عادةً ما يشير التعبير الشعبي "صُغيَّر بس يحيَّر" إلى عدم التناسب بين حجم شخص أو شيء ما، مع الأثر الذي يستطيع أن يتركه، بما يضع المحيطين في حيرة من أمرهم. لكن القطاع الخاص المصري لديه قصة تؤكد المعنى المعاكس لهذا الوصف الشعبي.
القطاع الخاص في مصر كبير، ليس في حجم منشآته وشركاته، التي على العكس تعاني من تقزم وعدم قدرة على النمو في غالبها، بل في نصيبه من الإنتاج والتوظيف، ورغم هذا فإن مساهمته في الاستثمار الكلي طالما كانت محدودة؛ بل في تراجع.
تفيد بيانات البنك المركزي المصري في 2021 بأن نصيب القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي اقترب من 71%، ما يعني أنَّ أكثر من ثلثي السلع والخدمات في مصر تنتجها منشآت أو شركات أو أفراد يملكون أدوات إنتاجهم، أي ينتمون للقطاع الخاص بالمعنى الواسع.
وليس هذا بجديد، إذ تُظهر بيانات البنك المركزي نفسها أن القطاع الخاص حاز عام 2006 على 61.32% من الناتج. ولدينا مؤشرات على أن القطاع الخاص المصري غلب على الإنتاج والتشغيل في مصر منذ الثمانينيات، أي بعد نحو عقد واحد من إطلاق الانفتاح الاقتصادي في عهد السادات.
لم يؤدِّ توسع القطاع الخاص المصري خلال العقود الماضية إلى تحسن كبير في الأداء الاقتصادي
إذًا، رفع القطاع الخاص نصيبه من الناتج المحلي الإجمالي بين 2006 و2021 بنحو 10%، وهي نسبة كبيرة ولا شك، سواء من حيث وزنها النسبي في الاقتصاد أو من حيث معدل نموها، الذي كان يعكس تمددًا في نشاط القطاع الخاص، وتراجعًا في وزن القطاع العام بتنويعاته القانونية والتنظيمية المختلفة، ككقطاع الأعمال العام وباقي الأنشطة الاقتصادية التابعة للدولة، والتي تشير كلها بصورة أو بأخرى لحضور الدولة المباشر في أنشطة الإنتاج والتشغيل.
وباستخدام بيانات المركزي المصري نفسها لسنة 2020 حول التقسيم القطاعي للاقتصاد، يمكن لنا رؤية أن القطاع الخاص يسيطر، وفي بعض الأحيان بصورة مطلقة، على قطاعات إنتاج مهمة ومحورية مثل الزراعة (99.79%) والصناعات التحويلية عدا تكرير البترول (88.75%) والسياحة (98.3%) والتشييد البناء (90.5%) والاتصالات (79.66%) والنقل والتخزين (82.81%).
من هنا يمكن القول بأن الاقتصاد المصري، بالورقة والقلم، هو اقتصاد يقوده القطاع الخاص في مجمل أنشطته، بما في ذلك القطاعات الأكثر محورية. ولكن رغم هذا، يسود انطباع عام بأن الدولة لا تزال تقود الاقتصاد وتهيمن على الموارد الاقتصادية، وهي وجهة نظر تدعمها شواهد ومشاهد يومية، وإن كانت تخالف الأرقام الكلية.
إسهام محدود
لم يؤدِّ توسع نصيب القطاع الخاص المصري خلال العقود الماضية إلى تحسن كبير في الأداء الاقتصادي، لا من حيث معدلات النمو ولا كمية وجودة الوظائف التي ينتجها الاقتصاد.
ولعل أكبر مؤشر يمكن الرجوع إليه لفهم أسباب مثل هذا التواضع في الأداء هو معدلات الاستثمار، التي يقيسها الاقتصاديون بمؤشر يطلقون عليه اسم "التكوين الرأسمالي الإجمالي".
يقدم هذا المؤشر رقمًا يمثّل نسبة من الناتج المحلي، ليشير إلى القيمة التقديرية لكافة الأصول المادية ذات الأثر الإنتاجي التي أضيفت لاقتصاد دولة ما سنويًا، بما يشمل البنية الأساسية والمصانع والآلات والأجهزة والطرق وهلم جرا.
منطقة جنوب آسيا سجلت معدلات استثمار للقطاع الخاص أكثر بمرتين ونصف من مصر
إذا استخدمنا بيانات البنك الدولي لمقارنة الأداء الاستثماري في مصر من 2010 إلى 2021 مع الاقتصادات الأخرى، سيتبين تواضع أدائنا بشكل كبير، إذ بلغ متوسط معدل التكوين الرأسمالي الإجمالي (بما يشمل استثمارات القطاعين العام والخاص والاستثمار الأجنبي المباشر) 14.91%، مقارنة بـ33.98% و28.58% في شرق آسيا وجنوب آسيا، بل و21.33% و19.47% لكل من إفريقيا جنوب الصحراء وأمريكا اللاتينية.
هذا الأداء الاستثماري المتواضع جاء مدفوعًا بعدة أسباب من أبرزها انسحاب الدولة من الاقتصاد في تلك الفترة، مع موجات التقشف المتتالية، ما أدى إلى انخفاض الاستثمار العام. ومع عدم رفع القطاع الخاص لمشاركته في الاستثمار، كانت النتيجة تراجع المعدل الإجمالي بشقيه الخاص والعام.
توسع في أنشطة منخفضة الإنتاجية
وبالفعل، تكشف بيانات البنك الدولي أن مشاركة القطاع الخاص المصري في التكوين الرأسمالي طالما كانت ضعيفة بمعدلات أقل من 8% لتنخفض إلى 5.7% ثم 2.2% بين 2019 و2021. وتأتي هذه الأرقام مقارنة بمعدل يبلغ نحو 30% لدول جنوب شرق آسيا والدول متوسطة الدخل.
بل حتى منطقة جنوب آسيا، حيث ينخفض دخل الفرد عن نظيره في مصر، للمفارقة سَجَّلت في العقد نفسه معدلات استثمار للقطاع الخاص عند نحو 25% من الناتج أي نحو مرتين ونصف المعدل المسجل في مصر.
لاحظ المفارقة هنا في تزامن تراجع نصيب القطاع الخاص في الاستثمار الكلي في مصر، مع زيادة نصيبه في الناتج المحلي الإجمالي. كيف يمكن تفسير مثل هذا اللغز؟
تتمثل الإجابة ببساطة في نوعية استثمارات القطاع الخاص وليس كميتها إن جاز التعبير. كان التوسع الأساسي للقطاع الخاص، بتعريفه الأوسع جدًا، في قطاعات وأنشطة اقتصادية منخفضة الإنتاجية يغلب عليها الطابع غير الرسمي، خاصة في الخدمات ذات القيمة المضافة الضعيفة. وهو ما يفسر كذلك ضعف الأداء الاستثماري الكلي.
زاد نصيب الحكومة من الإقراض البنكي من 49% في 2010 إلى 67% في 2020
لا يرجع الأمر لطبيعة في القطاع الخاص تستعصي عن التفسير أو التغيير، بل هو ناتج عن ظروف مؤسسية لا تدعم فرصه في الاستثمار أو النمو أو التشغيل (خاصة خلق وظائف ذات جودة في القطاع الرسمي).
وعلى رأس هذه الظروف المؤسسية بالطبع هو تراجع نصيب القطاع الخاص في الائتمان المصرفي، إذ تحولت البنوك في مصر في الفترة بين 2010 و2021 إلى مصادر تمويل للعجز الحكومي بالأساس.
وتظهر بيانات البنك الدولي أن نصيب القطاع الخاص في مصر من الائتمان كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي انهارت من 42% في 2008 إلى ما متوسطه 27.4% بين 2015 و2022. وتتضح فداحة المسألة إذا قارنَّا هذه النسبة بالدول متوسطة الدخل خلال الفترة نفسها، والتي بلغت 109%، مقابل 46% في جنوب آسيا، و53.4% في أمريكا اللاتينية.
أين ذهبت جميع أموال البنوك في مصر؟
جرى استخدام قروض البنوك للحكومة بشكل أساسي لتمويل العجز المالي وسداد المستحق من أقساط وفوائد الدين المحلي فيما يعرف بتدوير الدين، فزاد نصيب الحكومة من الإقراض البنكي من 49% في 2010 إلى 67% في 2020، وفي المقابل تراجع نصيب القطاع الخاص من 42% إلى 21% أي بمقدار النصف في الفترة ذاتها. بالتالي، جرى توفير سيولة أقل للقطاع الخاص، مما أثر بداهةً على مساهمته بالاستثمار المحلي والنمو، وبالتالي التوظيف.
واستخدمت الحكومة بعض هذه الأموال لتمويل مشروعات بنية أساسية كبيرة تندرج تحت الاستثمار العام، لكن يظل الوزن النسبي لهذه النفقات على ضخامتها صغيرًا نسبيًا؛ مقارنة بسد العجز في الموازنة العامة، والمكوَّن بالأساس من مصروفات جارية، بالأخص خدمة الدين الحكومي الذي تراكم في المقام الأول لسد العجز قبل أن يصبح هو نفسه أحد مصادره الأساسية.
إذًا، القطاع الخاص في مصر كبير في سعته ووزنه، ويتحمل الحصة الأكبر في الناتج والتشغيل والاستثمار (على تواضعها)، لكنه على كبره ضعيف ويفتقد أسباب النمو بما يسمح بتحول هيكلي ضروري، على المديين المتوسط والبعيد.