في أغسطس/آب الماضي، أعلنت شركة إيفرجراند الصينية العملاقة إفلاسها، بعد نحو عامين من التعثر المالي.
إيفرجراند هي ثاني أكبر مطور عقاري في الصين، التي يمثل قطاع العقارات 30% من اقتصادها، الأكبر عالميًا بعد الولايات المتحدة الأمريكية.
يخشى كثير من المحللين والمعلقين أن يكون إفلاس إيفرجراند بداية لانهيار قطاع العقارات الصيني برمته، بما يُشكله ذلك من تهديدات بانهيار القطاع المالي، في ضوء توسّع البنوك في تمويل عمليات البناء والتشييد والرهن العقاري لذات الشركات العملاقة، التي تعاني من تدهور قيمة أصولها، ومن ثَمَّ صعوبة كبيرة في تدبير المبالغ اللازمة لسداد مستحقات البنوك.
قد تذكرنا أزمة الصين بالانهيار المالي العالمي الذي بدأ بالولايات المتحدة في 2008 إثر أزمة الرهن العقاري.
وعلى الرغم من أن ميكانيزمات الأزمة في الصين تختلف عن الولايات المتحدة، إلا أن الجامع بين الحالتين هو الاستثمار الكثيف في قطاع العقارات، وما يرتبط به من صناعات وخدمات في مجالات البناء والتشييد والتسويق العقاري.
تقع كوارث عندما تنخفض قيمة أصول قُيّمت في مضاربات وقتية
وينشأ هنا المثلث الخطير؛ أصول عقارية مُبالغ في تقييمها، وقطاع مالي، في حالة الصين مصرفي، مكشوف أمام المطورين العقاريين الكبار من فرط التوسع في الائتمان؛ عندما كانت الأصول أعلى من قيمتها نتيجة للمضاربة بالأساس، وأما الضلع الأخير فهو وزن القطاعين العقاري والمالي الكبير للغاية في الاقتصاد الكلي، وبالتالي التهديد الذي يمثله اهتزازهما، ناهيك عن انهيارهما، لعامة الناس، وللاقتصاد العالمي في حالة قوى عظمى كالصين أو الولايات المتحدة.
أسباب الأزمة الصينية
يُفسر البعض تضخم قطاعات الأصول العقارية في العقود القليلة الماضية، في الاقتصادات الكبيرة كأزمات ناتجة عن ضخامة الفوائض المالية، أي أموال تفيض عن الاستهلاك، ومن ثم يتم ادخارها سواء على مستوى الأفراد أو الشركات أو الحكومة، ويلزم بالطبع البحث عن منافذ لاستثمار تلك الأموال وإلا فقدت قيمتها عبر الزمن.
ومن هنا يتم تدوير الفوائض المالية في أصول من المأمول أن تزداد قيمتها مع الوقت، ولذلك تقع كوارث عندما تنخفض قيمة تلك الأصول، أو يتضح أن قيمتها كانت مقدّرة أثناء مضاربة وقتية أكثر من أي عنصر آخر ثابت.
وتُعد الصين حالة نموذجية لمشكلات البحث عن منافذ استثمارية، لتراكم بالغ الضخامة نتج عن نمو الاقتصاد الصيني الصاروخي خلال الأربعين سنة الماضية.
تُظهر بيانات البنك الدولي أن متوسط إجمالي المدخرات المحلية في الصين، كنسبة من الناتج المحلي، منذ سنة 2000 وحتى 2022، بلغ 45.63%.
أتدري ما يعنيه هذا؟ أنَّ نحو نصف الناتج المحلي للصين لا يُنفق على الاستهلاك بل يتم ادخاره، وهو مؤشر على قدرات هائلة للتراكم، تُرجم إلى معدلات استثمار هي ضمن الأعلى في العالم في نفس الفترة؛ إذ بلغ التكوين الرأسمالي الإجمالي 42.24% من الناتج المحلي الصيني، وكان معدل نموه السنوي 10.93%!
لكن أتدري ما هو أشد إثارة للدهشة من الأرقام التي سجلتها الصين في السنوات العشرين الماضية؟ هو أن تُظهر اقتصادات تعاني من ضعف مزمن في معدلات الادخار والاستثمار، مثل مصر، أعراضًا شبيهة بتخمة الأصول العقارية جراء الاستثمار المبالغ فيه في هذا القطاع، والمضاربات الكبيرة على قيمة الأصول.
نمط التراكم في مصر
قفز وزن القطاع العقاري النسبي في الناتج المحلي المصري من 13.1% في 2011 إلى 19% في 2022، أي بزيادة تقترب من 6% خلال عشر سنوات.
لن تشكّل هذه الأرقام مفاجأة لأحد، متخصص أو غير متخصص. جليِّ أن القطاع العقاري، وما ارتبط به من عمليات بناء وتشييد، وصناعات وخدمات أخرى، كان الأكثر نموًا في السنوات القليلة الماضية بلا منازع. اشتمل هذا على الاستثمارات العامة والخاصة على حد سواء، واستوعب الاستثمار في العقارات القدر الأكبر من المدخرات العائلية.
تدفقت موارد مصر الاستثمارية المحدودة بكثافة إلى أقسام محددة داخل السوق العقاري
ولكن أبرز من تلقى هذه الاستثمارات، كانت أقسام محددة داخل القطاع العقاري؛ تلك التي تتميز بوحدات مرتفعة القيمة من فيلات وشاليهات تقع إلى جانب منتجعات الجولف داخل الكومباوندات والمدن المسورة في صحراوات مصر الشرقية والغربية. وذلك رغم قلة عدد هذه الوحدات مرتفعة القيمة، لأن الجزء الأكبر من الطلب على السكن تتم تلبيته من خلال البناء غير الرسمي، أو السكن العشوائي كما تُسمّيه الدولة.
تختلف مصر عن النموذج الصيني في تواضع معدلات الادخار والاستثمار الإجمالية، وبالتالي فإنها لا تملك فوائض مالية مستثمرة في القطاع العقاري ككل، بل يستهدف هذا الاستثمار المفرط شرائح محددة في السوق العقاري، على حساب قطاعات أخرى أكثر حيوية وأكثر إنتاجية كان الأجدر توجيه الموارد المحدودة إليها، عامة كانت أو خاصة.
يبلغ متوسط الادخار الإجمالي المحلي في مصر منذ سنة 2000 نحو 11.25% من الناتج القومي، مقارنة بـ45.63% في الصين، و32% في الدول متوسطة الدخل، و26% في الشريحة الدنيا من الدول متوسطة الدخل، وهي الشريحة التي تنتمي إليها مصر.
وانعكس تواضع معدل الادخار المحلي على الاستثمار، ممثلًا في التكوين الرأسمالي الإجمالي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، خلال نفس الفترة؛ إذ سجلت مصر متوسطًا سنويًا بلغ 17.51% من الناتج مقارنة بـ.42.2% في الصين، و30.6% في الدول متوسطة الدخل، و29.8% للشريحة الدنيا من الدول متوسطة الدخل.
وبدلًا من أن تذهب إلى قطاعات أخرى مثل الصناعات التحويلية أو الزراعة، ظلت موارد مصر الاستثمارية المحدودة تتدفق بكثافة إلى أقسام محددة داخل السوق العقاري، مدفوعة بالكثير من المضاربات في تسعير الأراضي الصحراوية، التي للطرافة تشكل 96% من مساحة مصر الكلية.
ويتجلى سوء التخصيص في ضعف تطور القاعدة التصديرية للاقتصاد المصري، والتي نؤشر إليها بنسبة الصادرات السلعية والخدمية في الناتج المحلي، إذ أن متوسطها في الفترة منذ سنة 2000 وحتى الآن لم يتجاوز 19.6%، مقارنة بـ43.1% في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا،عدا الدول النفطية مرتفعة الدخل، و26.5% و 25.9% في الدول متوسطة الدخل، والشريحة الدنيا من هذه الدول على التوالي في نفس الفترة.
وتزداد الصورة قتامة عندما نعرف أن القاعدة التصديرية كانت أكبر كثيرًا خلال السنوات من 2004 إلى 2010، بنسبة 28.3% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ 13.91% خلال السنوات السبع الأخيرة 2015-2022، ما يعني أن الاقتصاد المصري يزداد انكفاءً على نفسه.
وبما إن القطاع العقاري وما يرتبط به من أنشطة التشييد والبناء والتسويق العقاري والإعلان، هي قطاعات لا تسهم لا في زيادة الصادرات ولا في تخفيض الواردات، فيمكن أن نجد رابطًا بين المبالغة في الاستثمار العقاري من ناحية، لصالح زيادة تواضع قاعدة الاقتصاد التصديرية، التي كان لها إن تطورت بعض الشيء أن تخفف من وقع أزمات العملة المتكررة التي يواجهها الاقتصاد، وما يتبعها من ارتفاع للتضخم وركود في نفس الوقت.