وسط مقاعد أوتوبيس نقل عام، يدور أحمد سالم* بين الركاب كما اعتاد منذ 20 سنة، ينادي على ثمن التذكرة، وقبلها يطلب تجهيز النصف جنيه "فكة"، بعدما أصبح صداعًا في رأس الكمسري.
هذا الصداع سببه الزيادة الأخيرة لأسعار الوقود في يوليو/ تموز الماضي، فعلى إثر قرار لجنة التسعير التلقائي لأسعار المنتجات البترولية بوزارة البترول برفع أسعار البنزين والسولار، أقرت هيئة النقل العام 50 قرشًا زيادة على تذاكر جميع الأوتوبيسات بالهيئة في مختلف الخطوط.
وبذلك ارتفع سعر التذكرة للأوتوبيس العادي المتواجد في 176 خطًا من 5 جنيهات، بدون تهوية، إلى 5.5 جنيه، وللمتواجد في 33 خطًا، وبه مراوح تهوية، من 7 جنيهات إلى 7.5 جنيه، وللأوتوبيس المكيف المتواجد في 11 خطًا من 10 جنيهات إلى 10.5 جنيه.
توفير النصف جنيه، مسلسل يومي يعيشه سالم، منذ الزيادة الأخيرة في سعر تذكرة الأوتوبيس. وأكثر مشاهده تكرارًا، هو دفع الراكب لـ10 جنيهات، ليكون على الكمسري رد 4.5 جنيه، وهو ما لا يكون ممكنًا في أغلب الأحوال "فيه واحد يقوللي ده نص جنيه متدقش، طيب هدفعه أنا من جيبي؟ وواحد يقوللي خد الخمسة جنيه ومش مهم التذكرة، بس أنا عمري ما عملتها".
غير أنه لا يتشدد في ثمن التذكرة طوال الوقت، هناك ما يستدعي منه وقفة إنسانية كما يعبر "في واحد يكون مشواره محطتين ومعهوش يدفع، أقول له أركب معايا محطة ومع غيري محطة. ست كبيرة غلبانة أديها نص تذكرة.. الرحمة فوق كل شيء".
واحد معاه مراته وعياله وطقهان، يقولي انتوا بقيتوا أغلى من الميكروباصات، هنلاقيها منكم ولا من الحكومة؟
أحيانًا يواجه سالم غضبًا من الركاب، يكون رده التأكيد على أنه ليس صانع القرار "واحد معاه مراته وعياله وطقهان، يقوللي انتوا بقيتوا أغلى من الميكروباصات، هنلاقيها منكم ولا من الحكومة؟ فأقول له أنا غصب عني، أنا عبد المأمور".
رحلة بحث لا تنتهي
لكن رحلة البحث عن النصف جنيه، لا تنتهي بتحصيل سالم لثمن التذكرة بعد مناهدة، ولا بانتهاء ساعات عمله الطويلة وعودته إلى منزله منهكًا، فتمتد للسعي وراء حياة كريمة ضنت على زميله السائق أيضًا بأبسط مقوماتها، رغم وعود برخاء معيشي لم يعرفه راكب الأوتوبيس.
في العام 2002، عُيَّن سالم في النقل العام، ووصل راتبه الأساسي 2100 جنيه، غير الحوافز التي يتقاضاها الكمسري نظير العمل 22 يومًا في الشهر، ليُحصِّل في الأخير قرابة 5000 جنيه.
قبل حوالي 10 سنوات، كان راتب الموظف الحكومي يكفيه بالكاد، في ظل اقتصاد نامٍ، لكنه تآكل مع تطبيق الحكومة لسلسلة إجراءات وصفها اقتصاديون بـ"القاسية"، كان على رأسها تحرير سعر الصرف في العام 2016، بالتزامن مع تخلي الحكومة تدريجيًا عن سياسة الدعم، ضمن ما أسمته "برنامج الإصلاح الاقتصادي"، والذي رفع معدل الفقر.
التخارج الحكومي من مشروعات عامة وخدمية لصالح القطاع الخاص، كان للأوتوبيسات نصيب منه فيما عرف بـ"مشروع النقل الجماعي"، وتقوم فكرته على إعطاء الفرصة للقطاع الخاص للدخول فى مجال النقل الجماعى للركاب، رغم ارتفاع معدل التزاحم (متوسط عدد الركاب مقسومًا على متوسط عدد المقاعد) في أوتوبيسات النقل العام، كما يشير الشكل البياني التالي:
وكما كان للتحول الاقتصادي في العام 2016 الدور الحاسم في ارتفاع معدلات التضخم بشكل غير مسبوق، فهناك قاعدة اختبرها الكمسري جيدًا؛ إذا ارتفع سعر سلعة/ خدمة ما فإنه لا ينخفض مجددًا، كما اختبر أيضًا أن الزيادة في المرتبات يدهسها الارتفاع "المجنون" في الأسعار، مما حدا به للبحث عن وسيلة إضافية لزيادة دخله.
يعيش سالم في مدينة ميت غمر بمحافظة الدقهلية، ولديه ثلاث بنات، اثنتان منهن مقبلتان على الزواج، ولحسن حظه أن أباه ترك له ثلث قيراط أرض، يُسلمها لمُزارع، ويتقاسم الاثنان إيرادها "بنزرع رز وقمح ودرة. وكل 6 شهور يطلع لنا طن أو اتنين"، لتتولى زوجته بيعها في السوق حتى موعد الحصاد الجديد "وأهي ماشية".
رغم ذلك، لا يعرف الكمسري طعم الراحة "بتحشِر 9 ساعات في الأوتوبيس كل يوم، وآخدلي ساعتين مواصلات من بيتي للقاهرة، وساعتين زيهم وأنا مروح".
وتأكل المواصلات دخله مثلما تأكل يومه "13 ساعة شقا، بقطع ليهم من مرتبي ألفين جنيه للمواصلات وعلب الكشري والشاي والسجاير"، وما يتبقى من الراتب يسلمه لزوجته، التي تتولى تدبير شؤون المنزل من مأكل وملبس ودروس خصوصية لبناته.
لا يحلم سالم بالكثير، ولم يعد يرى جدوى في زيادة الراتب، في ظل الارتفاعات المتتالية للأسعار، التي أفقدت الجنيه أي قيمة في رأيه، فقط ما يتمناه أن يُقبل طلب نقله للعمل على "خط" في الدقهلية، وهو ما يستعصي عليه "عشان مليش ضهر في الهيئة".
تحسس جيوبك واركب الأوتوبيس
وحتى يصل الكمسري إلى مبتغاه، فهو مضطر للعمل وسط غربة وزحام ومناهدة مع الركاب حول النصف جنيه، والتي تتجنبها إيمان محمد قبل أن تصعد إلى الأوتوبيس.
منذ الزيادة الأخيرة، تتحسس إيمان جيوبها قبل أن تستقل الأوتوبيس، للتأكد من وجود الفكة "رغم إنه بقى أكتر عملة متداولة في الشارع، بعد ما كل المواصلات رفعت أجرتها نص جنيه، نادرًا لما بلاقيه، زي بالظبط الربع جنيه زمان، واللي اختفى دلوقتي".
بالنسبة لإيمان تتجاوز المشكلة حدود الأوتوبيس، وتواجهها في الأسواق والمتاجر والأكشاك، وفي الأغلب الأعم تضطر للتنازل عن النصف جنيه، لكنها تنتبه الآن إلى تفريطها في الكثير منه على مدار الشهر، في وقت تحتاج فيه "لكل مليم في الظروف المنيلة دي".
تعمل إيمان بإحدى شركات القطاع الخاص، ويصل راتبها الشهري بعد 7 سنوات عمل إلى 3200 جنيه فقط، لطالما اعتبرته قليلًا لكنه يفي بالغرض، بينما لم يعد كذلك منذ العام 2018 "زمان كنت باخد معايا الشغل سندوتشات جبنة وبسطرمة وبيض ولانشون، دلوقتي ما بقتش أقدر أعمل ده لأن الحاجات دي غليت جدًا، فبقيت مضطرة آكل فول لغاية ما قولوني العصبي تعبني".
لم تعد إيمان تعرف التاكسي "كنت زمان ممكن أركب التاكسي لو اتأخرت على الشغل، دلوقتي استحالة أعمل كده، بعد ما بقى اللي هيتخصم بسبب تأخيري أقل من اللي هدفعه فيه". كما توقفت عن حجز المقعدين الأماميين في الميكروباص منذ شهور طويلة "عشان بييجي آخر الشهر دلوقتي مبلاقيش فلوس أروح الشغل أصلًا".
أما الأوتوبيس فلم يكن خيارًا مطروحًا أمام إيمان فيما مضى، هو ومترو الأنفاق، لتكدسهما في أوقات الذروة، لكنه بات حلًا أمثل للمشاوير الطويلة، تناسب ميزانيتها التي تستنزفها المواصلات.
حال إيمان كبقية المصريين، حيث يحتل بند "الانتقالات والنقل" المرتبة الرابعة في قائمة نفقات الأسرة المصرية، حتى أنه يسبق بند "التعليم"، وفقًا لبحث الدخل والإنفاق والاستهلاك الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في 2019/2020.
ولهذا، يرأف سائق الأوتوبيس خالد عباس* بحال الركاب، فلا يدقق على النصف جنيه الزائد مؤخرًا على العشرة جنيهات ثمن التذكرة، يقول صاحب الـ43 سنة إنه يدفعه من جيبه حال تأزم الموقف، ويعينه على ذلك تسامح آخرين بدفع 11 جنيهًا لحلحلة الأزمة، أما ما يؤرقه فيتعدى ساعات العمل والأوتوبيس إلى يومه بالكامل.
الأوتوبيس vs قراطيس اللب
التحق عباس بهيئة النقل العام قبل 12 عامًا، ووصل راتبه بعد الحوافز لنحو 5000 جنيه، وهو ما لا يكفي إعالة زوجة و3 أولاد أكبرهم في المرحلة الإعدادية، بعد حجز 570 جنيهًا شهريًا للإيجار، لذا يخوض منذ سنوات رحلة بحث لا تنتهي عن" كل نص جنيه".
كنت باكل اللحمة مرتين في الأسبوع، بقيت باكلها مرة واحدة
قبل أن يلتحق السائق بالهيئة، افتتح مشروعه الخاص، ويقوم على صنع "قراطيس اللب.. أجيب ورق وألزقه".
في البداية كان المشروع مربحًا، لكن اختلف الأمر بمرور السنوات "من سنتين، كيلو الورق كان بـ16 جنيه، دلوقتي بقى بـ34 جنيه. ولما رفعت أسعاري قل الطلب. ودلوقتي البيع شهر أه وشهر لا، ويوم ما أكسب مبعديش الألف ونص".
وكان الركود الذي أصاب عمل عباس، وراء تراجع مستوى معيشة أسرته، "كنت باكل اللحمة مرتين في الأسبوع، بقيت باكلها مرة واحدة" يقول السائق.
في المقابل لا تعرف أعباؤه إلا زيادة مطردة "مصاريف الدروس الخصوصية بتزيد كل سنة، ومقدرش أحرم العيال منها، وأنا عارف أن مفيش تعليم في المدرسة، أبقى بظلمهم. وبالنسبة لي ولزوجتي ولادنا هما الحاجة الوحيدة اللي مستحملين الهم ده كله عشانهم".
أيام العشرة صاغ
بينما لم يكن الأمر كذلك قبل حوالي 35 عامًا، وقت أن التحق سيد محمد بهيئة النقل العام، يقول الكمسري إن وقتها لم يكن هناك ما يدعو للمناهدة "سعر التذكرة كان عشرة صاغ، والشوارع مش زحمة زي دلوقتي، والأسعار كانت حنينة شويتين، حتى الزبون التعبان كان لسه بيضحك".
بينما اختلف الوضع الآن بالنسبة للكمسري العجوز، ليس من جهة اضطراره للمناهدة مع الزبائن حول سعر التذكرة، لكن لما هو أعقد بكثير.
قبل حوالي ثلاثة أشهر تقاعد سيد، ولم يحصل على معاشه إلى الآن، لكنه ينتظر 1900 جنيهًا شهريًا. مبلغ لا يسد للكمسري رمق زوجة و3 أبناء لا يعمل أي منهم.
اضطر سيد للعمل في عمر الستين 9 ساعات يوميًا، لصالح شركة نقل خاصة، مقابل راتب يعتبره زهيدًا أيضًا "2500 جنيه بعد الخبرة دي كلها"، لكن "ما باليد حيلة.. اللي زيي مكتوب عليه يلف طول عمره على كل نص جنيه عشان يعيش هو وعياله".
* اسم مستعار بناء على طلب المصدر