يرنُّ جرس التليفون ليحدثك أحد مسوِّقي الخدمات العقارية عن عروض لشراء وحدات سكنية أو تجارية بغرض الاستثمار، وعادةً ما يُفهم من هذا أنَّ شراء الشقة أو المحل سيكون لغير أغراض الاستخدام المباشر، بما يسمح بتوظيف الوحدة لتولِّد عائدًا مستقبليًا في صورة إيجار.
ورغم الخلاف حول ما إذا كان استثمار من هذا النوع يفيد الاقتصاد ككل، يمكن الاتفاق على أنه ينطلق من تصور سليم لمفهوم "الاستثمار"، كونه يوجه الإنفاق الحالي لا لأغراض الاستهلاك المباشر، وإنما لبناء قدرات إنتاجية تولد عوائد مستقبلية في صورة دخل.
رغم هذا النشاط المحموم في ترويج هذه الفرص الاستثمارية الصغيرة، فإنَّ الصورة الكلية لاستثمارات القطاع الخاص في مصر تعكس ركودًا مستمرًا على مدار العقد الماضي، وهو بمثابة لغز نحتاج لأنَّ نحله إذا ما أردنا إنعاش الاقتصاد ككل، بالنظر إلى الدور الرئيسي للقطاع الخاص في توليد الناتج المحلي الإجمالي.
محفزات بلا نتائج
عادة ما يُحسب الاستثمار على المستوى الوطني من خلال ما يسمى بإجمالي التكوين الرأسمالي، وهو مفهوم اقتصادي وإحصائي يرصد كل ما تتم إضافته على أساس سنوي للأصول الثابتة في الاقتصاد، علاوة على الزيادات في المخزونات من السلع، وكنت تطرقت في المقال السابق لمقارنة مصر في هذا المؤشر مع الاقتصادات النامية، وسنناقش هنا التطور التاريخي للمؤشر خلال السنوات الأخيرة.
من المهم أن ننظر لـ"التكوين الرأسمالي" على أنه أحد أهم المؤشرات التي تخبرنا عن نظرة القطاع الخاص للوضع في مصر، فهو يعكس الميل نحو الإنفاق في الحاضر لبناء قدرات من أجل الإنتاج، ومن ثم الاستهلاك في المستقبل.
وبينما لا يخلو الخطاب الحكومي من الحديث عن تحفيز الاستثمار، الذي تُرجم في تعديلات تشريعية لجذب رؤوس الأموال الخاصة تم سنها بالفعل أو في طريقها للتنفيذ، من أبرزها قانون الاستثمار لسنة 2017، فإن الأرقام والبيانات لا تشير إلى تحسن كبير في الأداء الاستثماري.
فمن ناحية لا تزال معدلات الاستثمار، إذا قيست بإجمالي التكوين الرأسمالي كنسبة من الناتج، أقل بشكل ملحوظ من نظيراتها في البلدان الأسرع نموًا مثل الصين والهند وتايلاند وفيتنام. ومن ناحية أخرى، ووفقًا لبيانات البنك الدولي، يظل متوسط نسبة التكوين الرأسمالي الإجمالي في الفترة من 2014 إلى 2022، والبالغ 16.3%، أقل من المتوسط السابق على ثورة يناير (من 2000 إلى 2010)، والمقدر بـ18.8%.
يمكن تفسير عزوف القطاع الخاص عن الاستثمار بانعدام ثقته في أنه سيحقق عائدًا في المستقبل
ما يثير الانتباه أنَّ انخفاض نسبة إجمالي الاستثمار ارتبط بما يشبه الانهيار في مساهمات القطاع الخاص المصري في التكوين الرأسمالي الكُلي، التي تراجعت من متوسط 10% من الناتج المحلي عشرية ما قبل الثورة إلى نحو 6% في العشرية التي تلتها.
يعكس هذا عزوفًا شديدًا من القطاع الخاص عن الاستثمار، وهو ما يمكن تفسيره بانعدام الثقة في أنَّ الإنفاق اليوم سيؤدي إلى تحقيق عائد في المستقبل.
ومن المستغرب أنَّ إنفاق القطاع الخاص الاستثماري لم يتحسن كثيرًا رغم الاستقرار النسبي الذي تحقق في مؤشرات الاقتصاد الكلية من 2017 حتى 2022 (قبل أن يتدهور بعضها لاحقًا بسبب أزمة الدولار) ما يعني أنَّ المستثمرين الخاصين قد بنوا قراراتهم بعدم الاستثمار، على اعتبارات تتجاوز الظرف الاقتصادي المتغير.
أهمية الاستثمار الخاص
لا بديل عن استثمارات القطاع الخاص المصري لرفع معدلات الاستثمار الكلية، إذ لم تتمكن مشروعات البنية التحتية الأساسية من خارج الموازنة، التي جرى التوسع فيها خلال السنوات القليلة الماضية، من تعويض ما خلفه خروج القطاع الخاص من المعادلة.
ويكفينا أن نقف عند حقيقة أن الاقتصاد المصري، رغم كل ما يُشاع عن هيمنة الدولة على مقدراته، وتوسعها، يظل اقتصادًا قائمًا على القطاع الخاص، الذي مثَّل في 2020/2021 نحو 71% من الناتج المحلي الإجمالي، طبقًا لبيانات المركزي المصري، وبما يحسم نصيبًا ساحقًا للقطاع الخاص في قطاعات غاية في الأهمية مثل الزراعة والسياحة والصناعات التحويلية بل والبناء والتشييد، رغم كل ما شهده من توسع للدولة وأجهزتها فيه.
ولن يعوض الاستثمار الخاص لا الاستثمارات الحكومية وحدها ولا الاستثمارات الأجنبية مباشرة، التي بالمناسبة لم يتجاوز متوسط نسبة صافي تدفقاتها إلى الناتج المحلي الإجمالي المصري 2.2% في الفترة 2014 إلى 2022، وحتى خلال العقد الأخير من حكم مبارك كانت نسبتها 3.7%، وهي الأعلى في تاريخ مصر المعاصر، ورغم هذا فإنها كما نرى عادة ما كانت تقف عند أقل من ثلث استثمارات القطاع الخاص المصري.
إذًا، فالدولة بحاجة للتوصل لتفاهمات ما مع مكونات القطاع الخاص العديدة، ليتجه هؤلاء إلى ضخ أموالهم للاستثمار طامحين وطامعين في عائد مستقبلي.
كيف نستعيد الاستثمار الخاص؟
يقول بعض المعلقين إن المشكلة في مصر مزمنة، وتتمثل في ضعف المؤسسات القائمة على إنفاذ التعاقدات وحماية حقوق الملكية الخاصة وسرعة التقاضي وغيرها من أوجه العمل المؤسسي اللازمة لضمان عوائد مستقبلية على أي استثمار.
قد يكون هذا صحيحًا نظريًا، ولكنه لا يفسر الانخفاض الكبير خلال العقد الماضي في استثمارات القطاع الخاص، مقارنة بظرف مؤسسي سابق على ثورة 2011، كانت فيه المؤسسات تعاني نفس أوجه الضعف التي سبق الحديث عنها.
ويُضاف إلى هذا بالطبع أن بلدانًا مثل الصين والهند وفيتنام وتايلاند، التي تسجل معدلات استثمار مذهلة، تعاني من أوجه ضعف مؤسسي شبيهة، عادة ما تُثار لتفسير ضعف الأداء الاستثماري في مصر.
يعني هذا أنَّ محددات الاستثمار بالنسبة للقطاع الخاص في مصر وغيرها تتصل بوجود "تفاهمات سياسية"، هي بحكم الضرورة غير رسمية، مع السلطة الحاكمة أكثر من الضعف المزمن للمؤسسات وعدم الاستقرار المتكرر في مؤشرات الاقتصاد الكلي.
ولعل هذا هو ما يفتقده القطاع الخاص منذ 2011 إذ إن هناك نوعًا ما من غياب التنسيق وربما حتى التفاهم بين رأسي المال الحكومي والخاص.
ويبدو أنَّ مثل هذا التفاهم سيدور حول رسم حدود لتدخلات الدولة على مستوى القطاعات، علاوة على ضمانات عملية لاستقلال عمل القطاع الخاص، وتطمينات باستقرار الإجراءات على أرض الواقع في المدى المنظور بما يرسل الإشارة إلى أن إنفاق اليوم على الاستثمار سيكون له عائد غدًا.