
كوبري السيدة عائشة.. فشلٌ معلقٌ في رقبة العفاريت
سجَّل يوم الثالث عشر من فبراير/شباط 1984 الحادثَ السابعَ لسقوط سيارةٍ من أعلى كوبري السيدة عائشة خلال الشهر ذاته، وهو ما اعتبره محافظ القاهرة حينها يوسف صبري أبو طالب "انخفاضًا كبيرًا" في معدل الحوادث التي يشهدها الكوبري مقارنة بالشهور السابقة، بينما ألقى نائبه أحمد حسن عبد الرحمن باللائمة على السائقين الذين لا يلتزمون بالتعليمات، مبرئًا أسطورةً شعبيةً جرى تداولها تُرجع الحوادث لانتقام أرواح ساكني المقابر التي أزيلت لبناءه على أنقاضها.
ففي الثمانينيات والتسعينيات، ومع تكرار سقوط السيارات من أعلى الجسر العلويِّ الذي بُنيَ عام 1979 في طريق صلاح سالم، مارًّا فوق تُرب سيدي جلال وميدان السيدة عائشة، حيث يقع مسجدها التاريخي، سادت أسطورة رددها البعض بجديةٍ والبعض بهزل، عن لعنة تتعلق بأرواح أولياء الله الغاضبين من طمس قبورهم أثناء إنشاء الكوبري. وكانت أكثر الشائعات تداولًا بين سائقي الميكروباص في موقف السيدة عائشة هي إصابة المهندس الذي صمم الكوبري بالشلل لأنه أقلق منام الموتى.
بعض رواسب هذه الأسطورة المستقرة في الذاكرة طفتْ مؤخرًا بينما يستعرض إبراهيم صابر محافظ القاهرة في بداية أبريل/نيسان الماضي عدد حوادث الكوبري في 2024، التي بلغت 15، ليعلن قرار تفكيكه خلال ثلاثة أشهر، ضمن أعمال "التطوير" الجارية في الميدان.
تَجَاوز القرار كونه مجردَّ تفصيلة في مشروع تطوير ميدان تاريخي عشوائي ومزدحم، ليكتب نهاية كابوس امتد 46 عامًا، عايشه سكان القاهرة ممَّن كانت تقودهم الطرق للمرور فوق ما عُرف باسم "كوبري الموت".
في ثنايا أساطير "كوبري الموت"، تتسرَّب أحاديث عامة متكررة عن عيوب في التصميم، لكنها لا تتضمن معلومات كافية عن تفاصيل إنشائه والجهة التي تولَّته. لا في ديوان محافظة القاهرة الذي لجأت إليه المنصة ابتداءً وهي تبحث في قصة الكوبري، ولا في حي الخليفة، الذي يقع ميدان السيدة عائشة في نطاقه.
ولكنَّ موظفًا في الحي ألقى أثناء دردشة جانبية بطرف خيط؛ وهو يقول "اللي أعرفه إن المهندس اللي صمم الكوبري في نص السبعينيات، بقى بعد كدا وزير نقل".
من يعرف القصة؟
ذهبتْ بنا المعلومة التي ألقى بها الموظف إلى أرشيف الصحف المصرية، لنقف على الكم الهائل لما نُشر عن الكوبري طوال العقود الأربعة الماضية من أخبار وتقارير ترصد حوادثه، مع تعليقات من المحافظ ونوّابه، وأخرى من إدارة المرور.
من بين هذه التقارير، ما نقلته صحيفة الجمهورية الحكومية عن المحافظ يوسف صبري أبو طالب بشأن انخفاض معدل الحوادث إلى سبعة في الشهر، بعد حادث فبراير 1984، مع تعليق من العقيد حسن إسماعيل، رئيس وحدة مرور قطاع جنوب القاهرة، عن عيوب في تصميم منحنى الكوبري.
وبعد ما يقارب الـ19 عامًا نشرت الأخبار تقريرًا في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2002 تحت عنوان "متى يتوقف نزيف الدم فوق كوبري السيدة عائشة"، اختتمه الصحفي ناجح سيف كالتالي "وزير نقل سابق هو الذي قام بتصميم هذا الكوبري منذ عشرين عامًا، وقت أن كان مجرد مهندس صغير. والسؤال.. لماذا لا يعلن هذا الوزير بعد أن خرج من الوزارة أنه أخطأ في تصميم الكوبري ويطالب بفكه وإعادة تركيبه".
بعد تدشين كوبري السيدة عائشة عام 1979، تعاقب على وزارة النقل وزيران اثنان "سابقان" على نشر تقرير الأخبار في نوفمبر 2002؛ هما سليمان متولي سليمان (مايو/أيار 1980 إلى أكتوبر/تشرين الأول 1999)، وإبراهيم الدميري (أكتوبر 1999 إلى فبراير 2002). فمن منهما المُصمم؟
هذا السؤال أجاب عنه حوار أجرته جريدة الوفد في 3 يونيو/حزيران 1995 مع وكيل كلية الهندسة بجامعة عين شمس المهندس إبراهيم الدميري، باعتباره المهندس الذي وضع التصميمات المبدئية للكوبري، الذي يُعدُّ من الجيل الأول للكباري العلوية في القاهرة الكبرى إلى جانب كوبري الفسطاط وكوبري الملك الصالح، التي بدأ العمل عليها نهاية عام 1976.
في الحوار، يشرح الدميري كيف بُني كوبري السيدة عائشة بتمويل من الحكومة البلجيكية على شكل منحة لا تُرد. كان دور مصر إعداد التخطيط الابتدائي، ثم "في بلجيكا عملوا رسومات تنفيذية وأرسلوا الحديد من الخارج جاهزًا على التركيب، وتم تركيب هذه الكباري في أسرع وقت ممكن". ويوضح الوزير السابق أن البناء استغرق "أسبوعين فقط".
الكل مخطئ إلا المسؤول الأول
تتفق آراء خبراء النقل الذين تحدثوا إلى الصحف في أكثر من مناسبة، خلال حقبتي الثمانينيات والتسعينيات حتى الألفينيات، في أن هناك أخطاء جسيمة في التصميم أو التنفيذ، أو كليهما أدت لوقوع 255 حادثًا في عام واحد فقط.
تحدث استشاري تصميم الكباري بكلية الهندسة جامعة عين شمس محمد شعيب، في تقرير جريدة الأخبار المنشور في نوفمبر 2002، عن ثلاثة "أخطاء قاتلة" في كوبري السيدة عائشة، الأوّل شدّة المنحنى الذي يجبر السيارات القادمة من مصر القديمة باتجاه مدينة نصر على الالتفاف بشدِّة إلى الخارج، ما يمكن أن يؤدي إلى سقوطها من أعلى الكوبري.
وينحني الكوبري الذي يبلغ طوله 350 مترًا وعرضه 16، بصورة غير معتادة، بسبب ضيق طريق صلاح سالم في هذه المنطقة الأثرية، حيث كان هدم المباني الأثرية التي تحيط بالطريق يعد من الكبائر في ذلك الوقت.
الخطأ الثاني يتمثل في أن أسلوب التصميم يُغري السيارات بالسرعة الزائدة، التي تؤدي أيضًا إلى الحوادث، أما الخطأ الثالث فهو عدم تناسب ارتفاع سور الكوبري مع درجة الخطورة هذه.
لكن الدميري في حواره مع الوفد يتحدث عن "محددات جعلت الكوبري بالصورة التي عليها، وهي مسجد السيدة عائشة من جهة وسور مجري العيون الأثري من الجهة الأخرى، الأمر الذي فرض على التخطيط أن يكون الكوبري بنصف قطر دوران، تم تحديده في التخطيط الابتدائي بـ150 مترًا، نظرًا لرفض هيئة الآثار إزالة أي أجزاء من مجرى العيون".
ويتفق الدميري مع نائب المحافظ الذي حمَّل في 1984 السائقين المسؤولية، فيقول إنهم أجروا "تحليلًا لمبررات ومسببات هذه الحوادث، فظهر أنها كلها وبدون استثناء لسيارات نقل ثقيل وشاحنات وأوتوبيسات، والسبب الرئيسي وراء سقوط هذه السيارات الثقيلة يرجع إلى سلوكيات ورعونة سائقي هذه المركبات وعدم التزامهم بآداب وتعاليم وقوانين السير والمرور، وعدم التزامهم أيضًا بالسرعة المحددة فوق الكوبري".
ثنائية الناس والتراث
لاحقًا، سيتولى الدميري وزارة النقل مرتين؛ الأولى في حكومة عاطف عبيد عام 1999 لثلاث سنوات، حتى يضطر للاستقالة بعد حادث حريق قطار الصعيد في فبراير 2002، الذي راح ضحيته أكثر من 361 مسافرًا.
أما وزارته الثانية فكانت في حكومة حازم الببلاوي التي شُكِّلت عقب الإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي في يوليو/تموز 2013، وخلالها وقع حادث قطار دهشور الذي أسفر في نوفمبر 2013 عن مقتل 27 شخصًا، إثر اصطدام قطار بسيارة نقل وأخرى ميني باص.
لكنه في تلك المرة لم يُضطر للاستقالة، بل استمر في منصبه، حتى بعد استقالة حكومة الببلاوي في فبراير 2014، ضمن حكومة إبراهيم محلب الأولى إلى أن استقالت في يونيو/حزيران من العام نفسه.
خلال هذه العقود الأربعة، تعددت المطالبات بتفكيك كوبري السيدة عائشة ليس فقط بسبب تكرار الحوادث، بل أيضًا لمسؤوليته عن تشويه بانوراما الآثار الإسلامية الموجودة في المنطقة.
إحدى هذه المطالبات، وردت ضمن توصيات دراسة أعدها جهاز التنسيق الحضاري التابع لوزارة الثقافة نوهت لها جريدة روزاليوسف في 8 أغسطس/آب 2008، لكون الكوبري يتوسط مجموعة هائلة من الآثار الإسلامية منها مسجد السيدة عائشة ومسجد مسيح باشا، ومسجد الغوري، بالإضافة إلى بقايا التربة السلطانية التي تعود للقرن الثامن الهجري ومنارة قيسون وقلعة صلاح الدين.
كما سبق أن اقترح الدكتور أحمد عبد المعطي، أستاذ الطرق بكلية الهندسة في جامعة القاهرة، إزالة الكوبري وإنشاء نفق مكانه، في تقرير "متى يتوقف نزيف الدم في كوبري السيدة عائشة"، المشار إليه أعلاه. ولأن هذا المخطط "سيأخذ وقتًا طويًلا"، دعا حتى يتم ذلك إلى "تكثيف الرقابة المرورية فوق الكوبري".
المثير كان المقترح الذي قدمه العقيد حسن إسماعيل، رئيس وحدة مرور قطاع جنوب القاهرة، وأفصح عنه لجريدة الجمهورية في العدد المنشور في 15 فبراير 1984، حيث دعا لـ"نزع ملكية الأراضي المجاورة للطريق السطحي وتوسيعه ليمكن توسيع الكوبري واستعداله!!"، الأمر الذي تعذّر وقتها، لما تتميز به المنطقة من تراث مادي ومنشآت أثرية لم يكن هدمها مقبولًا في تلك الحقبة، حتى أن محرر التقرير اختتم اقتراح الضابط بعلامتي تعجب.
عاش كوبري السيدة عائشة دون هدم أو توسعة طوال هذه العقود على حساب أرواح الكثيرين، ونَجَت الآثار المحيطة به كذلك من الهدم، فبقي إرث إبراهيم الدميري صامدًا في وجه كلِّ التوصيات والمطالبات بإزالته، حتى أتى محافظ القاهرة إبراهيم صابر بعد عشر سنوات من ابتعاد الدميري عن المشهد، ليصارح الناس وهو يزف نبأ تفكيك كوبري الموت، بأن هناك "مشكلة في تصميمه من البداية".