، التي نجحت في الاستيلاء على عشرات ملايين الوظائف من دول الشمال. قد يكون صحيحًا أن دول الشمال خسرت ملايين الوظائف وأثَّر هذا قطعًا على الطبقات العاملة من أصحاب الياقات الزرقاء هناك، ومن ضمنها المنطقة المسمّاة "حزام الصدأ" (rust belt) في الولايات المتحدة والتي ساهمت في فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية في 2016، وبالتالي كان من أهم مطالبات داعمي ترامب في الولايات المتحدة، ومؤيدي انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، أن تعود المصانع والوظائف الصناعية التي نزحت إلى الصين.
لكن المثير للتأمل هنا هو أن معدلات التشغيل في آخر ثلاثة عقود انخفضت كثيرًا في الصين بينما ظلت مستقرة في دول الشمال رغم "نزوح" الوظائف إلى هناك.
على الرغم من تأثير هذا التحول على المجتمعات القائمة على وظائف الياقات الزرقاء في دول الشمال، لكنه كان قرارًا واعيًا بـ "التنازل" عن هذه الوظائف من رأس المال في ذات البلدان. لكن ما هي القوة المحركة والدوافع وراء هذا "التنازل"؟
يجادل إيمانويل والرشتاين بأن ما يشكل المنتجات المركزية/ الطرفية متغير وعلائقي وطبيعته ليست ثابتة، ما يعني أنه لا يتجسد بالضرورة في ثنائية المواد الخام مقابل المواد المصنعة، ولكن المعيار الذي تتحدد على أساسه طبيعة السلع التي تنتجها دول المركز، وفقًا لوالرشتاين، هي الأنشطة ذات الطابع الاحتكاري سواء كانت صناعية أو خدمية، الأهم أن تكون مولدة لأعلى قيمة مضافة محققة بطبيعة الحال أعلى دخل ممكن لرأس المال في هذه الدول.
بعبارة أخرى، ممكن اعتبار عمليات الإنتاج المركزية هي عمليات "شبه" احتكارية في حين أن عمليات الإنتاج الطرفية تكون تنافسية. يقول والرشتاين "عندما يحدث التبادل، تكون المنتجات التنافسية في وضع ضعيف وتكون المنتجات شبه الاحتكارية في وضع قوي. نتيجة لذلك، يحدث تدفق مستمر لفائض القيمة من منتجي المنتجات الطرفية إلى منتجي المنتجات المركزية. هذا ما يسمى التبادل اللامتكافئ".
المعيار إذن هو مدى احتكارية أو تنافسية النشاط وهي طبيعة متغيرة وليس متأصلة في نشاط محدد، فالأنشطة الاقتصادية، وفقًا لوالرشتاين، عادة ما تبدأ كأنشطة احتكارية أو شبه احتكارية ومع الوقت يدخل مزيد من اللاعبين الجدد في السوق، وتتحول مع الوقت إلى نشاط تنافسي. مع ازدياد حدة التنافسية ينقص معدل القيمة المضافة والربحية. التراكم الرأسمالي السريع والحاد المُمَيِز للمركز الرأسمالي هو إذن تراكم احتكاري بالتعريف، ويستشهد والرشتاين هنا بقول بروديل إن الرأسمالية هي "تضاد السوق" contremarche، ويعتبر أن الربط بين الرأسمالية والسوق الحر ما هو إلا محض هراء.
بناء على تلك الحجة، يمكن أن يصبح التصنيع، الذي كان في الماضي عملية إنتاج مركزية بسبب التقنيات المتطورة التي مكنت عددًا قليلًا من اللاعبين الكبار من السيطرة على السوق، عملية إنتاج طرفية بمجرد أن تصبح هذه التكنولوجيا أرخص ومتاحة على نطاق أوسع. لذلك، من الخطأ الحكم على التحول الصناعي للصين، أو دول الجنوب العالمي الأخرى، وفقًا لمعايير القرن التاسع عشر أو حتى معايير القرن العشرين.
يقول والرشتاين إنه بما أن الاحتكارات لا تصمد طويلًا "فإن إنتاج المركز اليوم سيصبح إنتاج الطرف غدًا". تأكد هذه الرؤية ما تم ذكره في مقالة الشهر الماضي عن حقنة الطفل رشيد التي يبلغ سعرها مليوني دولار بسبب احتكار الشركة المصنعة لإنتاجها، والتي بلغت إجمالي مبيعاتها أكثر من 50 مليار دولار العام الماضي، أو حوالي سُبع الدخل القومي المصري. مع انتشار المعرفة الخاصة بتصنيع هذا العلاج وانتهاء فترة احتكاره سوف ينخفض سعره وغالبًا ما سوف ينتقل تصنيعه إلى المناطق الطرفية.
بالنظر أيضًا لأرقام متوسط القيمة المضافة للفرد في دول الجنوب العالمي ودول الشمال العالمي نجد أن الفجوة ما زالت شديدة الضخامة ولا يبدو أن هناك مؤشرات على انحسارها بالرغم من الانتقال المتسارع للصناعة إلى الجنوب. ففي حين أن العديد من بلدان الجنوب العالمي عملت على زيادة قيمتها المضافة، في معظم الحالات كانت هذه الزيادة فقط بالمقارنة بمعدلاتهم السابقة، ولكن بالمقارنة مع المركز الرأسمالي، تظل الصورة دون تغيير إلى حد كبير (أنظر الشكلين أدناه عن القيمة المضافة للعامل في القطاعات الخدمية والصناعية في البلدان متوسطة ومنخفضة الدخل في مقابل البلدان مرتفعة الدخل).
لا يعني كل هذا بالطبع عدم جدوى التصنيع، فالتصنيع لاستيفاء طلبات السوق المحلي وتحقيق الرفاه وخلق فرص عمل لا غنى عنه، لكن المقال يتحدث بشكل رئيسي عن جدوى التصنيع التصديري كحل لأزمة النقد وعجز الميزان التجاري. ويأخذنا هذا لضرورة الحديث عن تعميق السوق المحلي خاصة أن بالرغم من معاناة مصر من عجز تجاري ضخم ومزمن فإن في عام 2015 بلغ صافي صادرات المواد الخام نحو طنين لكل نسمة وصافي صادرات الطاقة 1.6 جيجا جول لكل نسمة (وهو ما يكفي لتشغيل ثلاجة منزلية لمدة سنة)، وفقًا لبحث صدر العام الماضي.
في ظل عدم استدامة النموذج الاقتصادي القائم على تصدير المواد الخام أو حتى التخصص في الجزء التصنيعي من سلاسل القيمة العالمية، سنناقش في مقالة الشهر القادم كيف أن تعميق السوق المحلية قادر ولو جزئيًا على الحد من الاعتماد على العلاقات التجارية غير المتكافئة.