
من جيهان نصر إلى أم علاء.. كيف فقد "البريد" الملايين من عملائه؟
تطلُّ الفنانة جيهان نصر بابتسامتها الهادئة وأناقتها المعهودة وتسريحتها "الويفي" على شاشة التليفزيون المصري وهي تقول بصوتها الوديع "جايزة من جنيه لمية ألف جنيه! مفيش عليه ضرايب والحكومة ضامناه!"... هل تتذكرون هذا الإعلان في أوائل التسعينيات عن "صفقة العمر" للمواطن البسيط؛ دفتر توفير في هيئة البريد بأعلى عائد سنوي؟
بعد ثلاثة عقود من هذا الإعلان القصير، خفيف الظل، وقفت نبوية عبدالستار، 57 سنة، المعروفة بين جيرانها بأم علاء أمام شباك مكتب بريد المطرية، تطلبُ غلق حساب توفيرها بعدما سحبت منه 250 ألف جنيه هي كل رصيدها، ليصبح فارغًا للمرة الأولى منذ إنشائه قبل نحو ربع قرن.
ومع أن البريد لا يزال يعتمد على جذب المدخرات نشاطًا رئيسيًّا للمؤسسة بالنظر لضخامة حجم الودائع التي يتعامل فيها، وبالرغم من دخول أنشطة جديدة على هذه المؤسسة تجاري التحول الرقمي في مصر مثل صرف المعاشات وتحصيل رسوم الإسكان والتعليم، فإن الموجة التضخمية الأخيرة، غير المسبوقة، جعلت إبقاء الأموال في "الدفتر" أمرًا عالي التكلفة.
عزف عشرات الآلاف من المواطنين عن الادخار في البريد، هذا بالإضافة لاغلاق أكثر من نصف مليون حساب خلال العام المالي 2023/2024 وحده، كما أن الكثير من الحسابات تُركت مفتوحة بمبالغ بسيطة.
من ملاذ آمن إلى حساب خامل
خلال العامين الماضيين راوح معدل التضخم السنوي بين 20-30%، وبدأ ينخفض خلال العام الحالي لكنه لم يصل لمستويات معتدلة. وسط هذه الأجواء التضخمية التي تنافست فيها البنوك على تقديم شهادات استثمار مرتفعة العائد، استمر "دفتر توفير البريد" يقدم عائدًا محدودًا تراوح بين عامي 2016 و2024 بين 7% و10.25%.
السبب وراء محدودية عائد "البريد" أن أوعيته الادخارية مصممة للادخار قصير الأجل، وإن كان ملايين المصريين اعتادوا على ترك أموالهم فيه سنوات طويلة، ما جعله إحدى أبرز نقط جذب الادخار في مصر لعقود طويلة.
"زمان كنت بحوش منه واللي بيطلع منه آخر السنة كنت بعمل بيه حاجه لأولادي، دلوقتي العائد مبيكفيش لأي حاجة والدنيا بتغلى، وأولادي الحالة معاهم ضنك، ومحتاجين الفلوس فسحبت الفلوس ووزعتها عليهم، وجبت لنفسي غويشتين يسندوني وقت ما أتعب عشان ما اتحوجش لحد"، تتحدث أم علاء لـ المنصة عن حسابها الذي اعتمدت عليه لسنوات وها هي تغلقه أخيرًا.
https://www.youtube.com/watch?v=tgCfQZMAGL8تكشف بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن عدد عملاء دفاتر التوفير في البريد المصري وصل إلى ذروته عام 2016/2015، مسجلًا أكثر من 24.3 مليون عميل. لكنَّ هذا المجد بدأ يتآكل بعد تعويم 2016، إذ مهد أول تعويم لسلسلة من الانخفاضات التالية للعملة، معها موجة تضخمية طويلة الأمد جعلت الاحتفاظ بالمدخرات في البريد أمرًا عالي التكلفة.
على مدار ثماني سنوات، خسر البريد نحو 2.75 مليون عميل منهم نحو نصف مليون حساب توفير في عام 24/23 وحده، وذلك رغم محاولاته رفع العائد لمجاراة البنوك إلى 10.25% بعد تعويم 2016 بعد أن كانت لا تتجاوز 8%.
https://public.flourish.studio/visualisation/23321766/لا تقتصر أزمة دفتر التوفير على تراجع أعداد العملاء، إذ تكشف البيانات الرسمية عن تراجع إجمالي الأرصدة بنسبة بلغت 12% خلال عام واحد، وهبطت من 266.4 مليار جنيه إلى 234.3 مليار جنيه.
هذا الفقدان المالي تفسره شهادات موظفين في هيئة البريد أفصحوا لـ المنصة عن أن عددًا كبيرًا من الحسابات المدرجة "قائمةً" هي في الواقع "شبه خاملة"، بعدما سحب أصحابها معظم مدخراتهم وتركوا مبالغ زهيدة تقل في كثير من الأحيان عن 200 جنيه مصري لإبقائها مفتوحة اسميًا فقط.
تعزِّز بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ما أدلى به موظفو البريد، إذ تكشف عن فجوة واضحة بين عدد الحسابات وعدد عمليات الإيداع الفعلية. ففي العام المالي 2023/2024، بلغ عدد عمليات الإيداع نحو 9.4 مليون عملية فقط مقابل 9.2 مليون عملية سحب، ما يعكس قلة عدد الحسابات النشطة، مع العلم بأن المودع يمكنه الإيداع والسحب أكثر من مرة على مدار العام.
تؤكد البيانات أيضًا أن حجم الودائع في البريد انخفض خلال عام واحد بنحو 10 مليارات جنيه، من 130 إلى 121 مليارًا، بينما تجاوزت المسحوبات 133 مليار جنيه.
https://public.flourish.studio/visualisation/23322930/لم تكن أيٌّ من المحافظات بمنأى عن هذا التراجع، وحازت القاهرة النصيب الأكبر من هذا الانخفاض، حيث فقدت وحدها ما يقارب 4.3 مليار جنيه من أرصدة عملائها. وسجلت الغربية تراجعًا ضخمًا بلغ 4 مليارات جنيه. وفقدت كل من المنوفية والدقهلية نحو 2.9 مليار جنيه لكل منهما.
ورغم أن القاهرة فقدت المبلغ الأكبر، فإن محافظة كفر الشيخ شهدت التراجع النسبي الأعلى، وفقدت أكثر من خُمس أرصدتها 21% في عام واحد، مما يعكس حدة الأزمة في محافظات الدلتا.
https://public.flourish.studio/visualisation/23693902/ https://public.flourish.studio/visualisation/23764791/من الذهب للشقة: البحث عن حفظ القيمة
رغم التراجع الذي تشير له الأرقام، فإن مصدرًا مسؤولًا في الإدارة المالية للبريد أكد أن دفتر التوفير لم يفقد جاذبيته، بل ما زال يحتفظ ببريقه لدى شريحة كبيرة جدًا من العملاء، خصوصًا في المناطق الريفية والنائية.
ويعيد المصدر، الذي طلب من المنصة عدم نشر اسمه، تدني عائد الادخار لديه مقارنة بالبنوك التجارية إلى أن البريد يتيح السحب والإيداع خلال السنة ولا يجمد الأموال لديه لعدة سنوات مثل شهادات الاستثمار، مشيرًا إلى أن العملاء يحصلون على مزايا أخرى غير العائد المادي، مثل سهولة الاستخدام والمرونة والانتشار الجغرافي الذي لا يضاهى.
ومع تقدير العملاء للخدمات المتعددة التي يقدمها البريد، فإنه لم يعد لديهم الملاذ الآمن الذي يلجأون لترك فوائض أموالهم فيه، كما كانت الحال لعقود طويلة مضت.
تروي بثينة محمد (48 عامًا) من محافظة الإسماعيلية رحلتها مع الادخار. فبعدما فتحت دفتر توفير بريدي عام 2000، ووصل إجمالي ما ادخرته فيه إلى 520 ألف جنيه بحلول عام 2023، قررت سحب كامل المبلغ خلال العام الحالي، وأقنعها موظف البريد بترك 200 جنيه، لتنضم للآلاف من الحسابات الخالية.
الهدف من سحب بثينة أموالها، كما تؤكد لـ المنصة، هو شراء شقة سكنية، لكن مدخراتها لم تكف ما دفعها للبحث عن وسيلة لحفظ قيمة مدخراتها. وقتها لم تفكر في العودة للبريد مرة أخرى، واشترت سبائك ذهبية، فالأخيرة حققت عائد 1180% منذ نهاية عام 2016 بينما عائد البريد خلال نفس الفترة حقق 85.6%، وفقًا لحسابات أجرتها المنصة من البيانات المنشورة عن أسعار الذهب.
"معيش فلوس أدخر".. صوت العملاء
وفقًا لاستطلاع رأي أجرته المنصة، شمل 100 عميل صفّروا خلال العشر سنوات الماضية دفاتر توفيرهم البريدية بعد سحب كامل أرصدتهم، وصلت إليهم المنصة من خلال نشر نموذج الاستطلاع على السوشيال ميديا، جاءت الأسباب المالية والشخصية الدافع الأكبر لعملاء البريد لوقف استخدام حسابات التوفير، حيث أشار 44% إلى عدم امتلاكهم أموالًا للادخار.
وذهب 39% إلى أنهم أوقفوا الحسابات وسحبوا أرصدتهم للوفاء باحتياجاتهم الشخصية؛ هذا ما فعلته عبير خالد (50 عامًا) عام 2021، فمع تصاعد موجة ارتفاع أسعار الأجهزة المنزلية بشكل متزايد، سارعت إلى سحب كامل رصيدها البالغ 200 ألف جنيه لشراء أجهزة كهربائية لتجهيز ابنتيها، كما تقول لـ المنصة.
https://public.flourish.studio/visualisation/23399870/تأتي الأسباب المتعلقة بالعائد المادي في المرتبة التالية، إذ عزا 11% غلق الحساب لانخفاض الفائدة، فمحمد علام (45 عامًا) خصص لكلٍ من بناته الثلاث دفتر توفير منذ ولادتهن، لكنَّ الواقع الاقتصادي في عام 2023 دفعه إلى سحب كامل المدخرات من الدفاتر الثلاثة، موجهًا إياها نحو شهادات بنكية بعائد مغرٍ نحو 25% ووصل إلى 30%.
وهو ما يعتبره الباحث الاقتصادي محمد رمضان أمرًا طبيعيًّا، فوسط صخب التحول نحو الشمول المالي والرقمنة "طبيعي شريحة كبيرة من أصحاب دفاتر التوفير تنقل للبنوك بسبب معدلات الفائدة المرتفعة التي وصلت في أوقات إلى 30%، مقارنة بعائدات دفاتر البريد التي كانت لا تزال عند حدود 8%، الناس مش غبية"، كما يقول لـ المنصة.
المنافسة الصعبة مع البنوك فرضتْ على البريد الذي بدأ يفقد هيمنته المستمرة منذ نشأته عام 1866م تعديلَ نموذجه الادخاري لكي يصبح أقدر على التنافس في زمن التضخم والشمول المالي، وفي خطوة تبدو اعترافًا متأخرًا بهذه الحقيقة، في نهاية عام 2024، أعلنت هيئة البريد عن إطلاق منتج جديد تحت اسم "حساب سوبر توفير" بعائد سنوي يصل إلى 14% في محاولة لاستعادة ثقة المدخرين.
هل تكون هذه الخطوة كافيةً لإعادة ملايين العملاء الذين فقدهم البريد، أم أنها مجرد محاولة متأخرة للحاق بقطار غادر المحطة منذ سنوات ولم يعد الوقت ملائمًا لاستعادة أجواء إعلان جيهان نصر وإغرائه بجائزة "المية ألف جنيه".