قاتل متسلسل على الطريق
محاولة لفك أسرار الحوادث المُركَّبة
أمتع روايات وأفلام الجريمة هي تلك التي تتعلق بالقتل المتسلسل، حيث تتوالى الجرائم واحدة وراء الأخرى بسرعة أكبر من قدرة المحققين على فك أسرارها. النجاح المتوالي للمجرم والإخفاق المتوالي للمحققين يزيدان من معدل إفراز الأدرنالين ويجعل حدقات العيون تتسع ويتصاعد معدل ضخ الدم في العضلات استعدادًا لمتلازمة (القتال/الهروب).
لكن ذلك القتل الافتراضي ينتهي بسلام، وقد تقدم الرواية والفيلم شيئًا عن الأسباب التي جعلت من شخص عادي مجرمًا عتيدًا، وهي في الغالب لا تخرج عن مشكلات اجتماعية تتعلق بقسوة النشأة أو ظلم تعرض له القاتل المنتقم على يدي شخص باطش أو في محاكمة جائرة، وبهذا يمكن إجمال الأسباب في كلمة واحدة: الثأر.
بخلاف روايات الجريمة، صار بإمكان أي مصري أن يتناول إفطاره ويركب سيارته على أمل العودة في آخر النهار، لكنه يجد نفسه فجأة قاتلًا متسلسلًا بالصدفة أو ضحية لقاتل متسلسل دون عداوة أو سبب للثأر!
زادت معدلات الحوادث المُركَّبة، أو لنسمها "الترددية" تيمنًا بالأوتوبيس الترددي. البطل في معظم القصص، كما في قصة الحادث الأخير على طريق السويس القاهرة الصحراوي مساء السبت 25 أكتوبر/تشرين الأول الجاري (وأرجو أن تظل كلمة الأخير صالحة لوصف ذلك الحادث، لأن الحوادث تتكرر بتواتر سريع، حتى لم نعد نضمن ألا يقع حادث جديد خلال الساعات القليلة بين كتابة المقال ونشره!).
التريلا السبب
المتهم الرئيسي في الغالب صار الشاحنات الضخمة "التريلا" التي تلتهم ميكروباصًا أو سيارة صغيرة، وتتوالى الارتدادات على أعداد أخرى من السيارات. وهكذا بدأت وسيلة نقل البضائع العملاقة هذه تحمل بعض الكراهية عن الميكروباص في أذهان المصريين، حيث لا تضاهي كراهيتها أي وسيلة نقل بكراهية الميكروباص. يكرهه ركابه والمترجلون العابرون من أمامه وسائقو المركبات الأخرى والجالسون في بلكوناتهم ينظرون إليه بينما يشربون شايهم. ربما لا يحب الميكروباص سوى أمناء الشرطة.
في كارثة يوم 27 يونيو/حزيران الماضي على الطريق الإقليمي بالمنوفية كان اللقاء وجهًا لوجه بين التريلا والميكروباص، لقاء عودة بين الفريقين بعد لقاء طريق الصعيد عند مركز الغنايم في مارس/آذار الذي راح ضحيته 13 قتيلًا ومصابون.
لقاء العودة في المنوفية أشعل قريحة المجاز في الصحافة والإعلام كون أغلب الضحايا بنات مدارس يعملن في جمع العنب؛ فنالت الضحايا أوصافًا مثل فتيات العنب وصبايا العنب.
لكن لقاءات البطلين: التريلا والميكروباص، ليست الوحيدة التي تشهد الخسائر الكبيرة. هناك حوادث كبيرة لأوتوبيسات وحوادث ترددية لم تكن التريلا ولا الميكروباص من تسبب بها، مثل تصادم محور 26 يوليو في أغسطس/آب 2022 وبدأ بانفجار إطار منتهي الصلاحية في سيارة ركوب هيونداي، فجعل أقرب تريلا تتعثر فيما حولها من سيارات.
في كارثة طريق القاهرة السويس الأخيرة، احتلت التريلا دور البطولة المطلقة، في خطوة تعيد ترسيخ سائقي التريلات بسهولة ضمن فئة "أعداء الشعب"، ومن السهل عليها أن تحتل هذه المكانة برسوخ، حيث لا تحتاج الأغلبية الشعبية إلى خدماتها، بخلاف الميكروباص الذي تُجْبر الأغلبية على التعامل معه طبقًا للمثل: لا بحبه ولا بقدر على بعده!
لا متعة يمكن أن نجنيها نحن القراء والمشاهدين من القتل المتسلسل على الطرق، بل الكمد. ولا نضع أنفسنا مكان الضحايا بافتراض خيالي مثلما نفعل عند مشاهدة أفلام الجريمة، لأننا بالفعل مكان الضحايا، حيث لا تدري نفس بأي تريلا تموت. وليس بأيدينا أن نستعد للقتال أو الهروب؛ فالأقدار تجري بإرادة المنتصرين الذين خططوا هذه الطرق ورصفوها ووسعوها للتريلات.
تغطية عوراء
في تغطيات هذه الكوارث، نفتقد صنعة الصحافة التي دهمتها تريلا السلطة. لم تعد الصحافة تقترح حلًا أو تجرؤ على الذهاب إلى خطوة أبعد من نقل البيانات الناقصة عن الحادث بالطريقة نفسها في كل مرة، حتى صار بوسع المندوب الصحفي أن يعد تقارير مسبقة حول الحوادث التي لم تقع بعد.
لن تخرج العناوين عن: كارثة مروعة على طريق كذا. ثم يبدأ بسرد الوقائع التي بدأت عندما تلقت وحدة النجدة بلاغًا.. إلخ، ويترك مكانًا لأرقام الضحايا، وهو عادة قتيل أو قتيلان مع بضع عشرات من الجرحى، كنوع من التخفيف، وفي تطور لاحق ستتبدل الأرقام وينتقل من يشاء من الجرحى إلى قائمة القتلى.
العدالة معصوبة العينين حتى لا تُفرِّق بين المتقاضين بينما يجب أن تكون الصحافة مفتوحة العينين
ويمكن بالمثل إعداد تقرير مسبق لليوم التالي، حول القبض على سائق التريلا الهارب وإخضاعه لتحليل مخدرات، ثم بعض أقوال شهود العيان والجرحى. وفي تقرير اليوم الثالث تُنشر نتائج التحقيقات التي ستؤكد أن السرعة الزائدة هي السبب وقد أدت إلى فقدان السائق السيطرة على عجلة القيادة. وينتهي الفيلم النهاية السعيدة بإعلان التعويضات، التي يتذبذب فيها سعر الإنسان كما يتذبذب سعر الليمون، حيث تحدد البلاغة المصاحبة للحادث واهتمام وسائل التواصل به حجم المنح الخاصة التي تصدر بها توجيهات فوق التسعيرة الجبرية بالقانون.
بعض الحوادث لا يرق لها قلب الدولة وحدها؛ حيث يُعلن رجل أعمال عن تبرع سخي، لكن كل ذلك يظل في علم الغيب لا تتابعه الصحافة التي تغرق تقاريرها في دماء جديدة. ربما بعد عدة أشهر تنشر الحكم على المتهمين، وهو ذاته يتفاوت بين حادث وآخر من حوادث القتل الخطأ، وتتراوح الأحكام بين سنة وثلاث سنوات، وأحيانًا ما يصل الحكم إلى 15 عامًا في الحوادث الضخمة التي تستأثر باهتمام الرأي العام.
بعض الحوادث قليلة الضحايا تنتهي قصتها في يوم حدوثها، ولا تتابع الصحافة الأحكام التي صدرت فيها، مثل حادث التصادم الترددي على محور يونيو الذي كان دون وفيات.
أصابع الاتهام
العدالة معصوبة العينين حتى لا تُفرِّق بين المتقاضين، بينما يجب أن تكون الصحافة مفتوحة العينين، لتكشف الخفايا وتتابع وتلاحق وتطرح أسئلة قد تغفلها الأطراف أو لا يكون من صالح الدولة نفسها طرحها. ومن الخطر جدًا أن تتبادل العدالة والصحافة موقعيهما.
في حادث معدية أبو غالب دفع سائق الميكروباص المتهم ومحاميه بأن الفتيات تعرضن للتحرش من سائق توكتوك وأخيه وأصدقائه وهم الذين دفعوا الميكروباص بالبنات من فوق المعدية، وأيدت فتاة ناجية قصة التحرش، لكن الأحكام لم تأت على ذكر للمتحرشين، قد لا تكون واقعة دفع المتحرشين للميكروباص صحيحة، لكن هل من المعقول ألا يتم تحريك قضية في واقعة التحرش؟!
وفي حادث طريق السويس، هناك صورة منشورة للحطام، تكشف عن رمال وحصى على جانب الطريق، وهذه ظاهرة يعرفها كل المسافرين. مصدر الحصى والتراب من الجو أو من الحمولات غير المؤمَّنة لتريلات الرمل والحصى والسِن لا يتم رفعه، ويصبح مع الحفر المفاجئة مصدر خطر.
في كل التحقيقات لا تُذكر مواصفات رصف الطرق وإضاءتها وخطوطها العاكسة التي يُفترض أن تكون موجودة، وغياب الجزر الفاصلة بين اتجاهي المحاور، مما يجعل الحادث يشمل الاتجاهين.
تحب السيارات أن تطير في وقت الخطر، لهذا خلق المخططون في كل الدنيا الجزر لكي تلهو السيارات الطائرة فوقها عند الحاجة وتحط عليها فلا يتأثر الاتجاه المعاكس من الطريق.
الجُزُر أهم من التوسعة؛ لأن حارتين مروريتين بمواصفات أمان جيدة تكفيان أكبر حركة سيارات في الدنيا
لو أن مخططينا يشاهدون الأفلام على الأقل، لرأوا اتساع الجزر في طرق الآخرين. باستثناء المسافات التي يعبرها طريق في جبال وعرة أو فوق ممر مائي، توجد جزر عريضة تفصل بين الاتجاهين في الطرق السريعة، قد يبلغ عرضها حد أن القادم لا يرى الطريق الآخر، ومهما ضاقت تكون كافية لعدم تأثر قادة السيارات في اتجاه بأنوار الطريق في الاتجاه الآخر.
الجزر أهم من التوسعة؛ لأن حارتين مروريتين بمواصفات أمان جيدة تكفيان أكبر حركة سيارات في الدنيا. لكننا نزهو بعدد حارات المرور التي تُطمع السائقين ونضحي بالجزر الفاصلة، حتى الطرق القديمة أضيفت جزرها إلى عرض الطريق كطريقي الإسكندرية والإسماعيلية.
أرجو ألا يُفهم من كلامي أنني كنت أتمنى تبوير المزيد من الأرض الزراعية من أجل جزيرة مناسبة في المحاور، بل على العكس كنت أتمنى ألا تمر المحاور في الأرض الخضراء، فهي استثناء في طبيعة أرضنا المسكينة، والأصل هي الصحاري التي تتسع لطرق آمنة، بفواصل ألف متر بين الاتجاهين. هذا أمر ممكن إذا لم يكن الضيق في الدماغ.
الحل في السكة الحديد
السؤال المركزي قبل كل هذا يتعلق بكثافة المركبات على الطرق على مدار الأربع وعشرين ساعة، لأنها أحد أسباب ظاهرة الاصطدام المتتابع في الحوادث، حيث تتقارب السيارات بطريقة لا يمكن أن تحدث في بلد آخر.
لماذا يمرح في وادينا الطيب كل هذا العدد الرهيب من المركبات من الملاكي والميكروباص والتوكتوك والأوتوبيس والموتوسيكل وعربات نقل البضائع من كل الأحجام. لنتخيل صورة جوية لشوارع مدننا والطرق بين المحافظات لكي ندرك حجم المأساة، التي لم نكن لنصبح فيها لو أظهرنا بعض الاحترام للنقل السككي من ترام ومترو أنفاق وقطار.
خدمت السكك الحديدية في مصر 1.2 مليون راكب عام 2024 مقارنة بألمانيا التي خدمت فيها شركة نقل واحدة أكثر من سبعة ملايين مسافر
منذ التسعينيات اختارت الدولة تقليص الإنفاق على الوسائل الأنظف والأكثر أمنًا لصالح توكيلات استيراد السيارات من التريلا إلى التوكتوك، ولو أنفقنا عُشر ما أنفقناه على استيراد السيارات لحققنا الأمان على الطرق البرية واختلفت نوعية الحياة في مدننا بدلًا من تحويلها إلى جبلايات للقرود نعاني فيها من الخطر وكل أنواع التلوث.
إعادة الاعتبار إلى السكك الحديدية صار ضرورة حياة ولا بد أن يتحول إلى سياسات حقيقية نشطة. وحسب موقع الهيئة القومية لسكك حديد مصر وتصريحات لوزير النقل في أكثر من وسيلة صحفية، بينها ما جاء في تقرير الزميل محمد إسماعيل على المنصة، يبدو أن هناك طموحًا لزيادة حجم نقل الركاب والبضائع بالسكك الحديدية.
وتقول الأرقام إن نقل الركاب بالسكك الحديدية ارتفع من 700 ألف راكب يوميًا عام 2014 إلى 1.2 مليون عام 2024 والمستهدف أن يبلغ المليونين عام 2030، وهذه أرقام هزيلة جدًا بالمقارنة بحجم الحركة على الطرق البرية. وفيما يخص نقل البضائع، تؤكد التقارير أنه ارتفع من حوالي 4.5 مليون طن سنويًا عام 2014 إلى 6 ملايين طن سنويًا عام 2024 والمستهدف 13 مليون طن عام 2030.
يتضح معنى هذه الأرقام والطموحات لسكك حديد تخدم أكثر من مائة مليون عند مقارنتها بأرقام نقل السكك الحديدية في ألمانيا التي تخدم خمسة وثمانين مليونًا. حيث تنقل الشركة الأساسية ديرشي باهن 7.3 مليون راكب يوميًا، علمًا بأن هناك شركات إضافية أصغر تنقل الركاب والبضائع منذ السماح للقطاع الخاص بدخول هذا القطاع عام 1994.
وتقدر خدمة نقل البضائع على السكك الحديدية الألمانية 125 مليار طن/كم سنويًا، أي ما يساوي سبعين مرة طاقة السكك الحديدية المصرية، التي لن تكون دقيقة إلا بحساب المسافة بالكيلومتر التي تقطعها هذه البضائع، فهناك فرق بين أن تصل حاوية من ميناء الدخيلة إلى أسوان بالقطار، وبين أن تصل من ميناء السويس إلى المخازن القريبة التي يشار إليها بـ"المواني الجافة" في السادس من أكتوبر. وما نراه بالعين المجردة أن محطات الشحن والتفريغ في المدن على المسار الطويل للقطار معطلة، بل وتتغير البيئة حول تلك المحطات داخل المدن المكتظة بما يعوق استخدام هذه المحطات.
بالنهاية، أرقامنا هزيلة، واستمرار إهمال النقل السككي إغلاق للسكة إلى المستقبل.

