
وجوه اللامساواة وأسبابها
عواقب السياسات الاقتصادية في لبنان
تفرض مسألة اللامساواة في لبنان نفسها بشكل حاد اليوم جرّاء اتساع الفجوة الاقتصادية والاجتماعية منذ الأزمة الاقتصادية التي بدأت في 2019، وتفاقمت أكثر مدفوعةً بالدمار الهائل الذي خلفته الغارات الإسرائيلية العنيفة غير المسبوقة بين نهاية أيلول/سبتمبر 2024 وتاريخ دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 27 نوفمبر/تشرين الثاني*.
بات التفكير في طبيعة المجتمع الذي يريده اللبنانيون تحديًا أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، حيث تشهد المنطقة ولبنان اضطرابات جيوسياسية كبرى. ويتمثل جوهر التحدي في الخروج بمشروع سياسي يعلن قطيعته مع الممارسات السامة التي أدت إلى انهيار المستوى العام للدخل وانفجار التفاوت. وهو تحدٍّ مزدوج يستدعي فهم الآليات التاريخية والاقتصادية التي تغذي اللامساواة ومحاولة توقع التبعات الاجتماعية والسياسية المترتبة على تفاقمها على المدى الطويل.
لطالما عانى لبنان من مشكلة انعدام المساواة. وقد فاقمت الأزمات المتتالية، إلى جانب الحرب الأخيرة، من هذه الظاهرة، وتركت ندوبًا اجتماعية أثَّرت بعمق على توزيع الدخل والثروة. وتمتدّ جذور هذه المشكلة إلى نموذج اقتصادي غير متوازن هيكليًا ونظام سياسي تتقاطع فيه الكليبتوقراطية والبلوتوقراطية والزبائنية ورأسمالية المحسوبية.
إن المسألة تتعلق في الواقع بإعادة هيكلة نموذج توزيع الموارد جوهريًا، لا بإجراءات تعديل هامشية.
تاريخيًا، ارتبطت الحصة العالية للأجور في الدخل الوطني باقتصادات أكثر مساواة، إذ إنها تسمح بتحسين إعادة توزيع الثروة، وتدعم الاستهلاك وتموّل الخدمات العامة. إلا أن حصة الأجور في الدخل الوطني كانت دائمًا منخفضةً في لبنان الذي أضاع مرة تلو الأخرى فرص التصنيع والتنمية.
على مدى ثلاثة عقود، اعتمد النموذج الاقتصادي بشكل متزايد على الريوع والأموال التي يرسلها المغتربون بدلًا من الاعتماد على دينامية إنتاجية تؤدي فيها الأجور دورًا محوريًّا، الأمر الذي ضاعف من عدم تكافؤ توزيع الثروة، حيث تسيطر أقلية تمتلك معظم الأصول المالية والعقارية على غالبية الدخل. ونتيجة لذلك، اعتمدت الغالبية العظمى من السكان على مداخيل غير مستقرة، في ظل آليات محدودة لإعادة توزيع الثروة للحد من تأثير هذا التفاوت. بل على العكس، كانت السياسات المالية والنقدية المعتمدة في العقود الأخيرة تنازلية بشكل حاد.
نتيجة لذلك، كان الدخل المتاح من التدفقات النقدية الخارجية أكبر بكثير من الدخل المنتج. قد يبدو توزيع هذه المداخيل الخارجية عادلًا في الظاهر، إلا أنها تنطوي على تشوّهات تزيد من حجم التفاوت الاجتماعي.
قصور الأجهزة الإحصائية
يشكّل جمع البيانات التي تثبت اللامساواة في لبنان مهمّة شاقة للغاية، بسبب عجز إدارة الإحصاء المركزي، التي تعاني من نقص مُزمن في الموارد المالية والبشرية. وتفاقم هذا العجز جرّاء التدخلات السياسية التي حالت دون تحديث البيانات الحسّاسة، بدءًا من الإحصاءات الديموغرافية. ويعود آخر إحصاء للسكان إلى عام 1932، وهذه معلومة مكرّرة وتستعادُ كأسطوانة قديمة من دون أي محاولة لتصحيح الوضع.
تشرح الباحثة الاقتصادية ليديا أسود في دراسة عن اللامساواة في لبنان حجم الفجوات الإحصائية التي واجهتها لدى عملها على تقييم التفاوت في الدخل والثروة. إذ يعود آخر مسح لميزانيات الأسر أجرته إدارة الإحصاء المركزي إلى عام 2018-2019.
في حين نُشِرت في عام 2024 دراسةٌ للبنك الدولي عن الفقر، موّلتها بشكل مشترك وكالتان تابعتان للأمم المتّحدة وهما برنامج الأغذية العالمي والمفوّضية السامية لشؤون اللاجئين. واستندت هذه الدراسة إلى بيانات من مسح للأسر في لبنان أُجري في عام 2022، واقتصر على محافظات عكار وبيروت والبقاع والشمال وقضاء بعبدا في جبل لبنان (باستثناء الضاحية الجنوبية لبيروت). ويحد غياب البيانات الخاصة بمحافظات بعلبك - الهرمل والنبطية والجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت من إمكانية وضع تقدير عملي للفقر في هذه المناطق، بالتالي في البلد ككلّ. ومن نافلة القول إن تأثير الحرب الإسرائيلية التي تتركّز على وجه التحديد في هذه المناطق قد أدّى إلى اختلال الوضع الاجتماعي، فضلًا عن الحال في لبنان بأسره.
سعت الباحثة الاقتصادية، ليديا أسود، إلى تدارك القصور في نظام الإحصاء اللبناني من خلال الاستعانة بالبيانات الضريبية، على الرغم من شوائبها في بلد يسوده التهرّب الضريبي نتيجة السرّية المصرفية.
بالجمع بين نتائج المسوحات التي شملت الأسر، والحسابات الوطنية، وتصنيفات أصحاب المليارات التي نشرتها مجلتا فوربس وأريبيان بيزنس، وسجّلات ضريبة الدخل الشخصي التي تمكّنت من الوصول إليها، استنتجت الباحثة أن الدخل مركّز للغاية، إذ حصل أغنى 1% و10% من السكّان البالغين على نحو 25% و55% من الدخل الوطني في المتوسّط على التوالي، ما يضع لبنان بين أكثر الدول التي تسجل أعلى مستويات اللامساواة في الدخل بالعالم، إلى جانب البرازيل وروسيا وجنوب إفريقيا والولايات المتّحدة.
أوجه اللامساواة المختلفة
تسبّبت أزمة عام 2019 في انتشار الفقر في لبنان على نطاق واسع، ما دفع البنك الدولي إلى تخفيض تصنيفه في 2022 من الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل إلى الشريحة الدنيا من البلدان متوسطة الدخل. ويعكس ذلك حجم التأثير طويل الأمد للأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية المتراكمة على البنية الاقتصادية وجودة الحياة في البلد ككلّ، وما رافقه من تأثير سلبي على مستويات اللامساواة. ووفقًا لأحدث "تقييم وضع" أجراه البنك الدولي في إطار دراسته عن الفقر المنشورة في 2024، تشير التقديرات إلى أن نسبة الأفراد الذين يعيشون تحت خط الفقر في لبنان تضاعفت 3 مرّات بين عامي 2012 و2022 من 12% إلى 44%. ففي 2022، كان 1 من كل 3 لبنانيين يعيش في فقر مقارنة بشخص من كلّ 11 شخصًا في 2012، علمًا بأن نسبة الفقر بين السوريين في لبنان أعلى، وبلغت 87% عام 2022.
وارتفع معامل جيني لدخل الأسرة اللبنانية من 0.42 في 2011-2012 إلى 0.61 في 2022-2023، ما يضع لبنان بين البلدان الأكثر لا مساواة في الدخل في العالم، وباتت أغنى 10% من الأسر تمتلك 54% من إجمالي الدخل في البلاد، مقارنة بنحو 49% قبل عشر سنوات.
وتظهر دراسة البنك الدولي أيضًا لا مساواة في الوصول إلى الموارد وفرص العمل، وذلك من خلال البيانات المتعلّقة بملكية الأصول، تحديدًا السكن والسيارات. وفي حين أن نحو 3 من كل 5 أسر تمتلك منزلها، فإن 35% فقط من الأسر الفقيرة تمتلك منزلها، وهو نصف معدل الأسر الميسورة. وترتفع هذه النسبة بين الأسر اللبنانية الفقيرة (55%)، في حين أن الأسر السورية الفقيرة مُستبعدة بشكل شبه كامل من ملكية العقارات. أمّا بالنسبة إلى السيارات، التي تشكّل أصلًا أهمّية بالغة في بلد تتراجع فيه كل وسائل النقل العام، فإن 72% من الأسر غير الفقيرة تمتلك سيارة. وينخفض هذا الرقم إلى 28% للأسر اللبنانية الفقيرة و3% فقط للأسر السورية الفقيرة.
ويظهر عدم التكافؤ في الوصول إلى التعليم في لبنان بسبب التراجع المستمر في التعليم العام، على الرغم من استمرار الاستثمارات في هذا القطاع والمساعدات الدولية المخصّصة له. في المقابل، تتمتّع المدارس الخاصّة بميزة بنيوية على حساب المدارس الرسمية العامة، إلى درجة أن الموظّفين الحكوميين تلقّوا لسنوات كثيرة مساعدات حكومية لتعليم أبنائهم هناك.
وفي كثير من الأحيان تستفيد معظم المدارس الخاصة، التي عادة ما تكون جزءًا من شبكات دينية، من التبرّعات والدعم، ولكنها تفرض رسومًا عالية يصبح من الصعب على الكثير من الأسر دفعها. منذ أزمة عام 2019، تلقّى أكثر من 60% من الطلاب تعليمهم في المدارس الخاصة على الرغم من الانهيار وتراجع الأجور والمعيشة، وذلك بسبب انخفاض مستوى التعليم في القطاع العام بسبب تأثر رواتب المعلّمين والمعلّمات بانهيار الليرة.
وأخيرًا، أدّى العدوان الإسرائيلي إلى تفاقم التفاوت في القطاع إلى درجة إثارة المخاوف من حدوث تأخيرات كبيرة لجيل كامل من الطلاب، بعد أن تأثر أكثر من مليون طفل.
كانت نسب تغطية التأمين الصحّي منخفضة في 2018-2019. وتراجعت في الفترة 2022-2023، إذ شملت التغطية 18% من الأسر الفقيرة فقط، مقارنة بنحو 51% من الأسر غير الفقيرة. وتأثّرت الأسر السورية والأسر التي تعولها نساء بشكل خاص بانعدام التغطية. إلى ذلك، ساهم رفع الدعم منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2021، في تدهور الظروف المعيشية. فقد أدّى هذا الإجراء إلى رفع الدعم عن الأدوية المستوردة، باستثناء بعض الأدوية الأساسية، ما زاد من صعوبة الحصول على الرعاية الصحية. وكانت الأسر الفقيرة هي الأكثر تضرّرًا. ولا يزال الحصول على الأدوية والخدمات الطبية صعبًا على 80% من الأسر الفقيرة، مقارنة بنحو 58% للأسر غير الفقيرة.
بموازاة ذلك، أدّى رفع الدعم عن الوقود منذ أكتوبر/تشرين الأول 2022 بدوره إلى زيادة تكاليف الخدمات الأساسية، مثل النقل والتدفئة والكهرباء، علمًا بأن التيّار الكهربائي متوفر بشكل جزئي لجميع الفئات الاجتماعية والاقتصادية، وقد بلغ متوسط التخفيض سبع ساعات خدمة يوميًا. وباتت المولدات الخاصة، باهظة الثمن والمسبّبة للتلوّث، المصدر الرئيسي للكهرباء، ما فاقم بدوره العبء المالي على الأسر الفقيرة.
وتتجلّى أوجه اللامساواة أيضًا في الوصول إلى مياه الشرب ومرافق الصرف الصحي والاتصال الرقمي. تمتلك الأسر الفقيرة، لا سيما السورية منها، مرافق صرف صحي غير ملائمة. بالإضافة إلى ذلك، لا يزال الوصول إلى الإنترنت في المنازل محدودًا بواقع 33% من الأسر الفقيرة مقارنة بنحو 68% من الأسر غير الفقيرة.
وأدّى الانخفاض السريع في قيمة الليرة اللبنانية التي خسرت 98% من قيمتها إلى تضخّم بلغ مستويات غير مسبوقة، فانفجرت معدّلاته من 3% في المتوسّط بين عامي 2011 و2018 إلى 85% في 2019، لتقفز بسرعة إلى 155% في عام 2020، مُسجلة 221% في 2023. وقد أصاب هذا التضخّم بشكل خاص الناس الأكثر فقرًا، إذ كان أشبه بضريبة تنازلية ألحقت أشدّ الضرر بأصحاب الدخل الثابت بالليرة اللبنانية. وكان ارتفاع التضخّم في أسعار السلع الغذائية أقوى، إذ زادت نسبته من 4% في عام 2019 إلى 254% في 2020، وظلّ ثلاثي الأرقام حتى عام 2023.
أدت الدولرة إلى تفاقم فجوة التفاوت بين أولئك القادرين على الوصول إلى الدولار ومن لا يملكونه. وفي عام 2022، شكّل الاقتصاد المدولر نحو 46% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنحو 26% في عام 2021، وفقًا للبنك الدولي. وتقاضت الأسر اللبنانية الواقعة في الخُمْس الأغنى 51% من إجمالي دخلها (مقدرًا بالليرة اللبنانية) بالدولار. في المقابل، لم تحصل الأسر اللبنانية في الخُمس الأفقر سوى على 6% وربما أقل من دخلها بالعملة الأجنبية.
التوزيع السكاني للتفاوت
توزّع الفقر وفقًا لبيانات دراسة البنك الدولي جغرافيًا بشكل غير متساو، مع تباين كبير بين منطقة وأخرى، وقد تراوح بين 2% في بيروت و62% في عكار. وفي الواقع، شهدت محافظتا الشمال وعكار، اللتان تضمان نسبة كبيرة من العمّال الزراعيين الذين يُعدّون، إلى جانب العاملين في قطاع البناء، من بين أفقر السكّان، زيادات ملحوظة في الفقر مقارنة بـ2012.
ووفقًا لتقرير أعدّه البنك الدولي، يعاني اللاجئون السوريون في لبنان من معدّلات فقر مدقع، تصل إلى 79% في بيروت وإلى 96% في عكار، وهي نسبة أعلى بكثير مقارنة باللبنانيين. كما أن الفجوات في الدخل بين المجموعتين كبيرة أيضًا: يكسب العمّال اللبنانيون في المتوسط 60% أكثر من السوريين. ويظل هذا الاختلاف قائمًا حتى في القطاعات التي لا تتطلّب مهارات عالية مثل الزراعة أو الأشغال الأولية.
وقدّرت الدراسة، أنه لو تمتع السوريون بالامتيازات الممنوحة للبنانيين (ساعات العمل، العمر، التعليم.. إلخ)، لزادت رواتبهم بنسبة 21%. ولكن تبقى فجوة غير مبرّرة نسبتها 32%، ما يشير إلى عوامل بنيوية أو عنصرية.
منذ 2012، أدّى التدفق الهائل للاجئين السوريين إلى ازدياد حدة المنافسة في سوق العمل بالنسبة لغير اللبنانيين، خصوصًا في الوظائف التي لا تتطلّب مهارات عالية. ونتيجة لذلك، انخفض معدّل توظيف غير اللبنانيين بمقدار النصف بين عامي 2012 و2023. وفي 2023، بلغت نسبة السوريين العاملين (ممن هم في سن العمل) 32% فقط، في حين كان 59% غير نشطين اقتصاديًا و21% عاطلين عن العمل، وهو مستوى أعلى بكثير من المعدل المُسجّل بين اللبنانيين.
لا توجد حتى الآن دراسات تأخذ في الاعتبار الآثار المتراكمة للأزمة والحرب. ولكن لا يخفى على أحد أن جميع العوامل المؤثرة في استفحال اللامساواة قد تفاقمت. ويترافق ذلك مع انقسام ذي طابع طائفي يبدو بكل وضوح أنه أحد أهداف الحرب نفسها.
أسباب اللامساواة: أولًا الأجور
قام النموذج الاقتصادي اللبناني منذ نشأته على اختلال ملحوظ في التوازن بين رأس المال والعمل، ولم تحتل الأجور قط مكانة مركزية في خلق الثروة أو توزيعها. ويشكّل هذا الخلل البنيوي، الذي لا يزال قائمًا حتى اليوم عاملًا رئيسًا في اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية، كما يحدّ من إمكانات تطور اقتصاد أكثر شمولًا.
وقد شهد لبنان الكثير من فرص التحوّل إلى بلد صناعي، يبني اقتصاده بالاعتماد على العمل المأجور وإعادة التوزيع العادل للثروة. إلا أن هذه الفرص أُهدرت. وتلك بالتحديد كانت أطروحة توفيق كسبار**، إذ أشار إلى أن النخب الاقتصادية اللبنانية فضّلت القطاعات ذات العائدات السريعة، لا سيما التجارة والخدمات، على حساب التنمية الصناعية.
واستمرّ تدهور الأجور في الاقتصاد اللبناني بالعقود التي تلت الحرب الأهلية. ووفقًا لما ذكره شربل نحاس الذي عُني بهذه القضية منذ توليه وزارة العمل في عام 2011 في مقاله المنشور في مجلة Revue d’économie financière، فبيانات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي تُظهر نموًا محدودًا في الأعمال المأجورة، وعجزًا عن استيعاب العمالة المؤهلة، وقد انخفضت الحصة الإجمالية للأجور من الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من 30%، وهو مستوى منخفض للغاية مقارنة بالاقتصادات المتقدّمة، حيث تتجاوز هذه النسبة غالبًا الثلثين.
وفيما ارتفع الناتج المحلي الإجمالي الاسمي، ظل متوسط الأجور على حاله وتراجعت القوة الشرائية للبنانيين. وفي الوقت نفسه، دمج الاقتصاد قوة عاملة أجنبية وفيرة ومنخفضة التكلفة، خصوصًا في قطاعات مثل البناء أو المطاعم. وقد أدّت هذه الظاهرة إلى زيادة الضغط على أجور العمّال المحلّيين، وحدّت من القدرة التفاوضية للنقابات التي كانت ضعيفة أصلًا منذ سبعينيات القرن الماضي.
تفاقمت أوجه اللامساواة في لبنان بشكل كبير منذ الأزمة الاقتصادية في 2019، وتغذّت من ديناميتين رئيستين: انخفاض قيمة العملة وبروز القطاع غير الرسمي. أدّت الأزمة إلى انخفاض كبير في قيمة الليرة اللبنانية، التي خسرت أكثر من 98% من قيمتها مقابل الدولار الأمريكي. وقد أثّر هذا الانخفاض بشدّة على الموظّفين الذين يتقاضون رواتبهم بالعملة المحلّية، لا سيّما موظّفي القطاع العام. وفي 2023، فقدت رواتب القطاع العام ما يصل إلى 80% من قيمتها الحقيقية مقارنة بعام 2019. وقد أجريت لاحقًا من خلال قوانين الموازنة بعض التعديلات في محاولة للتعويض جزئيًا عن هذا الانهيار، لكنها اتخذت شكل ترقيع غير قانوني ضاعف الرواتب، ولكن من دون التأثير على الراتب الأساسي لموظّفي القطاع العام.
شهد القطاع الخاص من جهته فوارق متزايدة: ففي حين تمكّنت بعض الشركات من دفع أجور موظّفيها بالعملات الأجنبية (الدولار)، بالتالي ضمان قوة شرائية لا بأس بها، ظلت غالبية العمّال تحصل على أجورها بالليرة اللبنانية التي تدهورت قيمتها. وتباينت التعديلات التي أُجريت على الأجور لاحقًا، على أساس ما يعادلها بالدولار، بشكل كبير حسب القطاع، فاستفادت تحديدًا الأجور في القطاعات ذات المداخيل بالعملة الأجنبية. لكن هذه التعديلات - حيثما حدثت - جرت خارج أي إطار تنظيمي أو قانوني، إذ بقي الحد الأدنى للأجور بالليرة اللبنانية من دون تغيير.
ولم تؤدِ هذه الازدواجية إلى اتساع الفجوات بين موظّفي القطاع الخاص وموظّفي القطاع العام فحسب، بل أيضًا بين موظّفي القطاع الخاص أنفسهم، وفقًا لسياسة الرواتب التي يتبعها صاحب العمل. وقد جاء نظام الأجور المزدوج الذي جمع بين الليرة اللبنانية والدولار في صالح الفئات القادرة على الوصول بشكل مباشر أو غير مباشر إلى العملات الأجنبية، في حين شهد العمّال الذين يعتمدون على العملة المحلية انهيار قوتهم الشرائية، ونجم عن ذلك اتساع فجوة الثروة.
أدّى الانهيار الاقتصادي أيضًا إلى تضخيم سوق العمل غير الرسمي. ووفقًا للبنك الدولي، كان أكثر من 30% من الناتج المحلي الإجمالي اللبناني مرتبطًا بالعمل غير الرسمي عام 2021، إذ لا يستفيد العمّال من الحماية الاجتماعية أو أي إطار قانوني يمكنهم من التفاوض على ظروف عمل لائقة. ويشمل ذلك نسبة كبيرة من العمّال الوافدين، خصوصًا السوريين، الذين تختلف مهاراتهم في التفاوض باختلاف القطاع. فوضعهم في الزراعة، على سبيل المثال، أفضل نسبيًا منه في قطاعات مثل السياحة.
ويجتمع انخفاض قيمة العملة وتوسّع النشاط غير الرسمي في دوّامة لا تنتهي من اللامساواة، ليجد العمّال الأكثر ضعفًا أنفسهم عالقين في حلقة مُفرغة، إذ تمنعهم خسارة القوة الشرائية وغياب الحماية الاجتماعية من تحسين ظروفهم المعيشية. وفي الوقت نفسه، يتعزّز موقف الشركات والأفراد الذين يتمتعون بامتياز الوصول إلى العملات الأجنبية والفرص الرسمية، ما يؤدّي إلى تفاقم الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية داخل المجتمع اللبناني.
ثانيًا: دور السياسات المالية والنقدية في اللامساواة
سجّل لبنان طوال سنين مستوى منخفضًا في نسبة الإيرادات الضريبية من إجمالي الناتج المحلي. قبل أزمة 2019، كانت الإيرادات الضريبية تشكّل نحو 14% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة أقل بكثير من المتوسط مقارنة بالدول متوسطة الدخل (20-25%).
تشير دراسة أجرتها مؤسّسة Financially Wise إلى أن تكلفة القصور في تحصيل الضرائب باهظة، ووفقًا لهذه الدراسة، كان بإمكان لبنان توفير مليارات الدولارات من الفوائد على ديونه وتقليص اللامساواة عبر الأجيال لو زادت حصة الضرائب في الناتج المحلي الإجمالي ولو بنقطة واحدة.
ويعود هذا المستوى المنخفض في تحصيل الضرائب إلى نظام ضريبي يعتمد بشكل كبير على الضرائب غير المباشرة، مثل ضريبة القيمة المضافة والرسوم الجمركية التي مثلت 56% من إجمالي الإيرادات الضريبية في عام 2015، أو 7.8% من الناتج المحلي الإجمالي، حسب دراسة نشرتها مبادرة الإصلاح العربي. وعلى الرغم من سهولة تحصيل هذه الضرائب، فإنها تنازلية بشكل مفرط. وعلى الرغم من أنها لا تشمل ضروريات أساسية (الغذاء الأساسي، والصحة، والتعليم، وما إلى ذلك)، فإنها تثقل كاهل الأسر ذات الدخل المنخفض، وتفاقم من مستويات اللامساواة.
بموازاة ذلك، تظل الضرائب المباشرة محدودة وغير تصاعدية بما يكفي، ولم تساهم في عام 2015 إلا بنحو 11% فقط من الإيرادات الضريبية. يتم فرض الضرائب على دخل العمل والإيجارات بشكل تصاعدي، فيما تخضع المصادر الأخرى، مثل الفوائد وأرباح الأسهم ورأس المال، لمعدلات ثابتة منخفضة تتراوح بين 10 و15%. ويسمح هذا التقسيم للضرائب بحسب نوع الدخل للأفراد متعدّدي مصادر الدخل بالتهرّب من معدّلات ضريبية أعلى، على عكس الأنظمة التصاعدية المتكاملة المعمول بها في بلدان مماثلة، التي تجمع إيرادات أكثر بواقع مرتين إلى 3 مرات.
تعتمد ضريبة الدخل معدّلات تصاعدية جدّ محدودة لا تتجاوز نسبتها 25%، ويعاني تطبيقها من شوائب عدّة. على سبيل المثال، تستفيد الشركات الكبيرة والأثرياء من ثغرات ضريبية كبيرة، لا سيما من خلال الإعفاءات أو التحايل على النظام بفضل قانون السرّية المصرفية. إلى ذلك، فإن غياب الضرائب المعقولة على الثروة أو الضرائب الكبيرة على الميراث يحدّ من إعادة توزيع الدخل والثروة.
من جهة أخرى، تفاقمت الطبيعة التنازلية للموازنة اللبنانية على مدى سنوات جرّاء طبيعة توزيع المخصّصات، إذ تم توزيع غالبية الموارد على بندين أساسيين في الموازنة، هما خدمة الدين ورواتب وأجور العاملين في القطاع العام.
ومع تجاوز الدين 150% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2018، شكّلت خدمة الدين (بمعدلات مرتفعة) الحصة الأكبر من الإنفاق العام، التي صبّت في جيوب المصارف وكبار المودعين، وهم حاملو سندات الدين العام الرئيسيون، ما قلب دائرة إعادة التوزيع المالي رأسًا على عقب، إذ فُرضت الضرائب على الأكثر حرمانًا لتمويل الأكثر حظوةً.
وتشكّل الحصة الغالبة للأجور والرواتب في الإنفاق العام عاملًا آخر من عوامل تعميق مستويات اللامساواة، ليس بسبب حجم هذه النفقات، لكن بسبب طبيعتها: فقد ساعدت من ناحية وعلى مدى سنوات في حماية شبكات الزبائنية، ولم تطل الموظّفين القادرين على إصلاح الدولة، وساهمت من جانب آخر في اختلال توازن الخدمات الأمنية، لا سيما في قوى الأمن والجيش، ما أدّى إلى زيادة البطالة المُقنّعة وحدوث تشوهات كبيرة في سوق العمل.
بشكل عام، أثر انخفاض مستوى الإيرادات الضريبية بشكل مباشر على خيارات موازنة الدولة، ما أدّى إلى نقص مُزمن في المخصّصات المرصودة للخدمات العامة الأساسية والبنية التحتية. ووفقًا لمؤشر الالتزام بالحدّ من انعدام المساواة الصادر عن منظمة "أوكسفام"، يحتل لبنان بين الدول المرتبة 105 من 158 على صعيد الإنفاق العام، في دلالة واضحة على الأثر المحدود للاستثمار العام في قطاعات التعليم والصحّة والحماية الاجتماعية في ردم هوة اللامساواة.
وعلى الرغم من تنوّع النظم الاجتماعية القائمة، لا تزال الكثير من الفئات الضعيفة مستبعدةً باستمرار من الإنفاق على الحماية الاجتماعية. ففي عام 2019، تم تخصيص 22% من إجمالي الموازنة للحماية الاجتماعية. إلا أن هذا الرقم يخفي حقيقة أن الفئات السكانية الأكثر ضعفًا تستفيد بشكل محدود من هذه الخدمات، وفقًا لدراسة عن اللامساواة أجرتها منظمة "أوكسفام" والجامعة الأمريكية في بيروت.
ومنذ أزمة 2019، أفلست جميع هذه الأنظمة غير العادلة، وهي بالكاد تكفي معظم إيرادات الدولة لتمويل رواتب موظّفي القطاع العام، بلا أي أساس منطقي يسائل كفاءة الخدمات العامة وأهمّيتها، وفي ظل هيمنة ثقافة الزبائنية.
وعلى صعيد السياسات النقدية، شكّلت سياسة سعر الصرف الثابت التي اعتمدها مصرف لبنان عاملًا رئيسيًّا في تفاقم اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية. من خلال الحفاظ على سعر صرف الدولار الأمريكي عند 1.500 ليرة لبنانية للدولار الواحد، سمح مصرف لبنان بدعم الواردات، لا سيما السلع الاستهلاكية والوقود، واستفادت من ذلك بشكل غير متناسب الطبقات المتوسطة والعليا التي تستهلك أكثر من الطبقات الفقيرة.
كما أدّت هذه السياسة إلى تفاقم العجز في الحساب الجاري وتعميق التبعية المالية للاقتصاد اللبناني. وعلى الرغم من أن هذا الخلل لم يكن ظاهرًا لسنوات، فإنه انفجر في نهاية المطاف، دافعًا بالبلاد إلى دوامة من تدهور قيمة العملة والتضخّم المفرط.
أمّا على مستوى الاقتصاد الجزئي، فقد أدّى التثبيت المقصود لسعر الصرف إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج على الشركات اللبنانية جرّاء ارتفاع أسعار الواردات. ولم تتمكّن هذه الشركات من تعديل أسعارها في ظل غياب المرونة النقدية، ما ساهم في بقاء الأجور على حالها.
ورسّخت السياسات النقدية اللبنانية نموذجًا اقتصاديًّا ريعيًّا على حساب الاقتصاد الإنتاجي. وطوال عقود، حافظ المصرف المركزي على أسعار فائدة جذّابة على الودائع بالعملات الأجنبية، ما أدّى إلى ضخّ رؤوس الأموال في المصارف بدلًا من استثمارها في مشاريع إنتاجية. سمح هذا النموذج لأقل من 1% من الحسابات المصرفية بالاستحواذ على أكثر من 50% من الودائع، وذلك بسبب التأثير المتسارع للعوائد على الحسابات لأجل. وكانت الضرائب المفروضة على الدخل الناتج عن هذه الاستثمارات ضئيلة أو معدومة، الأمر الذي أدّى إلى تفاقم اللامساواة في الدخل.
بلغ هذا النظام أوجه مع "الهندسات المالية" لمصرف لبنان التي غذّت ثروات المصارف المحلّية ومساهميها وكبار المودعين، فيما ازدادت بسببها خسائر النظام المالي. ووفقًا لصندوق النقد الدولي، كان لا يزال من الممكن في عام 2017 تغطية 100% من الودائع في المصارف اللبنانية. إلا أن هذه النسبة تراجعت إلى 60% حين منعت السلطات تنفيذ خطّة إعادة هيكلة القطاع المالي والمالية العامة في عام 2020، إذ لم تعد تتجاوز الآن 15 إلى 20%.
وكان للخيارات التي انتهجتها السياسة النقدية في مرحلة ما بعد 2019 آثار سلبية أكثر من تلك التي شهدتها العقود السابقة. وقد أدّى عدم التدخل المتعمّد للدولة في الوقت المناسب إلى خفض قيمة العملة والتضخّم المفرط، وهما بمثابة الضريبة الأكثر تنازلية على أي مجتمع. وتجاوز متوسط مستوى الزيادات في الأسعار 200% قبل أن ينخفض إلى أقل من 100% عام 2024.
ربما يكون الحفاظ على تثبيت سعر العملة قد دعم فئات اجتماعية معينة، لكن جاء ذلك على حساب الغالبية.
ثالثًا: تشوّهات كبيرة جراء تجاوز الدخل المتاح الناتج المحلي الإجمالي
من خصوصيات لبنان تجاوز دخله الوطني المتاح ناتجه المحلي الإجمالي بكثير، وذلك نتيجة التدفقات المالية الضخمة من المغتربين، ولكن أيضًا بسبب أنواع أخرى من التحويلات غير المتبادلة، مثل المساعدات الإنسانية.
مثلت التحويلات المالية من المغتربين نحو 15% من الناتج المحلي الإجمالي قبل أن تتضاعف إلى 30% منذ انهيار الدخل الوطني. وتعد هذه التحويلات ضرورية للكثير من الأسر، ليس لدعم استهلاكها فحسب، ولكن أيضًا لتسهيل حصولها على السكن والتعليم والصحة. تعمل هذه الأموال على تغذية عملية إعادة توزيع ضخمة تؤدّي إلى تضخيم الدخل الظاهري للأسر، بطريقة غير متكافئة، وتنتهي في آخر المطاف بتمويل عجز الحساب الجاري، مع كل التداعيات المعروفة على مستوى اختلال توازن الاقتصاد الكلي.
بالإضافة إلى هذه التحويلات غير المتبادلة، يعود جزء كبير جدًا من الطلب الداخلي إلى المغتربين الذين يركّزون بشكل أساسي على قطاعي السياحة والعقارات، ما يخلق تركّزًا للاستثمارات في هذين القطاعين. بالتالي يتمّ تخصيص رأس المال المتاح للقطاعات التي لا تخضع للمنافسة الخارجية، ما يضعف القدرة التنافسية الشاملة للاقتصاد. وقد تم توثيق الظاهرة المعروفة باسم المرض الهولندي على نطاق واسع، وهو أحد العوامل الرئيسية في زيادة اللامساواة في لبنان منذ عقود. وقد تضاعف منذ الأزمة بسبب تزايد ثقل التحويلات والطلب الخارجي مقارنة بحجم الاقتصاد.
خاتمة
تسلّط مسألة اللامساواة في لبنان الضوء على ما أثبته الكثير من المحلّلين بالفعل فيما يتعلق بآثار "رأسمالية المحاسيب"، والأنظمة "الكلبتوقراطية" وعواقب سياساتها الاقتصادية على إعادة التوزيع. وتقوم الزبائنية اللبنانية على شبكات معقّدة من تبادل الخدمات بين النخب السياسية والمجتمعية والاقتصادية والمالية، وهي تحافظ على ديناميات يعود تاريخها إلى السلطنة العثمانية، والزعماء المحلّيين الذين استغلّوا علاقاتهم من أجل توزيع الامتيازات وتعزيز سيطرتهم على قواعدهم. وقد تمأسس هذا النظام على مرّ العقود، في إطار النموذج السياسي الطائفي، وبات المجتمع في لبنان مشرذمًا بين مجموعات منعزلة يتحكم بكل منها زعيم له موارده الخاصة.
وتختلف أنواع الريوع، من المساعدات الخيرية، إلى التمويل السياسي، مرورًا بهيكلة الاحتكارات التجارية. والتنافس على الوصول إلى مصادر التمويل الذي يحدّد بنية المجتمع، مع عواقب وخيمة على الظروف المعيشية. لطالما كانت الدولة، باعتبارها جهة اقتصادية فاعلة، أداة مهمّة لإعادة التوزيع، ومع انخفاض حيّزها الاقتصادي منذ 2019 (بالكاد 10% من الناتج المحلي الإجمالي)، أصبحت في أحسن الأحوال مصدرًا للدخل مثلها مثل أي مصدر آخر. وما زلنا بعيدين جدًا من وضع الثروة والمداخيل الوطنية في خدمة المصلحة العامة.
سوف يحتاج لبنان إلى ثورة سياسية حقيقية لتحديد ماهية هذه المصلحة العامة، فضلًا عن إرساء أسس دولة الرفاهية التي أصبح مفهومها ذاته موضع تساؤل في الدول المتقدّمة.
* قام بترجمة هذا النص من الإنجليزية غيدا اليمن **توفيق كسبار، الاقتصاد السياسي في لبنان 1948-2002: حدود الحرية الاقتصادية، لايدن: دار بريل للنشر، 2003.