
السؤال المنسي.. إلى أين انتهت أحلام الربيع العربي في العدالة الاجتماعية؟
في عام 2011، والسنوات القليلة التالية له، انشغل الباحثون من شتى بقاع العالم بالكتابة عن الربيع العربي وآمال الشعوب التي قادت هذه الانتفاضات في التخلص من الديكتاتورية وبناء اقتصاد جديد أكثر ميلًا للعدالة الاجتماعية، لكن وبعد عقد ونصف العقد من هذه الأحداث، تراجع عدد الكتابات المنشغلة بما آلت إليه هذه الثورات لأقصى درجة.
تونس، كما كانت هي الإجابة الملهمة لباقي شعوب المنطقة في 2011، يبدو أنها أضحت المثال أيضًا على كيفية إعادة السيطرة الرأسمالية على المجتمع في الوقت الراهن؛ في مقاله البحثي عن تونس ما بعد الثورة يرصد أحمد نظيف استمرار ما سمَّاه "سيطرة القلة" في تونس، التي يقصد بها هيمنة نخبة محدودة على الاقتصاد التونسي والاستحواذ على موارده دونًا عن باقي المجتمع.
يركز نظيف في تحليله على رصد البناء الطبقي لتونس قبل وبعد الثورة؛ قبل الإطاحة بالرئيس التونسي زين العابدين بن علي كانت القلة المسيطرة هي نخبة ترتبط بدرجة كبيرة بعائلته، وهو ما كان يزاحم البرجوازية التقليدية في تونس، لذا بعد الثورة وجدت الأخيرة فرصةً للصعود لتصبح هي الفئة الجديدة المهيمنة على الاقتصاد.
الأمر لم يقتصر على ذلك، فقد صعد بعد الثورة تيار جديد من الرأسمالية المرتبطة بالحركة الإسلامية، التي يرى نظيف أنها وجدت مجالًا للتراكم الرأسمالي عبر التجارة غير الرسمية على الحدود، خصوصًا مع تحسن العلاقات مع ليبيا والجزائر، حتى أحكم جناحا الرأسمالية، الإسلامي والعلماني، قبضتهما على موارد البلاد ليعيدا حالة المحسوبية التي عرفتها تونس قبل الثورة.
في مصر، لا تزال الشركات التي أسسها رجال أعمال محسوبون على نظام مبارك قائمةً وتتوسع بقوة، لكن ذلك لا ينفي أن بعضها تضرر بشدة من سياسات التشديد النقدي المتبعة خلال العقد الأخير. تبدو القصة المصرية أكثر ارتباطًا بهيمنة صندوق النقد الدولي الذي قاد حزمةً جديدةً للسياسات النيوليبرالية في البلاد منذ 2016، بعد الموجة الأولى من التكيف الهيكلي في تسعينيات القرن الماضي.
يركز تحليل الحالة المصرية على بناء صورة الواقع المصري الراهن بالاعتماد على المؤشرات الظاهرة في إفصاحات الشركات الكبرى المقيدة ببورصة الأوراق المالية، التي يظهر منها كيف كان القطاع المالي الأكثر استفادةً من سياسات رفع الفائدة، في وقت تضررت فيه الأنشطة الإنتاجية من التضخم وأزمة الدولار.
لا يقتصر الأمر على الرأسمالية الإنتاجية فحسب، لكن المواطن كان أكثر تأثرًا بسياسات الصندوق التي انعكست بشكل واضح على الميول التقشفية في الموازنة المصرية، بسبب تراكم الديون وارتفاع الفوائد. يقارن التحليل موازنة مصر الحالية التي تقترب فيها نفقات الفائدة من نصف مصروفاتها، بموازنة عصر ما قبل الصندوق، في 1989 وقت أن كان بند الأجور يفوق بند الفائدة بشكل كبير، ما يعكس طبيعة الهيمنة الحالية للصندوق والقطاعات المالية على المجتمع.
في لبنان لم تحدث ثورة، لأنه لم تكن هناك سلطة مركزية قوية في البلاد، لكن الشعب كان يتوق بقوة للعدالة في بلد يعد مثالًا صارخًا على تفاقم اللامساواة في توزيع الدخل والثروة والوصول للخدمات الأساسية، ليس على المستوى العربي فحسب لكن على مستوى العالم.
لم تصل لبنان للعدالة الاجتماعية التي كانت تنشدها، بل تدهورت بها الحال مع نشوب أزمة التضخم المفرط وانهيار العملة المحلية منذ 2020، ما ساهم في مفاقمة تدهور أحوال العديد من القطاعات الهشة في المجتمع.
تقدم سيبيل رزق تحليلها للشأن اللبناني بالاعتماد على إحصاءات اللامساوة في لبنان. المفارقة أنها تبدأ تحليلها بالحديث عن نقص الإحصاءات، إذ يعود آخر مسح لميزانيات الأسر أجرته إدارة الإحصاء المركزي إلى عام 2018-2019، وهو ليس بعيدًا عن حال مصر التي نشر آخر مسح للدخل والإنفاق في 2020.
بالاعتماد على بيانات صادرة عن جهات دولية مثل البنك الدولي ومنظمة العمل الدولية أو دراسات قام بها باحثون مستقلون، تبني سيبيل صورة متكاملة عن أوجه التفاوت في بلادها، التي يتمتع فيها أغنى 0.1% بنحو 30% من الدخل ويصل الفقر في بعض المناطق إلى 70% من السكان، في وقت رُفع فيه الدعم عن الأدوية والمواد الغذائية.
تعكس أوجه التحليل المختلفة السابقة، بالنظر للهيكل الطبقي أو للبيانات المالية أو مؤشرات اللامساواة، صورة واحدة لشعوب المنطقة، التي عادت إلى مربع ما قبل الربيع العربي، وربما باتت أسوأ حالًا مع اتساع رقعة الحرب الإسرائيلية ووصولها إلى بيروت وما خلفته من آثار مدمرة، وفي ظل هيمنة أكبر لصندوق النقد ليقود دفعة جديدة من السياسات التحررية يستكمل فيها ما بدأه في تسعينيات القرن الماضي.
هذا الملف إنتاج مشترك بين مجلة "صفر" وموقع المنصة، وينشر بالتزامن بموحب اتفاق خاص.