إذا كنت من مستخدمي أو مستخدمات أوبر وكريم والتطبيقات المشابهة في تحركاتك اليومية، كسائق أو راكب، فالسطور القادمة تهمك بالتأكيد.
فأمامنا مساعٍ وأطروحات تبحث عن حل لأزمات شركات النقل التشاركي/الذكي وجعلها أكثر أمانًا، وضمان عدم تكرار حوادث التحرش والخطف والاغتصاب التي باتت متكررة، ومنع أي جرائم أخرى يسمح الوضع الحالي بارتكابها.
هدف المقال توجيه هذه المحاولات إلى مسار صحيح، ووضع كل جهة أمام مسؤوليتها، لا فتح مكلمة أخرى لمواكبة الترند أو لإطلاق أمنيات وتوصيات غير مُلزمة لأحد.
للقضية ببساطة أربعة أطراف؛ الدولة وتشمل الحكومة والبرلمان، والشركات العاملة في المجال، و"الكباتن" أصحاب السيارات والسائقون، وأخيرًا المواطن الذي يستخدم هذه الخدمة. وليس خافيًا أنَّ المواطن هو الطرف الوحيد الذي يسدد فاتورته كاملة؛ أجرة الرحلات للشركة مقابل الخدمة، والضرائب والرسوم للدولة لتُعينها على خدمته وحمايته.
ويتسع مفهوم حماية الدولة للمواطن ومراعاة مصالحه في كل المجالات، ليشمل تنظيم العلاقة بين مقدم الخدمة أو بائع السلعة والمستخدمين والمشترين، والرقابة على جودة الخدمة والسلعة وأمان المستفيدين وسلامتهم.
الحكومة وعدت المواطن: سننظم ونراقب
ولتحقيق هذا المفهوم المثالي والمُفترض، أصدر مجلس النواب عام 2018 قانونًا للتنظيم، فكان عنوانه "تنظيم خدمات النقل البري للركاب باستخدام تكنولوجيا المعلومات"، وتضمن شروط تقنين الأوضاع وترخيص الشركات وحدد التزاماتها بما في ذلك "حسن اختيار السائقين خلقيًا ومهنيًا، وفحص عينات عشوائية للسائقين لا تقل نسبتها عن نصف في المائة، وتدريب السائقين وتأهيلهم".
تكمن المشكلة بوضوح في عجز الحكومة عن تطبيق القانون والقرارات التنفيذية التي أصدرتها
ثم تعهد القانون أيضًا بالرقابة؛ فأسند إلى وزارة النقل العديد من الاختصاصات والصلاحيات، منذ بدء الترخيص وحتى تغيير التعريفة وإمكانية استطلاع آراء المستخدمين، مرورًا بإصدار قرار وزاري بشروط ومعايير جودة الخدمة والرقابة والتفتيش وتنظيم العمل ومعدلات الأعطال.
وبسبب اكتفاء البعض بقراءة القانون؛ انتشر قولٌ سهلٌ بأنَّ التشريع لم يهتم بإجراءات الأمان وحماية المستخدمين، واقتصرت أولوياته على تحصيل الرسوم والضرائب، وهذا غير صحيح.
فإلى جانب النص على حفظ سجلات الرحلات وإجراءات اختيار السائقين وغيرها، أصدر رئيس الوزراء في سبتمبر/أيلول 2019 اللائحة التنفيذية للقانون، التي حفلت بالأحكام التفصيلية التي لو نُفِّذ النذر اليسير منها، لما شهدنا هذا القدر من المشكلات، بالأخص شروط إصدار كارت التشغيل للكابتن وتدريبه ومحاسبته ومعاقبته، مع إلزام الشركة بالتأمين عليه وفق أحكام قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات، بما يوفر له الحماية وفق إطار تعاقدي بسيط، لكنه مناسب للعلاقة المؤقتة بطبيعتها بين الطرفين.
للأسف لم يجد كل ما سبق سبيلًا للتطبيق، وفي المقابل تضخمت سوق نشاط النقل التشاركي بصورة ثبت بالوقت أنها تفوق إمكانات الشركات الرائدة، وزاد عدد مقدمي الخدمة، وأدت الأزمات الاقتصادية المتعاقبة منذ جائحة كورونا إلى زيادة الإقبال على وظيفة الكابتن ولو بإجراء رحلة أو اثنتين يوميًا لزيادة الدخل.
في عام 2022 قدرت أوبر وحدها عدد المشتغلين لديها بأكثر من 700 ألف كابتن، يخدمون 14 مليون راكب. وفي العام ذاته أصدر رئيس الوزراء قرارًا بتحديد مقابل توفيق الأوضاع للشركات القائمة، تتدرج من 600 ألف جنيه إلى 6 ملايين، ثم لم نسمع عن أي إجراء لاحق، رغم مرور سنتين تقريبًا.
توافق على إهمال القانون
أين المشكلة إذن؟ إنها تكمن بوضوح في عجز الحكومة عن تطبيق القانون، والقرارات التنفيذية التي أصدرتها، في ظلِّ معرفتها الأكيدة بأنَّ أيَّ إجراءات ستُفرض للتضييق على الشركات ستنعكس بالضرورة على الكباتن بالتضييق والمزيد من القيود، التي ربما تؤدي إلى خروج الآلاف من سوق العمل، أو في أحسن الأحوال تضاؤل دخولهم.
يصعب تصور أنَّ المشاكل ستنتهي بإضافة زر استغاثة وتوفير خاصة تسجيل صوتي وغيرها من الأمور التقنية
فبدا الأمر وكأننا أمام اتفاق ضمني بين الطرفين الأقوى في القضية (الحكومة والشركات)، على عدم تفعيل هذه المنظومة.
إنها مشكلة شبيهة بعض الشيء بمعضلة التوك توك، فالحكومة تبدو مترددةً في مد أيديها لتنظيمه والرقابة عليه خشية تفاقم البطالة إلى مستوى الانفجار، فينتج موقف رسمي غير متجانس بين جهات تحاول تقييد استيراده ومنع استيراد قطع غياره، وجهات أخرى على الأرض لا تتعرض له على الإطلاق بل وتتسامح في تغوّله على مناطق جديدة.
وإزاء رغبة الدولة في تحقيق هذه المعادلة للحفاظ على الوضع كما هو، ينبغي عليها الاختيار بين التنصل الكامل من دورها التنظيمي والرقابي، أو اتباع خيار أصعب وإن كان ممكنًا؛ التدخل الجراحي الماهر بإجراءات مرحلية تُحدد بعد أن تسمع وتفهم، بشكل عاجل، ما يعوق تقنين أوضاع الشركات، سواء كانت قانونية أو مالية أو أمنية، أو متعلقة بطبيعة التعاقد مع الكباتن وطريقة التعامل مع المستخدم النهائي.
ماذا بعد التوصيات؟
نعرف أنَّ لجنة الاتصالات بمجلس النواب عقدت في الشهور الأخيرة عدة اجتماعات بحضور ممثلي بعض الشركات، على رأسها أوبر، وبحضور مسؤولين من وزارة النقل، لكن لم يعد مقبولًا أن تنتهي هذه الاجتماعات بتوصيات تتعهد الشركات بتنفيذها دون مردود يُذكر، وكأنها تراهن على الوقت لينسى الرأي العام آخر حادث أودى بحياة فتاة أو هدد سيدة.
إن على السلطة التشريعية عبئًا دستوريًا أعمق بكثير من "التوصيات"، يُمكّنها من المساءلة والتدخل التشريعي الناجع، وأيضًا لا يكفي أن تطالب اللجنة الوزارة بتطبيق القانون!
فوزارة النقل ليست المعنية الوحيدة بذلك، بل هناك جهات أخرى عليها التزامات وبإمكانها المساهمة في تزويد الشركات بالقدر الكافي من المعلومات عن المتقدمين للعمل، على المستوى الأمني والتكنولوجي، لمنع التلاعب بالبيانات والاستغلال السيئ لثغرات التعاقد التشاركي التي تسمح بعودة أشخاص سبق وعُوقبوا أو اتُهموا في حوادث تُفقدهم شرط هذا العمل.
كما يصعب تصور أنَّ المشاكل ستنتهي بإضافة زر استغاثة وتوفير خاصة تسجيل صوتي وغيرها من الأمور التقنية، التي تليق بتطبيقات افتراضية أكثر من خدمات تقدم على الأرض، خاصة مع الصعوبة البالغة في تخزين هذا الكم من البيانات على خوادم مؤمّنة داخل مصر.
عن التنافسية.. لا تسل!
وحتى لا تتحول نية التدخل الجراحي إلى مباراة "بينج بونج" يلقي فيها كل طرف بالكرة في ملعب الآخر، استفتيت المحامي خالد الجمّال، الخبير في هذا الملف منذ رفع أول دعوى لترخيص أوبر وكريم وحتى الآن، حيث يمثل قانونيًا شركة جديدة للنقل التشاركي مع التاكسي الأبيض، تسعى للحصول على ترخيص رسمي.
سلَّط الجمّال الضوء على أهمية إعادة النظر في بعض الشروط الخاصة بتسيير السيارات الملاكي، كالملصق المميز الذي يتحرّج بعض الكباتن من وضعه، لأنَّ هذا النشاط ليس عملهم الأساسي مما يعتبرونه "إساءة" لمركزهم الاجتماعي، وأيضًا النظام التعاقدي والتأميني الذي يضع الكابتن في علاقة وظيفية جديدة لم تُحكم الدولة تنظيمها حتى الآن.
هناك سوابق تشريعية وقضائية في الولايات المتحدة وأوروبا يمكننا الاستفادة منها، تحقق التوازن بين الاعتداد بالعلاقة التعاقدية والمسؤولية الإدارية للشركة، واعتبار السائقين في حكم المقاولين المستقلين مع إمكانية تفاوضهم لزيادة نصيبهم المالي، واستفادتهم من الرعاية الصحية والتأمين ضد الحوادث.
ومن التجارب التي يرويها الجمّال وغيره من القانونيين والمسؤولين التنفيذيين عن محاولات تقنين أوضاع الشركات القائمة وإنشاء شركات جديدة، يمكن الجزم بأنَّ غياب الإطار التنظيمي القابل للتطبيق يحرم مصر من فرص تنافسية مختلفة قد تؤدي إلى تحسين الخدمة وخفض الأسعار ودمج وسائل مواصلات جديدة كالتاكسي الأبيض وزيادة معدلات التشغيل، فتبقى الحصة السوقية الأكبر من نصيب الشركات الدولية الكبرى التي تعمل في مصر بقوة الأمر الواقع.
مثل أي مشروع استثماري، ترغب تلك الشركات في الاستمرار والاستقرار والنمو والربح، ولن تضحي بسوق هائلة كمصر إذا فرضت عليها، بعد حوار جاد وتنسيق حكومي كامل، قواعد تنظيمية قابلة للتطبيق، بدلًا من ملاحقتها بالهجوم الإعلامي ودعاوى الطرد التي لا تؤدي إلا إلى "تطفيش" المستثمر الأجنبي، وإرهاب نظيره المصري.