تتأهب الحكومة لنقل كافة وزاراتها إلى العاصمة الجديدة، بعد تأجيلات متكررة خلال الأعوام الماضية، وتتطلع الدولة أن يكون هذا الانتقال بداية لطفرة تحديث في جهازها الإداري، بوصفها مدينة ذكية أكثر تطورًا من العاصمة العتيقة.
لا تتطرق التصريحات والبيانات الرسمية إلى إجابة عن سؤال أكثر جوهرية حول جدوى مشروع العاصمة الجديدة؟ هل يكفي الاستثمار في البنية الأساسية من أجل تأسيس مجتمع جديد؟ هل تستطيع العاصمة اجتذاب أسر عادية من طبقات بسيطة؟ وهل هي قادرة على جذب المستثمرين أيضًا؟
نسعى هنا للإجابة عن بعض هذه الأسئلة، من وحي كتابات نشرها باحثون خلال الفترة الأخيرة، في محاولة لتقييم المشروع الممتد على آلاف الأفدنة في شرق القاهرة، والذي استثمرت فيه الدولة بكثافة منذ 2016.
ما علاقة العاصمة الجديدة بالقاهرة القديمة؟
ضاقت العاصمة القديمة بسكانها، فتدهور مستوى خدماتها لدرجة تستعصي على الحل، الأمر الذي استدعى الهروب إلى عاصمة جديدة؛ هذا ما يمكن استخلاصه من خطاب الخبراء المؤيدين لهذا المشروع الضخم.
لكن ثمة خطاب آخر يتبناه باحثون مثل علي النادي، في ورقته المنشورة لدى مركز حلول للسياسات البديلة، بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، والتي يحاجج فيها بأن مشكلة القاهرة لم تكن في ضيق المساحة، بل في التحضر العشوائي، مبينًا أن إنتاج المساحة في المدينة قام تاريخيًا من خلال التنافس والصراع بين الشرائح الاجتماعية والاقتصادية والدولة، في غياب التخطيط الاستراتيجي.
وهناك استنتاجات مشابهة لباحثين في البنك الدولي، في دراسة أعدت سنة 2014 حول زحمة السير في القاهرة، استبعدوا فيها أن يكون سبب الأزمة تهالك بنية النقل الجماعي تحت وطأة زيادة السكان، وركزوا على هامشية دور النقل الجماعي، فأوتوبيسات النقل العام لم تمثل سوى 2% من مركبات القاهرة، والميكروباصات مثلت 14%.
في المقابل، رصدت الدراسة أن 55% من المركبات هي سيارات خاصة، و24% تاكسي، وأرجعت الزحام إلى غياب الاستثمار في النقل العام بالقاهرة، وليس عجز الدولة أمام تزاحم المواطنين على الخدمات.
يقول أستاذ العمارة والتخطيط والتاريخ العمراني في جامعة كاليفورنيا نزار صياد للمنصة إن "العاصمة الإدارية الجديدة نشأت لأننا لم نستطع حل مشاكل القاهرة". لم تكترث الدولة بحل مشكلات العاصمة القديمة، كما يقول الصياد، واتجهت لبناء المدينة الجديدة التي تمتد على آلاف الأفدنة في صحراء شرق البلاد، وعندما أسست مدينتها فكرت في الأمر "كمطور عقاري"، دون أن تضع تصورًا لبناء مجتمع متكامل، كما يضيف الصياد.
ويعلق الصياد بقوله "في مدينتي 6 أكتوبر والشيخ زايد، تمت مراعاة البنية التحتية الاجتماعية من خلال بناء مجمعات سكنية تخدم منطقة المصانع والعاملين فيها. بينما في العاصمة الإدارية الجديدة لم تنتبه الدولة إلى هذا الأمر إلا بعد الإنشاء، وهم الآن يحاولون تلافي هذا الخطأ من خلال اجتذاب مؤسسات خدمية مثل الجامعات".
من المستهدف بالعاصمة الإدارية الجديدة؟
عن السر وراء هذه الطريقة الارتجالية في إنشاء المدينة هائلة الحجم، يقول الصياد إن السبب هو أن شخصًا ما قرر إنشاءها دون دراسة كاملة بشكل اقتصادي أو اجتماعي، "اعتمد الأمر على نظرية وحيدة، If you build it they will come/إذا أنشأتها سوف يأتي الناس".
لكن الواقع يقول إن المدينة أُنشأت ولم يأت الناس. والدليل على ذلك أن الوزارات، حتى الآن، لم تنتقل بالكامل إلى مقراتها الجديدة، ومن ضمن مصاعب إتمام الانتقال ما واجهه الموظفون عندما حاولوا العيش في مدينة مخصصة لسكن الطبقات العليا.
وباعتبار أن ما حدث قد حدث، هل يمكن الآن جعل العاصمة الجديدة مدينة شاملة، قادرة على تقديم الخدمات العامة كالنقل العام والتعليم والرعاية الصحية والإسكان بكل مستوياته، فضلًا عن فرص التنمية الشخصية؟
ترى الباحثة أميرة الهاكع، في ورقة نشرتها بمركز حلول للسياسات البديلة، أن العاصمة الإدارية لم تنجح حتى الآن في خلق فرص عمل لكل طبقات المجتمع. ولهذا أثر كبير على الطابع الديموغرافي للمدينة، فغياب فرص العمل المتنوعة يعني أن المدينة الضخمة تستهدف طبقة واحدة، ما ينتقص من استدامتها الاجتماعية.
نشأت العاصمة كمركز لعدد كبير من المجمعات السكنية الفارهة، التي يعتمد سكانها على الأعمال الحرة، وكان التطلع هو أن تكون أعمالهم في المساحات الإدارية بالمدينة، التي يصل سعر المتر فيها حاليًا إلى 15 ألف جنيه. لكن مع الوقت، بدا أن هناك حاجة ماسة لوجود شرائح أخرى من الموظفين والطبقة الوسطى.
وفي محاولة لجذب الطبقة الوسطى تم الترويج لمدينة بدر كبديل، لكن الفكرة لم تلق قبولًا واسعًا لأنها تبتعد تقريبًا 15 كيلومترًا عن مركز العاصمة الإدارية، كما أنها أيضًا مدينة غير مكتملة خدميًا، وارتفع سعر المتر فيها بسبب الضغوط التضخمية. وحتى الآن لم تتضح الرؤية الكاملة في مسألة المواصلات والتنقلات بين العاصمة ومدينة بدر.
وإلى جانب العزلة الطبقية عن المحيط السكاني، تواجه المدينة تحديا فيما يتعلق بالعزلة عن طبقات المستثمرين.
الاستثمارات الأجنبية في العاصمة الإدارية
كان الهدف وراء اقتراض المليارات لبناء حي من الأبراج الزجاجية الشاهقة هو جذب المستثمرين الأجانب في مجال القطاع المالي لتأسيس مراكزهم الرئيسية في حي ينافس أحياء المال في العالم المتقدم، لكن خبراء في العمران يرون أن جذب الاستثمارات لا يتحقق فقط ببناء مدن للمستثمرين.
إن تأسيس أحياء للاستثمار هو أداة وليس غرضًا لذاته، وكما يشرح علي النادي فإن عجز مصر عن جذب الاستثمارات الأجنبية يكمن في مشكلات أكثر تعقيدًا مثل تحسين القدرات الاستيعابية للشركات المحلية لنقل التكنولوجيا، وتحسين أنظمة الابتكار الوطنية، وتطوير استراتيجيات طويلة ومتوسطة الأجل لسد الفجوة بين التعليم وسوق العمل.
وهناك بالفعل نماذج فشلت عندما اعتمدت فقط على الجانب الإنشائي، مثل مدينة فورست بماليزيا. تكمن المشكلة الرئيسية في سياسة الدولة تجاه الاستثمار، أما مشكلة المساحة فتعد عاملًا من ضمن العوامل وليست هدفًا رئيسيًا يحقق الاستثمار، وفقًا للنادي.
وتبدو العديد من الأسماء الخليجية الشهيرة في السوق المصري بعيدة عن الاستثمار في العاصمة، على الرغم من أن مصممي العاصمة كانوا شديدي الولع بالنموذج العمراني لبلاد النفط.
تستهدف شركات الاستثمار الخليجية، على سبيل المثال، الاستحواذ على شركات عقارية تمتلك أراض في أماكن أكثر حيوية، مثل منطقتي القاهرة الجديدة وشرق القاهرة، فضلًا عن مناطق في مدينة 6 أكتوبر وغيرها.
تبين دراسة من يملك القاهرة؟، التي أصدرها مرصد العمران، أن حجم التواجد الإماراتي في القاهرة يصل إلى 16.6% من حجم الأراضي، وأن تلك الأراضي لا تقع في منطقة العاصمة الإدارية الجديدة، ويبين هذا أن الاستثمار العقاري يحدث في مناطق مغايرة للمنطقة التي تسعى الدولة لتسليعها عقاريًا.
تركز الدولة في دفاعها عن المشروع بقولها إن بناء العاصمة لم يعتمد على مخصصات من الموازنة العامة، بقدر اعتماده على إيرادات مبيعات الأراضي للمطورين، وبهذا المعنى يمكن اعتبار العاصمة مشروعًا ناجحًا.
ووفقًا لتصريحات صحفية، فإن الحكومة في نهاية عام 2018 باعت نحو 17 ألف فدان، بما يمثل نحو 70% من أراضي المرحلة الأولى في المشروع. وفي 2022، قالت شركة العاصمة إنه لم يتبق من أراضي المرحلة الأولى سوى 5500 فدان. وبسبب الإقبال على الأراضي وصل سعر المتر السكني سنة 2020 إلى 4000 جنيه كأحد أدنى، بينما تراوح في حالة المتر الإداري من 12 ألى 17 ألف جنيه. وفي سنة 2022 وصل سعر المتر السكني إلى 5500 جنيه.
من الناحية الاقتصادية، نجحت الدولة فعلًا في تعظيم قيمة أصولها في العاصمة، لكن من الناحية العمرانية، كما تشير الدراسات السابقة، فإن الدولة لم تنجح حتى الآن في خلق مجتمع جديد وحياة متوازنة تبرر هذا الاندفاع للخروج الكبير من العاصمة القديمة.
ووفقًا للدراسات السابقة، فإن إنشاء أي مدينة جديدة يجب أن يخضع لمعايير عمرانية صارمة، ودراسة جدوى لطبيعة تلك المدينة، كما يجب أن تستهدف كل الطبقات الاجتماعية وتقدم لهم الخدمات الاجتماعية والعمرانية اللازمة. خاصة إذا كانت مدينة خدمية وليست كومباوند سكني مغلق.