"هذا المشروع ينقل مصر إلى مصاف المدن العالمية.. لأول مرة هنشوف الأبراج العملاقة أو ناطحات السحاب في مصر"، هكذا تحدث رئيس الوزراء المصري قبل نحو خمس سنوات، وهو يضع حجر الأساس لمشروع حي للمال في العاصمة الجديدة.
على الرغم من أن مشروع حي المال يعد واحدًا من الأيقونات، التي تضعها الدولة في صدارة دعايتها عن الجمهورية الجديدة التي تنافس أبراج دبي والرياض، إلا أن تنفيذ المشروع تأخر عن الموعد المخطط له.
يرى خبراء أن الحي، الذي لا يزال مكونًا من بنايات غير مكتملة التشطيب، أمامه وقت طويل حتى يكون قادرًا على جذب كبرى أسماء عالم المال والأعمال، ما قد يزيد من الضغوط المالية للمشروع، خاصة مع اعتماده على قرض ضخم من الصين.
في المقابل، يرى خبراء آخرون أن مستثمري القطاع الخاص المشاركين في هذا الحي نجحوا في تسويق أبراجهم، التي لاتزال تحت الإنشاء، معتمدين على سمعة "العاصمة الجديدة"، وما توفره الدولة من خدمات أساسية، وهو مؤشر على أن الدولة ستنجح أيضًا في تسويق أبراجها بهذا الحي، حتى وإن استغرق الأمر زمنًا أطول مما كان متوقعًا.
من يمول حي المال؟
يمتد حي المال والأعمال، أو منطقة الأعمال المركزية Central Business District (CBD)، على مساحة 170 فدانًا في قلب العاصمة الإدارية الجديدة، ويعد أول مشروع تم وضع حجر أساسه في العاصمة، بالشراكة مع "سيسك الصينية".
لم يقتصر دور الشريك الصيني على الإنشاءات، ولكن قدمت الصين أيضًا قرضًا قيمته حوالي 3 مليارات دولار ، ضمن مبادرة الحزام والطريق، لتمويل إنشاء الأبراج الحكومية في الحي، والتي يصل عددها إلى 20 برجًا، بينها البرج الأيقوني، الأعلى في إفريقيا بارتفاع 400 متر تقريبًا.
التحدي الأكبر أمام الحكومة هو قدرتها على الالتزام بالسداد
يعد القرض الصيني واحدًا من التمويلات الصينية واسعة الانتشار في المنطقة، حيث تشير تقديرات إلى أن بكين هي أكبر مُقرضٍ للقطاع العام في إفريقيا على مستوى القروض الثنائية. وتُركز هذه التمويلات بشكل أساسي على أعمال البنية الأساسية.
وبحسب ما تم إعلانه من شروط التمويل، تمتد مدة سداد القرض إلى 10 سنوات بفائدة 2%.
ويقول مصدر مسؤول عن متابعة تنفيذ مشروعات هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، للمنصة إنه "تم توفير مكونات محلية للمشروع تعادل 15% من قيمة القرض، وفقًا للاتفاق بين هيئة المجتمعات العمرانية وشركة سيسك الصينية".
التحدي الأكبر أمام الحكومة هو قدرتها على الالتزام بالسداد. إلا أن المهندس خالد عباس رئيس شركة العاصمة الإدارية الجديدة، يطمئن الرأي العام بأن الحكومة تخطط لأن يتزامن بيع وحدات حي المال مع بدء سداد القرض الصيني. وهو ما يتسق مع النمط السائد للقروض الصينية، التي تعتمد على سدادها من إيرادات المشروعات، بحسب دراسة لمركز كارنيجي.
ووفق ما هو معلن، تنتهي فترة سماح القرض مع انتهاء الإنشاءات، بما يقلل من ضغوط السداد، لكن إلى أي مدى تأخر التنفيذ؟
غموض أسباب التأخير
تم وضع حجر الأساس للأبراج الحكومية في حي المال في مارس/آذار 2018، وكان المعلن وقتها أن تنفيذ المشروع سيستغرق 42 شهرًا، لكن بعد مرور نحو 64 شهرًا لم ينته تنفيذ أي برج بالمنطقة.
اقتطعت مدة التنفيذ من سنوات سداد القرض، ما يجعل تسويق المنشآت مسألة بالغة الحيوية
وبحسب المصدر بهيئة المجتمعات العمرانية، فإن المشروع الأقرب للتشغيل هو البرج الأيقوني، المتوقع بدء تشغيله خلال العام المقبل بحد أقصى، ويقول "تتم حاليا التشطيبات الداخلية والواجهات، وتم التعاقد مع أكور الفرنسية لإدارة الجزء الفندقي بالبرج".
أما عن باقي الأبراج الحكومية، التي تتعدد استخداماتها بين ما هو سكني وإداري، فلن تنته قبل عام أو أكثر، بالنظر إلى عدم البدء، حتى الوقت الراهن، في التشطيبات الداخلية.
وأرجع مصدر قريب الصلة من الإدارة المتابعة لمشروع العاصمة في هيئة المجتمعات العمرانية، طلب عدم ذكر اسمه، التأخر في التنفيذ إلى توقف بعض الأعمال الخاصة بالمشروع، خلال فترة انتشار فيروس كورونا قبل نحو 3 سنوات.
لكن هذا التفسير يبدو متناقضًا مع تصريحات وزير الإسكان وقت ذروة انتشار الفيروس، التي أكدت أن الوباء لم يعطل مشروعات العاصمة، ما يزيد من الغموض حول الأسباب الحقيقية لتأخر التنفيذ.
بشكل عام، اقتطعت مدة التنفيذ من سنوات سداد القرض، الأمر الذي يجعل القدرة على تسويق المنشآت، مسألة بالغة الحيوية لتوفير الإيرادات اللازمة لسداد القرض الصيني.
من يسوق حي المال؟
"تلقى المشروع دعمًا قويًا من الدولة، وتم الدفع في اتجاه تنفيذه بأقصى سرعة وأفضل جودة ممكنة. لكن حتى الآن فإن المردود المالي من المشروع لا يزال بعيدًا"، كما يقول المصدر قريب الصلة من إدارة المتابعة لمشروع العاصمة في هيئة المجتمعات العمرانية.
يعتمد الترويج للغرف الفندقية على سياحة المؤتمرات، لكن هذه الطموحات لا تزال بعيدة المنال
ويوضح المصدر ذاته أن أكبر عقبات التسويق التي ستواجه الأبراج الحكومية هي بيع الغرف الفندقية فيها، "من الصعب أن يقوم سائحين بحجز غرفة فندقية في منطقة لا تزال تحت الإنشاء، حتى لو كان المستهدف أن تتحول لأهم مدينة في مصر كلها. خاصة أنها لا تتمتع حاليًا بعناصر الجذب التقليدية للسياحة، مثل القرب من النيل أو البحر، أو التواجد بالقرب من المناطق السياحية".
وبحسب نفس المصدر، كانت التطلعات وقت التخطيط لإنشاء حي المال أن يعتمد الترويج للغرف الفندقية على سياحة المؤتمرات، خاصة مع تشغيل الأحياء الحكومية بالعاصمة، لكن هذه الطموحات لا تزال بعيدة المنال، "العمل بالعاصمة لازال جزئيًا، وتقريبا يقتصر على الحي الحكومي، الذي بدأ فعليًا العمل فيه مايو الماضي، ولا تزال بعض الوزارات لم تنتقل بالكامل لمكاتبها بالعاصمة".
الإقبال المحدود على السكن والعمل في العاصمة الجديدة يجعل من مسألة تحديد الجهة المسؤولة عن تسويق أبراج حي المال سؤالا مصيريًا. وبحسب مصدر بوزارة الإسكان، طلب عدم ذكر اسمه، "يتم حاليا دراسة إجراء مناقصة لإدارة الطروحات للمنطقة المركزية بالكامل، وهناك مقترح يتم دراسته حاليًا بالاعتماد على إدارة مصرية لهذا الغرض. ولكن لم يتم الاتفاق نهائيًا على شكل ونوعية الإدارة التي ستتولى طرح المشروع للمستثمرين وبيع وتأجير الوحدات بالأبراج المنفذة".
وكان وزير الإسكان الدكتور عاصم الجزار التقى بعدة تحالفات عالمية لهذا الغرض في بداية 2020، لكن لم تُوقع أي تعاقدات أو تُتخذ إجراءات فعلية.
وقال المصدر الأول، قريب الصلة من إدارة المتابعة لمشروع العاصمة في هيئة المجتمعات العمرانية، إن الدولة قد تختار الذراع التسويقي لهيئة المجتمعات العمرانية، شركة سيتي إيدج، لتسويق أبراج حي المال، بعد أن أثبتت كفاءتها في تسويق أبراج العلمين.
وسيتي إيدج، التي تأسست عام 2017، هي شركة تابعة لهيئة المجتمعات العمرانية وبنك الإسكان والتعمير، إلا أنها، وكما يبدو واضحًا من موقعها الرسمي، لا تركز على الأنشطة التقليدية للهيئات الحكومية في مجال الإسكان الاجتماعي، بل تسعى لمجاراة مطوري القطاع الخاص في الترويج للإسكان الفاخر.
وكانت هيئة المجتمعات وجهت استثمارات ضخمة لإنشاء عدد من الأبراج الشاهقة في مدينة العلمين الجديدة، وأوكلت لسيتي إيدج مهمة تسويق هذه الأبراج لإعادة بيعها. وقالت الشركة، في تصريحات للصحافة، إنها ستنتهي من بيع أول برج قبل نهاية العام الجاري.
وتعد سيتي إيدج أكبر مطور عقاري في الوقت الراهن، وشاركت في مشروعات أبراج المنصورة الجديدة، والأحياء السكنية 3 و5 بالعاصمة، وكذا منطقة مثلث ماسبيرو، وسور مجرى العيون، وممشى أهل مصر.
مؤشرات جيدة من القطاع الخاص
لا تقتصر الأبراج الشاهقة المخطط لها في حي المال على الأبراج الحكومية، ولكن هناك 13 مطورًا من القطاع الخاص اشتروا أراضٍ بالحي بداية من عام 2019، وبدأوا في تنفيذ بعض الأبراج المحيطة بالبرج الأيقوني المملوك للدولة.
"المشروعات الخاصة بمنطقة الأعمال المركزية كلها لا زالت فى مرحلة الإنشاءات، وأمامها فترة طويلة نسبيًا مقارنة بالمشروعات الحكومية التي قاربت على الانتهاء"، كما يقول باسم الشربيني، المدير التنفيذي لإتقان للاستشارات التسويقية، للمنصة.
اللافت أن الشركة التي استطاعت أن تحقق أعلى معدلات تنفيذ للأبراج بين مطوري القطاع الخاص، "إنفينيتي"، استطاعت أن تسوق المرحلة الأولى من مشروعها منذ فبراير/شباط الماضي، ما يعطي مؤشرًا على رواج وحدات حي المال برغم التأخر في التنفيذ.
وإنفينيتي واحدة من مطوري القطاع الخاص، تأسست على يد مهندس مصري، أسعد سلامة، والذي عمل لفترة من حياته بالتدريس في إحدى كليات الهندسة، لكنه قضى 18 عامًا في دبي، استطاع خلالها أن يُراكم خبرات في مجال إنشاء الأبراج، بحسب موقع الشركة الرسمي.
تحتاج منطقة متخصصة فى الأنشطة التجارية والإدارية شكلًا مختلفًا من التسويق والإدارة
وبحسب الشربيني، فإن سعر المتر الإداري في برج إنفينتي يصل حاليًا إلى 150 ألف جنيه، "الأسعار التي باع بها القطاع الخاص مؤشر على أن الدولة تمتلك فرصة كبيرة لتحقيق مبيعات جيدة وبأسعار متميزة بالأبراج التي نفذتها فور بدء الطرح للعملاء، بخلاف الأجزاء التجارية التى ستحقق عائدات أكبر".
وأرجع أحمد صقر مؤسس صندوق SDC للاستثمار العقاري, والمشارك بأحد مشروعات الأبراج الخاصة بمنطقة الأعمال المركزية في العاصمة، ارتفاع سعر المتر الإداري لعدة أسباب، أهمها أن "منطقة الأبراج المركزية حكومية بالكامل، والمساحة المتاحة للقطاع الخاص بها محدودة وانتهت فعلًا، وهي تشمل عددًا قليلًا من المشروعات، أي أنها تعد موقعًا غير قابل للتكرار بالعاصمة".
ويضيف صقر للمنصة، "كما أن السعر معرض للارتفاع الفترة المقبلة مع بداية تشغيل العاصمة بشكل كامل عقب الافتتاح الرسمي، وتشغيل المونوريل كوسيلة مواصلات رئيسية للمنطقة، مما يسهل عملية انتقال الشركات للعمل من هناك. ووجود إشغال حقيقي، وكذا بدء التسليمات للوحدات بالفعل في المشروعات القائمة، لأن أي وحدات يتم بيعها بعد التسليم ترتفع أسعارها، مع توقعات بإقبال أكبر بعد طرح المجتمعات العمرانية لأول وحدات تجارية وإدارية بالمنطقة داخل الأبراج المختلفة التي نفذتها بالفعل".
ويلفت صقر إلى أن "هذه الأسباب لا تتضمن احتمال أي انخفاض متوقع فى قيمة العملة المحلية أو ظروف اقتصادية جديدة تدفع العملاء للإقبال أكثر على شراء العقارات عامة، وعقارات العاصمة المميزة خاصة، لحفظ قيمة الأموال وتحقيق ربح سريع. لأن المنطقة متوقع تشغيلها خلال شهور قليلة، بعكس باقي مناطق العاصمة المتوقع تشغيلها خلال فترة زمنية أطول".
ويتفق أيضًا محمد راشد، رئيس MRB لإدارة المشروعات، قائلًا للمنصة أنه "فور طرح الوحدات الحكومية بمنطقة الأبراج المركزية سيكون هناك إقبال كبير من الشركات العالمية والمحلية، لأن المنطقة بها العديد من المميزات والخدمات، خاصة مع التشغيل الكامل للعاصمة الجديدة، والقرب من الخدمات المختلفة والحي الحكومي".
لكن أحد الاستشاريين الهندسيين لعدة مشروعات منفذة بمنطقة الأعمال المركزية، رفض ذكر اسمه، يرى أن حي المال لا تزال تنتظره العديد من التحديات لكي يحقق الرواج المتوقع له.
يقول الاستشاري "المنطقة لا تزال تحتاج لفترة لن تقل عن عامين للتشغيل، ولن تحقق عوائد كبيرة في البداية لصعوبة التعاقد مع شركات إدارة أجنبية متخصصة في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية للقطاعين العام والخاص. خاصة أن الحصول على مقر جديد لشركة قائمة بالفعل في العاصمة أمر لا يمنح امتيازات كبيرة للشركات. لاسيما وأن العديد من الشركات حاليًا تعمل بمقرات في شرق القاهرة، خاصة منطقة التجمع الخامس التي شهدت إقبالًا كبيرًا خلال آخر 5 سنوات من الشركات الكبرى للحصول على مقرات بها".
وأضاف الاستشاري أن "طريقة الدولة في إدارة الطروحات للوحدات السكنية، مثل الحي السكني الثالث والخامس المنفذين بالكامل من قبل سيتي إيدج، كانت ملائمة لحالة منطقة سكنية تستهدف المصريين غالبًا للسكن بها حتى لو كانوا من المقيمين في الخارج. لكن منطقة متخصصة في الأنشطة التجارية والإدارية تحتاج شكلًا مختلفًا من التسويق والإدارة، وتحتاج فى البداية لإقبال عام على الاستثمار بمصر من المصريين والأجانب، وهو ما يحدث عكسه تقريبًا فى الوقت الحالي، حيث يسعى عدد من المستثمرين المصريين للعمل في الخارج مع محدودية عدد المشروعات الجديدة داخل مصر".
وبحسب تصريحات سابقة للمهندس خالد عباس رئيس شركة العاصمة الإدارية، قبل نحو عامين، فإن التكلفة الإجمالية لتنفيذ الاستثمارات الحكومية في حي المال تجاوزت 50 مليار جنيه، لذا تمثل هذه التكلفة الضخمة تحديًا أمام الدولة في تسويق المنشآت التي ضخت فيها هذه الاستثمارات.
وتنبع التحديات التي تنتظر الدولة من قدرتها على الالتزام بالتنفيذ في المواعيد المخططة، والأهم هو تسويق حي المال الذي لا يزال ممتدًا وسط صحراء غير عامرة، بينما تتركز الأنشطة الاقتصادية في المدن القديمة.