قد لا تكون هناك مدينة في العالم تجمع أكثر من ألف عام في شارع واحد سوى القاهرة. لكن هذه السمة تجرحها في مناطق عدة يد العبث المعماري الجديد. بعض المساجد والأسبلة تُركت ربما إلى حين، وأكل الزمن بنايات تعود للقرن التاسع عشر، ليُقيم مكانها عمارات شاهقة، في توسع رأسي يتغلب عليه الزحام المتواصل، بلا هوادة، ويزكيه سوء التخطيط، وتقدير وظيفة الحكم ومهامه.
في بعض الأحياء هُدمت فيلات وبيوت بديعة وأقيمت مكانها بنايات مشوهة. لا تخطئ العين مقارنة ما تركه السابقون بما بناه اللاحقون. فبمجرد أن يحط البصر على واجهات حافلة بأشكال بديعة من البروزات والبراويز والحُلي والمشربيات والقباب، ثم تنتقل إلى بناء مصمت تطل منه نوافذ ضيقة وشرفات تسرق من الشارع بعض هوائه، يدرك المرء كيف تتطور مدننا إلى الخلف.
قاد سوء التخطيط إلى أشكال معمارية لا تراعي التنسيق الحضاري، فلا فراغات كافية، ولا حدائق، ولا خدمات كافية في الشوارع تخفف من وطأة التجهم الشديد، والقبح الأشد، ثم أدى الفساد المستشري إلى الإمعان في الكآبة والاختناق.
كيف تغيرت ملامح المدينة
على مدار عقود، لم تعنِ السلطة السياسية بتخطيط يعطي الشوارع بعض البراح، ويمنح النوافذ شيئًا من نسيم. شارع لا يتعدى عرضه أمتارًا قليلة تقف على جانبيه أبراج عالية تمتلئ شققًا مجروحة أمام الناظرين، فلا خصوصية، ولا نجاة من الضجيج، أو الروائح النفاذة القادمة من مطابخ تطهو طعامًا يقتصر دوره على ملء البطون لا لذه الاستمتاع.
مع الوقت انعكس التفاوت بين المصريين في المعاش إلى تفاوت بينهم في البنيان
قابلت ذات يوم مقاولًا جنى ثروة طائلة من هدم الفيلات في حي المنيرة، حيث كان يسكن باشاوات مصر في النصف الأول من القرن العشرين، لإقامة أبراج قبيحة مكانها. المكان الذي كان يسع أسرة واحدة، تتنعم بالبراح، وتردد "من أراد الله به خيرًا وسع له في داره"، صار يطبق على عشرات الأسر، تفصل بينها جدران رقيقة، وتحبس مناورها هواءً فاسدًا لا يقدر على الفرار.
يزيد من وطأة هذا سمة سيئة أصابت كثيرًا من الناس. فكل مواطن ينشغل بتنظيف وترتيب وتزيين شقته، ولا يهتم بواجهة العمارة التي تحل فيها، أو السلم الحجري الصاعد إليها والهابط منها، أو المنور الذي يمنحها النور والهواء، وبالطبع لا يهتم بالشارع المؤدي إليها.
ومع الوقت انعكس التفاوت بين المصريين في المعاش إلى تفاوت بينهم في البنيان. ربما تكون بداية التغير مع مطلع القرن العشرين. يحكي لنا نجيب محفوظ في بعض رواياته عن تطلع أهل الجمالية إلى العباسية حين صارت حيًا للأثرياء. يصف في قصر الشوق الفيلات الأنيقة التي يتجول فيها كمال عبد الجواد باحثًا عن وجه محبوبته عايدة شداد، ليصف لنا بشكل غير مباشر كيف تباينت أنماط العيش.
نموذج العباسية لم يلبث أن تكرر مع أحياء مصر الجديدة وجاردن سيتي والزمالك. وعبر العمران نهر النيل فأقيمت أحياء الدقي والعجوزة والمهندسين، جارفة أمامها قرى وزراعات.
يتواصل تجريف الزرع في الجيزة لإقامة شارعي الهرم وفيصل، ويبقى المنيل في القاهرة مقصدًا للطبقة الوسطى، يطل على استحياء على بيوتٍ بسيطة في مصر القديمة. أما وسط البلد، الذي أراده الخديوي إسماعيل على شاكلة باريس، فاحتفظ عقودًا من الزمن بروعة مبانيه، وكونه مكانًا للتسوق والبهجة والإدارة.
خطوط التماس الطبقي
لم تنقطع الصلة بين سكنى الطبقة العليا والوسطى والفقيرة، دقائق بين مصر القديمة والأحياء الجديدة من حوله، وكأنها تغرف بعض الوهج والتألق من بهائه ورونقه وتاريخه المفعم بالحكايات. وطوقت أحياء مميزة بعض المناطق القديمة، مثلما فعل "العجوزة" مع قرية أولاد علام، و"المهندسين" مع ميت عقبة.
اقتطعت القاهرة أجزاء من حضر الجيزة والقليوبية وضمتها إليها لتصبح "القاهرة الكبرى"؛ مدينة مترامية الأطراف تتوحش باستمرار، حتى ضاقت بها طبقة ساعية إلى العزلة والهدوء وإظهار التميز، وربما الاستعلاء.
هنا عاد التفكير في الصحراء بطريقة مختلفة عن تلك التي راودت ضباط يوليو عندما أنشأوا حي مدينة نصر، ومنحوه الكثير من صرامتهم وتفكيرهم العملي وذائقتهم المختلفة، ليجمع أخلاطًا من الطبقات، كلٌّ يختار اتساع شقته على قدر إمكانياته، والكل يتجاور ويتشارك الرمل والحصى الذي يطل عليه منزله.
مبانٍ ضخمة، أشبه بعلب متراصة، لا تنشغل بجمال الواجهة إنما بالقدرة على توفير أي ملاذ للموظفين والعاملين في آخر النهار. وعلى الطريقة نفسها نشأت بعض أحياء مدينة السادس من أكتوبر.
تهادت الصحراء وفق طريقة تفكير أخرى، فمن مدن غير معقدة تراعي اختلاف الإمكانيات مثل السادس من أكتوبر والشروق والعاشر من رمضان والسلام ومساكن النهضة والعبور والشروق وبدر والسادات والمنيا الجديدة وبني سويف الجديدة، إلى تجمعات سكنية مرفهة لم ينسَ مخططوها أن الطبقة الجديدة المُمَكَّنة التي تقطنها ستحتاج إلى مقدمي خدمات في مختلف التخصصات والأعمال، فنشأت إلى جوارها أحياء بوسع الفقراء أن يسكنوها، في انتظار أن يستدعيهم أبناء الطبقة العليا لتقديم خدمة ما.
هكذا وجدنا حيًا جانبيًا بسيطًا إلى جوار التجمع الخامس، وحيًا على يسار الطريق يطل على حي الشيخ زايد حيث الفيلات الفارهة، وتحكمت السلطة التي تضع الأرض تحت يديها تحت لافتة "أرض الدولة" في صناعة هذا الاعتماد المتبادل، وكانت تقصد في تخطيطها هذا أن يحمل القادرون على أكتافهم غير القادرين، ويواصل المجتمع المصري أداء دوره في التعاون الذي اكتسبه عبر التاريخ، وسكن جيناته الاجتماعية.
زاد عدد المؤمنين بأن "الأرض مصدر الثروة"، فسُنَّت قوانين تسمح بتخصيصها. انفتح الباب أمام منح الأراضي لتنفيع وإثراء لرجال أعمال وفئات اجتماعية ملتصقة بها مثل الضباط والقضاة، فأنشأ هؤلاء جمعيات تضع كل منها لافتة باسمها على قطعة أرض متسعة الأرجاء، تقسمها بين أهل المهنة.
ونشأت لعبة "تسقيع الأرض" لمضاعفة سعرها، والتقطت جيوب من خُصصت لهم الأرض كل ما يقدر على دفعه المشترون، وهم إما موظفون أثروا بغير حساب، أو عائدون من سنوات الكدح في بلاد النفط، أو سكان مدن باعوا ما ورثوه من أرض زراعية في الريف، فتجاور هؤلاء في السكنى، صانعين خلف أهرام الجيزة وبموازاة الشيخ زايد وأكتوبر أحياءً جديدة.
الأمن والاستبعاد الطبقي
على التوازي، توالت القرى السياحية في الساحل الشمالي على البحر المتوسط، والشاطئ الغربي للبحر الأحمر، والشرقي لخليج السويس، والشمالي لخليج العقبة، واقتصر الانتفاع بالكثير منها على الطبقة الثرية، فأثارت في ركابها حنقًا اجتماعيًا ظاهرًا جعل الناس يطلقون عليه أخيرًا اسم "الساحل الشرير".
توسعت إنشاءات الكومباوندات، بأسوارها العالية وأبوابها الممتلئة بالحراس، لا يسمحون بالدخول لغير سكانها، وضيوفهم ممن أُبلغت أسماؤهم. واستعاض هؤلاء عن سكان الأحياء الفقيرة المجاورة المعاونة بشركات تقديم الخدمات، ومولات ومراكز تجارية تعرض كل شيء.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل جاء وقت إنشاء مدن معزولة مرفهة وذكية، كالعاصمة الإدارية والجلالة والعلمين والمنصورة الجديدة. ولأجلها أعيدت صياغة الطرق المؤدية إليها، على نحو لا يضع مصالح بقية السكان في اعتباره، فتحولت القاهرة إلى مجرد ممر مؤدٍّ للعاصمة الإدارية.
لم يكن الهدف هو إزاحة كل ما تعتقد السلطة أنه يعوق انسياب المرور إلى العاصمة الجديدة فحسب، بل كانت الاعتبارات الأمنية قائمة، من دون شك. فالشوارع التي اتسعت والكباري التي أقيمت لم تكن بعيدة عن فكرة "انتشار الجيش في ست ساعات" كما أفصح عن ذلك الرئيس السيسي في إحدى كلماته.
بدا الأمر وكأنه إعادة لتجربة مرت بها باريس من قبل، يلتقطها الأديب عزت القمحاوي في مقاله "عمارة الريبة" في المنصة، فيشير إلى أن نابليون الثالث بعد انقلابه على الثورة، بدأ تحديثًا عمرانيًا تضمَّن "شق الطرق الواسعة التي تسهل نشر القوات وقمع أي ثورات أو تمردات محتملة، لكن هذا لم يكن الهدف الوحيد لدى الديكتاتور"، الذي أراد أيضًا خَلق مظهر احتفالي، "وللمرة الأولى انفصلت الوظيفة الصناعية عن الإسكان في باريس، لكن استمرت الوظيفة التجارية، وتدعمت، إذ كان عائد بيع المتاجر الكبيرة على الشوارع الواسعة أحد أوجه الإنفاق على مشروع التطوير".
دفعت القاهرة وما تزال أثمانًا باهظة لهذه التحولات في المجتمع والعمران، ولكن هذا موضوع المقال القادم.