تصميم أحمد بلال، المنصة، 2024
حوداث الطرق

طرق قاتلة.. إنجازات الجمهورية الجديدة تهدر الأرواح

منشور الجمعة 18 أكتوبر 2024

كان حلم الطالبة ميرنا الجنيدي أن تصبح طبيبة. ساعدتها أسرتها في الالتحاق بكلية الطب بجامعة الجلالة. اقترب الحلم من الاكتمال. في لحظة انهار كل شيء. أصبحت الطالبة بالفرقة الأولى رقمًا في بيان النيابة العامة ضمن ضحايا حوادث الطرق، مجرد جثة يزفها أهلها إلى مثواها الأخير.

ميرنا واحدة من 12 طالبًا وطالبة توفوا في حادث أتوبيس طريق الجلالة بينما أصيب 29 آخرون، أثناء عودتهم من الجامعة إلى محل سكنهم.

جاء الحادث ليجدد الجدل حول جودة شبكة الطرق والكباري التي عملت عليها الحكومات المتعاقبة منذ 2014، سواء بإنشاء طرق ومحاور جديدة أو بتجديد وتوسعة القائم منها، وهو ما يعتبره النظام واحدًا من أهم إنجازاته

بعد ثلاثة أشهر فقط من تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي رئاسة الجمهورية للمرة الأولى في نوفمبر/تشرين الثاني 2014، توفي 18 طالبًا، وأصيب 16 آخرون في حادث تصادم حافلتهم بسيارة نقل بنزين، بمحافظة البحيرة.

حينها جاء الرد الرئاسي سريعًا بتكليف الحكومة بوضع خطة عاجلة لمنع وقوع حوادث الطرق، وتشديد العقوبات على المخالفين لقانون المرور، والتطبيق الصارم لمواده، خاصة على الطرق السريعة.

وأُعلن بعدها العمل على تنفيذ المشروع القومي للطرق بطول 7000 كم وبتكلفة 175 مليار جنيه، ليتجاوز إجمالي أطوال شبكة الطرق السريعة والرئيسية 30 ألف كيلومتر بعدما كانت 23.5 ألف كيلومتر في يونيو/حزيران 2014.

ومن بين الطرق الجديدة التي أُنشئت ضمن المشروع طريق الجلالة، الذي نفذته الهيئة الهندسية بطول 82 كيلومترًا بتكلفة 4.5 مليار جنيه، وتصفه صحف الشركة المتحدة بأنه معجزة و"إنجاز هندسي"، و"أبهر العالم"، كونه نُفذ خلال عامين فقط، رغم أنه "من أصعب مهام الإنشاءات الهندسية"، نتيجة لما احتاجه من شق الجبل وتفتيت الصخور.

لكن الدعاية الحكومية لإنجازات الجمهورية الجديدة أغفلت أن الطريق "المعجزة" يشهد نحو 50 حادثًا سنويًا، رغم وجوده في المرتبة الثامنة ضمن ترتيب مدى خطورة طرق محافظة السويس، وفقًا لنشرة حوادث الطرق الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. 

وحسب النشرة السنوية لنتائج حوادث السيارات والقطارات لعام 2023، الصادرة عن الجهاز في مايو/أيار الماضي، ارتفع عدد الإصابات الناتجة عن حوادث الطرق لأكثر من 71 ألف إصابة، مقابل نحو 56 ألفًا عام 2022، بنسبة ارتفاع وصلت إلى 27%.

فيما انخفضت نسبة الوفيات، ففي عام 2023 توفي 5861 شخصًا جراء حوادث الطرق بينما في 2022 توفي 7762 شخصًا، بانخفاض 24.5%. إلا أن هذا الانخفاض يُعزى إلى عدم إرسال محافظتي الأقصر وبورسعيد بيانات عن المصابين أو الوفيات، نتيجة لانضمام مستشفياتهما إلى منظومة التأمين الطبي الشامل.

طرق جديدة بحوادث كثيرة

مع وقوع حادث الجلالة الأخير أُعيد طرح تساؤلات حول ما إذا كانت السرعة التي نُفذت بها الطرق جاءت على حساب المعايير الفنية، أم أنه مجرد حادث عابر يمكن أن يقع في أي مكان في العالم.

وفقًا للبيانات المستخلصة من نشرة حوادث الطرق، يوجد 139 طريقًا في مصر صنفها جهاز التعبئة العامة والإحصاء أكثر الطرق خطورة، مع وجود 269 نقطة عالية الخطورة موزعة على هذه الطرق، يتصدرها طريق مصر-الإسكندرية الزراعي من حيث عدد النقاط، يليه طريق طنطا-المنصورة، ثم طريق القاهرة-الإسكندرية الصحراوي، ثم الطريق الدولي الساحلي.

ووفقًا للبيانات يشهد الطريق الصحراوي بين القاهرة والإسكندرية حوالي 5 حوادث يوميًا، فيما يشهد الطريق الدائري القديم أكثر من 4 يوميًا. كما يسجل طريق "شبرا-بنها الحر" 4 حوادث يوميًا، في حين يسجل الطريق الإقليمي الدائري الجديد ما يزيد عن 3.2 حادث يوميًا. والملاحظ أن هذه الطرق شهدت مؤخرًا أعمال تطوير، سواء توسعة، أو رفع كفاءة.

يبرئ أستاذ هندسة الطرق بجامعة عين شمس، الدكتور أحمد المحمدي، "التطوير" الذي شهدته شبكة الطرق من المسؤولية عن الحوادث، محملًا العنصر البشري المسؤولية الأكبر. وهو ما يرفضه الباحث والمصمم العمراني أحمد زعزع، الذي يقول لـ المنصة إن "تحميل العنصر البشري المسؤولية هو التحليل السهل"، فيما تشير منظمة الصحة العالمية إلى ضرورة أن تكون نُظم المواصلات مستجيبةً لاحتياجات المستخدمين ومتسامحًة مع احتمالات الخطأ البشري.

الأزمة داخل العاصمة أيضًا

انتقلت أزمة الطرق السريعة إلى داخل العاصمة، خاصة شرق القاهرة التي شهدت تطويرًا يهدف إلى تيسير الوصول إلى العاصمة الإدارية الجديدة، إذ تشير بيانات حوادث السيارات إلى أن القاهرة تسجل أعلى معدلات وفيات ناتجة عن حوادث الطرق، وتمثل نسبة 12.2% من إجمالي حالات الوفاة على مستوى البلاد.

عملت "الجمهورية الجديدة" على إنشاء شبكة طرق وكباري مهولة وسط أزمة اقتصادية طاحنة

أُنشئ خلال العقد السابق عدد كبير من المحاور في شرق القاهرة من أضخمها محور الفريق العصار، بطول 18 كم، الذي تضمن إنشاء ثمانية كباري بجانب أعمال متعددة لتوسعة الطرق، إلى جانب محاور أخرى مثل جوزيف تيتو والفردوس وروكسي رمسيس، وشينزو آبي. وتُقدَّر تكلفة خطة تطوير شرق القاهرة في مجملها بـ22 مليار جنيه.

الغريب أنه، وبحسب بيانات الجهاز المركزي للتبعئة العامة والإحصاء، صنف شارع جوزيف تيتو في حي النزهة بشرق القاهرة أخطر الطرق من حيث معدلات الحوادث على مستوى الجمهورية، إذ يشهد أكثر من 7 حوادث يوميًا.

كما تحدد البيانات المناطق الخطرة في شوارع العاصمة، من بينها المنطقة الممتدة من كوبري الجلاء حتى عمارات العبور، التي تشهد نحو 1460 حادثة سنويًا، والمنطقة أمام المركز الطبي بالنزهة، حيث يقع حوالي 750 حادثًا سنويًا.

الأزمة نفسها يعاني منها شارع أبو بكر الصديق في حي مصر الجديدة، الذي كان أحد أهدأ الشوارع في العاصمة ثم تحول بفضل التوسعات الأخيرة إلى طريقٍ سريع، واضطر عدد كبير من سكانه إلى الانتقال لأحياء أخرى خوفًا من الحوادث، منهم أحمد عبد الستار، أحد السكان الذي اضطر إلى الانتقال لمنطقة أخرى بعد عشرين عامًا من الإقامة في شارع كان "مميزًا"، ولكن مع "تطويره" وتوسعته زادت الحوادث اليومية فيه.

ووفقًا للبيانات، فإن المشاة والعابرين للطرق يمثلون 24.7% من إجمالي مصابي الطرق بواقع 17553 إصابة، وهو ما يشير إلى أزمة يراها الباحث العمراني أحمد زعزع كبيرة، وتتمثل في عبور الطرق السريعة بداخل الأحياء، التي أُنشئت لغرض تيسير مرور السيارات دون الالتفات للمشاة "توسعة الطرق ما بتحلش أزمة المرور، وإنما يحلها وجود نظام مروري منضبط وعلمي".

من المسؤول؟

بحسب بيان النيابة العامة حول حادث أتوبيس الجلالة، الأخير، كان سائق الأوتوبيس "يسير بسرعة هائلة حال مروره بمنعطف منحدر فاختلت عجلة القيادة وانقلبت الحافلة"، مشيرًا إلى أنه "بإجراء التحليل المبدئي له تبين تعاطيه جوهرًا مخدرًا".

ويشير أستاذ هندسة الطرق أحمد المحمدي في حديثه مع المنصة إلى أن نحو 70% من حوادث الطرق سببها العنصر البشري "الناس محتاجة تتعلم قواعد السواقة، دي ثقافة ولازم تتغير"، لكنه في الوقت ذاته يرى أن الطرق الجديدة ربما كانت أحد أسباب الحوادث "السائق اللي عنده رعونة وتهور لما بيشوف الطريق قدامه جديد ومرصوف ومفتوح بيجري أكتر".

وبحسب طلب إحاطة قدمه عضو مجلس النواب محمد الصمودي في 2022، فالتطور الإيجابي للطرق "لا يُترجم بشكل فعال عند النظر إلى إحصاءات الحوادث"، لافتًا إلى أن العنصر البشري يمثل النسبة الأكبر لوقوعها.

ولا ينفي زعزع في حديثه مع المنصة أن هناك نسبة من الأخطاء تقع على العامل البشري "لكن حتى لو السائقين مسؤولين، أنت كصانع قرار عملت إيه لحل المشكلة دي؟".

ويلفت زعزع لعوامل وراء الحوادث بخلاف الخطأ البشري، منها مستخدمو الطريق وحدود السرعة ونوعية المركبات، "وكلها لازم تتاخد في الحسبان".

وطالب الصمودي الجهات المعنية بدراسة الحوادث، والوقوف على أسبابها والعامل المشترك فيها، وسبُل مواجهة تلك الظاهرة والتصدي لها، ومن ثم الحد من معدلات حوادث الطرق.

في إطار بحثنا عن بيانات الحوادث، لاحظنا تغيير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لمنهجيته في التعامل مع حصر حوادث الطرق منذ 2019، إذ بات يعتمد على بيانات وزارة الصحة ومديريات الشؤون الصحية بالمحافظات، فيما كانت التقارير الإحصائية قبلها تعتمد أيضًا على بيانات إدارة المرور بوزارة الداخلية، التي ترصد عدد الحوادث والمتسبب فيها، وبذلك توقف الجهاز عن إعلان عدد حوادث الطرق.

مسببات الحوادث

حسب تقرير أعده طلعت علي أستاذ الطرق والمرور بكلية الهندسة بجامعة سوهاج، ونشرت عنه بوابة الأهرام في 2019، الذي اعتمد فيه على تقارير وزارة الداخلية، فإن 40% من حوادث الطرق في مصر تتسبب فيها عربات النقل الثقيل والمقطورات، إذ يصر السائق على السير في الحارة اليُسرى المخصصة للسيارات الملاكي.

ويلفت إلى أن 90% من حوادث النقل الثقيل يتسبب فيها السائق نفسه، إلى جانب عدم وجود لوحات إرشادية على الطريق، أو عدم إنارته، بالإضافة إلى تأخر سيارات الإسعاف في الوصول إلى مناطق الحوادث، ويمثل العنصر البشرى 61% من الأسباب، وتمثل السرعة الزائدة حوالي 19%، أما انفجار الإطارات فيمثل 16%.

ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية هناك 9 عوامل تمثل خطرًا على الطرق، على رأسها ما تسميه "نهج النظام المأمون: أخذ الخطأ البشري في الحسبان" بحيث تكون نُظم المواصلات مستجيبةً لاحتياجات المستخدمين ومتسامحة مع ومستعدة لاحتمالات الخطأ البشري. كما تعتبر السرعة واحدة من عوامل الخطر، فهناك علاقة مباشرة بين الزيادة في السرعة واحتمالات وقوع الحوادث ومدى وخامة العواقب المترتبة عليها.

كما تشير المنظمة إلى أن كل زيادة قدرها 1 كم/ساعة في متوسط سرعة المركبة تؤدي إلى زيادة 4% من خطورة التعرض لحادث مميت، وزيادة 3% من خطورة التعرض لحادث خطير.

تتضمن العوامل القيادة تحت تأثير الكحول والمؤثرات النفسية الأخرى، وعدم ارتداء خوذات ركوب الدراجات النارية وأحزمة الأمان ووسائل تقييد الأطفال، والقيادة بحالة ذهنية مشتتة، إلى جانب انعدام مأمونية المركبات، وقصور الرعاية اللاحقة للتعرض للحوادث، وقصور إنفاذ قوانين المرور.

يضيف زعزع من ضمن هذه العوامل إلى الفساد واحدًا من الأسباب الرئيسية لحوادث الطرق "مافيش آليات حقيقية لمحاسبة المسؤولين" بالإضافة إلى أن القانون في النهاية يطبق حسب الهوى "مش منطقي أكون واقف في كمين لأني مش رابط حزام مثلًا في وقت فيه شخص تاني بيعدي من الكمين عشان مفيم عربيته (زجاج داكن، من علامات الانتماء للأجهزة الأمنية) رغم أنه ممكن يكون متجاوز السرعة وكاسر إشارة ومش لابس حزام"، مؤكدًا "الحل دائمًا في العودة إلى القانون حتى لو كان عليه ملاحظات".

هل سرعة التنفيذ السبب؟

ترى المنظمة الأممية أن من بين عوامل خطورة الطرق انعدام أمان بنيتها التحتية، وفي ظل الاتهامات بالتسرع في تنفيذ مشروعات الطرق والكباري يبرز الشك في جودة التنفيذ نفسه.

غير أن الدكتور أحمد المحمدي يرفض التشكيك مفرقًا بين التصميم الهندسي الذي يبدأ العمل به قبل تنفيذ المشروع نفسه، وبالتالي لا يشهد تسرعًا من أي نوع، أما التصميم الإنشائي فهو ما قد يشهد بعض السرعة، التي قد تُنتج عيوبًا كتشققات في الأسفلت أو حُفر أو غيرها، مؤكدًا أن "مثل هذه العيوب في الغالب لا تكون سببًا في الحوادث".

ورغم ما يسوقه المحمدي تشير تقارير للجهاز المركزي للمحاسبات وهيئة الرقابة الإدارية، في 2016 إلى عيوب فنية في 45% من الكباري التي أُنشئت حديثًا في محافظة الغربية، وتشمل تهالك البنية التحتية وتصدعات وتشققات وشروخًا وانحرافات في مسار رصف الأسفلت، بسبب تسليم الأعمال الإنشائية قبل موعدها الرسمي.

وأشارت التقارير إلى انحرافات فى مسار رصف الأسفلت الرئيسي، نتيجة عدم الالتزام بالمواصفات القياسية، بما يؤثر في الحفاظ على أرواح المواطنين.

يتفق المحمدي وزعزع على أن الحل العاجل الآن هو تشديد أنظمة الرقابة على الطرق، وتنفيذ القانون، فيما يسعى أهالي ميرنا وزملاؤها في جامعة الجلالة لضمان عدم تكرار الكارثة والعمل بشكل جاد على ضمان سيرهم على طرق آمنة.