برخصة المشاع الإبداعي: ويكيبيديا
صورة جوية لحي مصر الجديدة في القاهرة، أغسطس 2013

يتغير المعمار ويبقى الفراغ.. إلا في القاهرة

منشور السبت 3 مايو 2025

لا يخفى على أحد أن تصور السلطة الحالية في مصر عن الإسكان والمعمار والعمران لا يعطي الفراغ دوره الحقيقي والمطلوب في احتياج العمارة، أو مصالح الساكنين وصحتهم، نظرًا للإيمان بقاعدة خاطئة تقول إن الأرض مصدر الثروة الوحيد في مصر. وفقها، يصبح دومًا أي متر فضاء مطمعًا للطامعين، لا يعنيهم الجمال، ولا التنسيق الحضاري كثيرًا.

ابتداءً، لا يوجد تصميم لبناء أو معمار إلا وخلفه فكرة أو فلسفة، ليس بوسع واضعيها أو معتنقيها ألَّا يأخذوا الفراغ في الاعتبار، وإلَّا ما كانت هناك بناية أو بناء من الأساس. تتغير أشكال المعمار ومصطلحاته عبر الأزمنة والأمكنة، ويبقى الفراغ، من خلال الوظيفة التي يمنحها للبنيان، هو الأكثر استمرارًا، ولا يختلف باختلاف السنين، وتعدد ثقافة السكان، وتغيّر أحوالهم الاجتماعية، وتبدّل أمكنة وجودهم.

فأي مبنى لا يوضع في فراغ لا نهائي، إنما تنشأ علاقة جليِّة بينه وبين الفراغ الكبير للمنطقة المقام عليها. ويكون دور المعماري أن يحاول التوفيق بينهما قدر الإمكان، بدءًا من اختيار مكان البناء وحتى انتهائه، إذ أن الأرض الفضاء بالنسبة للمعماريين فراغ وظيفي مثمر، أو يُرجَى منها خيرٌ كثيرٌ، لأنها قابلة للتعمير.

الفراغ والكتلة

ينبني المقوم الأساس للتصميم المعماري على عنصرين؛ الكتلة والفراغ، والتكوين المعماري هو نقطة التماس بينهما، وحين يتفاعلان فلسفيًا بصيغة مبهمة يأتي التكوين مبهمًا أيضًا. ويحدد المعماري موقفًا واضحًا من تفاعل الإنسان مع محطيه عن طريق تحديد النقطة المفصلية بين العنصرين. ومع هذا لا يتساوى الانشغال بالكتلة والفراغ، إذ حاز التعبير والتدبير الخاص بالكتلة على نصيب كبير، فيما بدا المصممون عاجزين عن إدراك الفراغ، رغم أنه ضرورة لأسمى أشكال التعبير في العمارة .

القاهرة

بل ربما لا تدرك السلطة الحالية أن هناك مِن المعمارين مَن ينظرون إلى الفراغ على أنه الأساس، مثل الأمريكي فرانك لويد رايت، لدرجة أنه يرى أن الحيز الداخلي هو حقيقة المبنى. وفي نظر رايت، ومن يمضون على دربه، فإن الفراغ محدد بالجدران، ويشكل إطارًا ثلاثي الأبعاد يتطور عمرانيًا وإنشائيًا. وبذا تكون العمارة عندهم فراغات تنتج عنها الأشكال التي تتخذها المباني، وبذا يقسمون داخل تلك المباني إلى فراغات، ويكون الفراغ المعماري هو جزء اقتُطِع من الفراغ العام، وفق مواصفات أو مقاييس محددة، يتاح فيه للإنسان أن يمارس أنشطته.

وحسب الدكتور يحيى حمودة في كتابه التشكيل المعماري، تلعب الفراغات دورًا مهمًا أيضًا في التشكيل، فالأسطح الصماء تعطي سمة الثقل بينما المفرغة تعطي سمة الشفافية والخفة. ويعطي الفراغ هنا الأسطحَ حيويةً، ويكون مُكمِّلًا في الوقت ذاته، لأنه يزيد من غِنى السطح في التعبير والتأثير في نفس الناظر إليه، وهذا أمر ظاهر أكثر في العمارة الإسلامية. كما قد يستعمل اللون لتمنح تجربة التحرك عبر الفراغات استمرارًا وتكوينًا، فالاستخدام الهادف للون بحسٍّ تسلسليٍّ يكاد يكون مجهولًا في الممارسة المعاصرة للمهنة.

وأتعجب من نسيان رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، المختص بهندسة المدن، وكان وزيرًا للإسكان، أن زملاءه من المهندسين المدنيين يُقسِّمون الفراغات إلى فراغ مخصص للأجسام الثابتة، وآخر قابل للحركة في حالات خاصة، وهو فراغ يغلب إشغاله بأجسام تبقى في موضعها، لا تُنقل إلا في حالات معينة.

وهناك الفراغ المخصص لمزاولة أنشطة، وهو فراغ يغلب استغلاله في أعمال محددة؛ إنتاجية أو ترفيهية أو خدمية، ويسمى "الفراغ الإيجابي". أما الفراغ المخصص للحركة، ويستعمل غالبًا في الوصول أو التنقل أو الخروج، فيسمى "الفراغ السلبي". ويوجد الفراغ الميت، الذي لا يمكن استخدامه على أيٍّ من الوجهين، مثل الزوايا صعبة الاستغلال والأماكن المرتفعة.

أُذكِّر مدبولي هنا بما أوردته سلمى محسن في دراستها الفراغ المعماري قبل القرن العشرين، من أن مفهوم الفراغ مرَّ بثلاث مراحل: أولاها ولدت من التفاعل بين مختلف الكتل، وقت أن فكر الإنسان في البحث عن مأوى فاحتمى بكتلة صخرية. وفي ركاب هذا ظهر الفراغ في معمار الحضارة المصرية القديمة، الذي عرف التتابع الفراغي في المعابد ليؤدي وظيفة دينية، بينما أهمل معمار الإغريق الفراغات الداخلية، وصرفوا اهتمامهم إلى الشكل الخارجي ومقاييسه ونسبه، وعُرفت بـ"الأجورا" كمكان للتجمع والاحتفالات.

مع مطلع القرن العشرين وفي إطار الحداثة نودي بالتخلي عن الزخارف في المعمار

أما الثانية فبدأت حين أخذت الحضارة الرومانية، بعد مدة، تتلمس خطاها نحو معرفة الفراغ الداخلي في القباب، وأماكن اللقاءات العامة والحكم، لتستمر حتى نهاية القرن الثامن عشر. وخلال هذه المسافة الزمنية الطويلة، اتسمت العمارة الإسلامية بفراغات غير منتظمة متشعبة ومتدرجة من حيث الخصوصية والمستخدمين، فيما تميزت عمارة عصر النهضة الأوروبية بوجود فراغات هائلة صارت مصدرًا لإظهار الأُبَّهة والعظمة. وبدأت المرحلة الثالثة مع مطلع القرن العشرين، حيث أضيف البعد الزمني إلى الأبعاد الثلاثة للفراغ، الذي صار مُدركًا بفعل مراقبة الحركة فيه، ورؤيته من زوايا عدة.

مدرسة مدبولي القديمة

يبدو أن مدبولي من مدرسة قديمة، إذ أن تنفيذ الفراغ في واقع العمران وتجسده المادي لم يواكبه تنظير حوله، أو إدراك شامل له وإحاطة به. فحتى مطلع القرن التاسع عشر لم يتناول المعماريون الفراغ إلا عبر تصورهم للإنشاء والتشييد والجمال، ولم يأتوا على ذكره إلا نادرًا.

ظل الأمر على ذلك إلى أن جاء المعماري الأمريكي هوراشيو جرينوج ليشير إلى ما أسماه التكوين العلمي للفراغات والأشكال، والمعماري السويسري كونستانت ديفو في حديثه عن "توزيع الفراغات" في مقال كتبه عام 1874، وكذلك شوازي ودونالدسون في دراسته للفراغ في العمارة الرومانية. بينما عكس الفيلسوف فريدريك هيجل في محاضراته عام 1820 نظرة المعماريين إلى الحجرة باعتبارها جزءًا مقتطعًا من فراغ غير محدود، عندما أكد أن غرض أي مبنى هو اقتطاع جزء من الفراغ لاستعماله. ثم تطورت الفكرة، فوصلت إلى النظر إلى فكرة الفراغ على أنها إحدى مداخل النقد والتحليل.

أما مع مطلع القرن العشرين، وفي إطار الحداثة، نودي بالتخلي عن الزخارف في المعمار، ونُظر إلى البيت على أنه مجرد آلة للعيش، على حد تعبير المعماري الفرنسي السويسري لو كوربوزيه، وأن القليل يكفي لإتاحة الكثير مثلما رأى ميس فان، وهو بدوره تناول "الفراغ الشامل" الذي يمكن تقسيمه وفق الاحتياج في مرونة تامة، تتعامل معه على أنه صندوق زجاجي.

لكن جاء من انقلب على هذه الرؤية مثل المعماري الكندي/الأمريكي فرانك جيري، الذي أشعل حنينه نحو العمارة التقليدية، وجرب عبر التفكيك بعض أنماط التكوينات غير المنتظمة للفراغ، ما قاد إلى تغير بنيته، وتحول شكله من البساطة إلى التعقيد، بل والفوضى، كما يرى الدكتور نوبي محمد حسن الفراغ المعماري من الحداثة إلى التفكيك.. رؤية نقدية.

وفي ظل التطور التقني المتسارع فقدت الحدود العمرانية قيمتها الحسية، وتقاربت المسافات المعنوية بين الفراغات العامة والخاصة وبين الحياة الطبيعية والحضارية، ليتغير مفهوم الفراغ وفق سرعة تدفق المعلومات، ويسر الاتصال، والتحكم عن بعد، ما قاد إلى دور أكبر للحاسوب في تحديد الفراغات الافتراضية.

في خاتمة المطاف، ربما يحتاج من يقدمون على هدم مباني قديمة في القاهرة، أو تبوير حدائق وتحويلها إلى مساكن، أو اقتطاع أجزاء من أماكن عامة لتصبح بنايات للسكن، في ظل دفع الدولة لتصير "شركة عقارات"، إلى تقدير الدور الجمالي والصحي للفراغ، وأن بنايات متلاصقة سيئة التهوية، لن تكون جاذبة، وأن أي فراغ يترك حول بناية يصنع لها مدى جمالي، يزيد من أسعار شققها، بحيث تغطي "ثمن المنطقة الفارغة"، بل تزيد على ذلك.