"كنا بنقدر نلبس حجاب زي ده قبل ما نتخمَّر" قالت الفتاة العشرينية التي ترتدي الخمار لزميلتها إعجابًا بحجاب على الموضة مر من أمامهما. وعندما اكتشفتا أن ما قيل وصل إلى سمعي، ابتسمتا بخجل بنات البلد، ودخلتا إلى محل العباءات الذي تعملان به في الدور تحت الأرضي بمول السراج.
ينبغي أولًا أن ندير الاسم على وجهته الصحيحة التي عُرف بها؛ "السراج مول"، لأن ترتيب الكلمتين بمنطق اللغة الإنجليزية هو الذي منحه ألقه الغابر. كانت الساعة الثانية عشرة ظهرًا، وقد وقفت الفتاتان في الممر شبه المعتم تتطلعان إلى شخص يمر بين وقت وآخر. سألتهما عن محل الساعات المغلق أمامهما. قالت إحداهما إنه لا يفتح في وقت مبكر كهذا. بعد ساعة يكون قد فتح.
مجمعات التسوق المغطاة
السراج واحد من المولات التي تنتمي إلى جيل المولات المتواضع الذي نشأ في أوائل التسعينيات في القاهرة والإسكندرية، بعضها في مبانٍ مستقلة وبعضها تحتل بضعة طوابق من أبراج سكنية. والبعض من هذه المولات يصعب العثور على تواريخ إنشائها، نظرًا لغياب التوثيق المعماري منذ 1952، لأن ما يُبنى لم يَعُد عملًا فنيًّا يستحق توقيع المعماري أو تسجيل التاريخ.
في نهايات الثمانينيات كانت "مدينة نصر" آخر حي سكني ضمن كردون القاهرة يتمتع ببقية من أراضٍ فضاء، وأرخت الدولة قبضتها عن المخالفات فيه، ونشأ شارع عباس العقاد بلقب فخم؛ "شانزليزيه القاهرة"، فكان مركز جذب للمتسوقين. كان طبيعيًا أن يتناثر بالقرب منه أكبر عدد من مولات تلك الحقبة التي زاحم بعضها البعض وتنافس؛ "وندر لاند" و"السراج مول" (1988)، و"جنينة مول" (1999)، و"طيبة مول" (2011).
ربما كانت البداية الجنينية لهذه الحقبة في منتصف الثمانينيات مع "نصر سنتر"، وهي بضعة محال في الطابقين الأرضي والأول في عمارة سكنية تستعرض واجهاتُها كتلًا خرسانية ضخمة في تقاطع شارعي عباس العقاد ومصطفى النحاس. ثم جاء "سيتي سنتر" كصيحة جديدة في الفخامة على تقاطع شارع النصر مع مكرم عبيد.
"المول" كمجمع رأسي للتسوق والنزهة برفاهية تكييف الهواء هو ظاهرة أمريكية حديثة، بدأت بنهاية الستينيات في الولايات المتحدة وإنجلترا ووجدت صداها في مختلف أنحاء العالم، خصوصًا في الأجواء غير المعتدلة.
لكن مجمعات التسوق المغطاة أقدم من ذلك بكثير في المدن الأساسية بالعالم القديم، وفي القلب منها حلب، التي تعود أسواقها إلى ما قبل الميلاد، حسب كتاب نهر الذهب في تاريخ حلب لكامل الغزي، بينما تعود عمارتها الحالية إلى العصر العثماني في بدايات القرن السادس عشر. وفي القاهرة أُنشِئ سوق خان الخليلي عام 1382.
وفي أوروبا، انتشرت ظاهرة الأسواق المغطاة التي توفر التسوق الآمن أواخر القرن الثامن عشر، كممر فيدو 1791 والقصر الملكي 1784 في باريس، و سوق برلنجتون أركيد عام 1818 في لندن، وقاعة فيتوريو إيمانويل الثاني في ميلانو 1878. ولم تتأخر المدن العربية عن موجة أسواق القرن التاسع عشر المغطاة، مثل سوق الحميدية في دمشق، وسوق الخضروات بالأزهر.
وندر لاند
مولات تسعينيات القرن العشرين المصرية لا تستحضر تاريخ الأسواق العربية، بل تنتمي بشكل متواضع جدًا لاستراتيجية المول الأمريكية التي تهتم بتحفيز الاستهلاك. في مدينة نصر، حيث أُقيم، تعاقبت هيمنة مولات أربعة على قلوب العشاق والعائلات خلال رحلة الثلاثين عامًا الماضية من القيام والانهيار. ولم تكن تستهدف سكان الحي وحدهم، بل سكان القاهرة كلها، وخصوصًا الأحياء القريبة كعين شمس والمطرية المحرومة من فضاءات التنزه. اعتمد أبناء المطرية وعين شمس الحديقة الدولية ومول "وندر لاند" فضاءً خاصًا بهما طوال عقود.
تولت عدد من الدول تأسيس قطاعات من الحديقة الدولية بمعالم من بلادها وأشجارها النادرة، وافتتحها مبارك عام 1988. وفي عام 1995 تم قضم مول وملاهي وندر لاند من الحديقة الدولية، ولم تكن تلك القضمة أسوأ أقدار الحديقة، التي انتظرت أكثر من عقدين حتى دهستها المسيرة الظافرة للجمهورية الجديدة، حيث جرى اقتطاع طوق من المقاهي والمطاعم تتلألأ ليلًا بفائض من الأنوار.
"سيتي ستارز" هو التغريدة الأخيرة لمولات القاهرة قبل إعلان اليأس من شفائها
تحملت الحديقة الدولية الحصة الأكبر من تبعات نصر الجمهورية الجديدة على القديمة، فصارت مجرد "باك يارد" للمقاهي التي لا تزال تحت الإنشاء، من ثلاث جهات وتتصل بالمول المنهك: وندر لاند. الذي يمكن اعتباره اللبنة الأولى لمبدأ "الدولة التاجر".
لـ"الوندر" سلم حلزوني مكشوف على الشارع، كان نزوله متعة لحشود المغادرين بعد مشاهدة فيلم في السينما التي تحتل الطابق الأخير من المول ذي النمط المعماري المفبرك بأبراجه هندية الطراز. ومن الطبيعي أن يكون مصير السينما متطابقًا مع المول الذي تسكنه، مع مصير الحي.
ماتت السينما التي كانت على بعد خطوات من بيتي، وفيها تعرفت على طفل من أبناء بوابي المنطقة يحضر فيلمًا ليحكيه لأصدقائه، قبل أن أقرأ ترجمة صالح علماني لنوفيلا "راوية الأفلام" للكاتب التشيلي إيريان ريبيرا ليتبريل. تحكي الرواية القصيرة حكاية ماريا مارجريتا وهي فتاة يافعة من إحدى القرى الصغيرة اشتهرت ببراعتها في إعادة سرد قصص الأفلام. كلما عُرِض فيلم جديد في سينما القرية، يجمع لها السكان النقود لكي تشاھده، ثم تعود لتحكيه لھم.
أما "سيتي سنتر" الذي يقف كحارس للحي في أوله، فيمكن اعتباره الحلقة الانتقالية بين المولات الرأسية الصغيرة والعملاقة. حيث يتميز عن كل ما سبقه بالرحابة، بسبب البهو الداخلي المفتوح بارتفاع المبنى، الذي يوفر لكل المحلات إطلالة بانورامية يمكن منها رؤية جميع الطوابق التجارية والسكنية.
عاصمة العاصمة
على بعد 400 متر من هذا المول ولد العملاق "سيتي ستارز" عام 2004، كأكبر مركز تسوق رأسي ومجمع فنادق بالقاهرة، وظل هو الأكبر حتى بعد إنشاء الفورسيزونز بشارع مراد بالجيزة.
"سيتي ستارز" هو التغريدة الأخيرة لمولات القاهرة، قبل إعلان اليأس من شفائها المتمثل في قرار إنشاء عاصمة إدارية. لسنوات بعد افتتاحه كانت إعلاناته ترافق السيارات على كوبري أكتوبر، حيث تطل عليهم عملاقة مضيئة من فوق العمارات، تُذكِّرهم في الذهاب والإياب: سيتي ستارز عاصمة القاهرة.
فخامة "عاصمة العاصمة" لم تعفها من الأثر الذي يتركه الزمن على الحضارات الآفلة. ما هي إلا سنوات حتى عرفت العاصمة عواصم أخرى في الضواحي: أحكم "مول العرب"، مع مجموعة أخرى من مولات زايد وأكتوبر، قبضته على زبائن جنوب وغرب القاهرة عام 2010. وتولى "كايرو فستيفال سيتي" عام 2013، مع مولات التجمع الأخرى، أمر زبائن الشرق.
عمدت الموجة الجديدة إلى مزج أسلوب مجمعات الماضي المنبسطة بالمعمار الرأسي، الذي يخلق انقطاعًا تامًا عن العالم الخارجي.
من حسن الحظ، ولأسباب متعددة، لم يتسبب إنشاء عواصم للتسوق في الضواحي في الهزيمة المبرمة لـ "سيتي ستارز" الذي يضع قدمًا في مصر الجديدة وأخرى في مدينة نصر، أكثر الأحياء تضررًا في القاهرة الخاضعة للعقاب.
لم يزل المول "عاصمة العاصمة القديمة" يحتفظ بشيء من أهميته، ولم يزل وجهة مرغوبة لعدد كبير من الناس بفضل الضخامة التي يتمتع بها بهوه، وممراته الفسيحة ومصاعده المكشوفة وسلالمه الكهربائية العديدة، التي تجعل منه مدينة ملاهٍ مسلية.
يعرف محبو "سيتي ستارز" دروبه غير العصية، وإن ظلت هناك قلة، من أمثالي، تضل طريقها داخله، لكنه ليس التيه المُقبض الذي تقدمه المولات الصغيرة، خصوصًا بعدما وصلت إلى الشيخوخة المبكرة.
المولات تموت واقفة
ولدت مولات ما قبل "سيتي ستارز" بأسباب موتها في تصميمها الداخلي، الذي لا يتيح فرصة للإضاءة النهارية ويجعل من زيارة المول تجربة انقطاع تامة عن النور والهواء الطبيعيين. الانعطافات الكثيرة المتلاحقة لممراتها الضيقة تعزز فرص التيه وتقلل فرص النظافة. والمساحات الصغيرة للمحال تجعلها تقتطع من الممر الضيق أصلًا لتعرض لافتاتها المتنافسة وبضائعها غير المميزة.
أماكن الراحة كالمقاهي ومساحات الأطفال بتلك المولات شديدة الضيق، محشورة حشرًا في المساحات المهدرة تحت السلالم الكهربائية. يكتشف زائر السراج الآن كم كانت هذه الأماكن صغيرة بعد أن صارت فارغة مظلمة، مع بقاء أثاثها منسيًّا، ربما يستريح عليه أحد الباعة ليكمل مكالمة هاتفية.
السلالم الكهربائية لم تعد كلها تعمل، والسلالم الثابتة ضيقة للغاية كمعظم سلالم عصر التمليك وانهيار تقاليد العمارة، حيث بدأ منذ أواخر السبعينيات النظر إلى السلم والمساحات المشتركة كمساحات مهدرة. وبسبب تعطل السلالم الآلية في المولات المحتضرة يعيش الزبون تجربة ارتياد الدرج المظلم، الذي لا يسمح لأصحاب القامات الطويلة بالحركة دون انحناء.
لا يموت المول الصغير دفعة واحدة، بل كما تموت الشجرة. يدب الموت في الطوابق تحت الأرضية والأطراف البعيدة، وتأخذ الحياة في الانحسار، حتى لا يبقى فيه سوى المحال القريبة من المدخل، والأكشاك التي تقام عشوائيًا. وغالبًا ما يتغير نشاط المحال بشكل متسارع وتنحدر نوعية المعروضات. ولأن أول المغادرين هو زبون الترفيه والتسكع، تقع ما كانت مطاعمَ ومقاهٍ في الإظلام التام، وتبالغ المحال من إضاءتها لتجذب زبونًا متعجلًا؛ فترتبك العين من تناوب الضوء والعتمة.
يشمل التغير في المولات المحتضرة البشر بالطبع. تتغير نوعية الرواد والعارضين، لكن التدهور الأكبر يقع على عمال النظافة الذين يبدو عليهم ضيق الحال، وغالبًا يذهب الرجال نحو النحافة وتذهب النساء إلى البدانة المرضية.
دائمًا ما يجد بيت الله الصغير في المول من يتبرع لتجديده
وبينما تستطيل لحى العارضين وتتمدد خمارات العارضات، تتمسك بعض المحال بامتياز الاسم الأجنبي، فيما تسعى محال أخرى إلى التناغم بين العارض والبضاعة والزبون فترفع اسمًا ذا نكهة إسلامية، ولا بأس من دعم تتلقاه اللافتة من آية قرآنية تُكتب إلى جانب اسم المحل، سواءً كانت تناسب السياق أو لا تناسبه. على سبيل المثال؛ فالفتاتان اللتان حلمتا بالحجاب واستحيتا أنني اطلعت على حلمهما، هرولتا محرجتين إلى محل عباءات، تحمل لافتته الآية القرآنية "ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله".
التاجر السلفي، إذا استخدمنا لغة من يصفه من الخارج، أو الملتزم، بتسميته هو لنفسه، يحل محل تاجر سابق، يرث عنه رفوف العرض والديكور والاكسسوارات التي قد لا يجد وقتًا أو أهمية لتغييرها؛ فتبقى بعض مانيكانات العرض البلاستيكية بأجساد نسائية مثيرة.
تحولات الصوت ليست بأقل من الصورة. ينحسر صوت الغناء وصخب عربات التصادم وحلبة الجليد، وتتمدد التلاوة، ودائمًا هي تلاوة الترتيل الصارمة. لا مكان لموسيقى مدرسة التجويد المصرية في المولات المحتضرة.
تتواصل التلاوة وينتعش المسجد. ودون أن يتغير مكان صالة الصلاة يصبح حضورها مركزيًا وواضحًا بخلاف وضعها في العصر الذهبي للمول؛ ففي ظل قلة الزائرين يجد الباعة الوقت الكافي للصلاة. ويبدو المسجد بفرشه أكثر شبابًا من المحال ومن المصلين أنفسهم. دائمًا ما يجد بيت الله الصغير في المول من يتبرع لتجديده؛ إذ يتبرع التاجر على سبيل الشكر إن ازدهرت تجارته وعلى سبيل الرجاء إن تعثرت. لنتذكر أننا لم نعثر إلا على القليل جدًا من قصور الفراعنة التي كانوا يبنونها بخامة الطين الفانية، بعكس المعبد والمقبرة.
كان الجيل الأول من المولات هو المضمر لدى محمود الورداني في النوفيلا الفنتازية البديعة "موسيقى المول" التي نشرتها دار ميريت عام 2014، والتي تعد هجائية فنية لتسليع الإنسان. كتب الورداني في ذلك الوقت عن حياة المول، لا عن موته.
حراك الثروة
والعزاء أن موت المولات ليس ظاهرة مصرية خاصة، بل عالمية. وقد صار اسم "المولات الميتة" معتمدًا للإشارة إلى المولات المهجورة في أمريكا. تموت المولات في كل مكان، لأن موتها يكمن أساسًا في بنية الرأسمالية الاستهلاكية، التي تتميز بالاستعراض والحراك الاقتصادي السريع الذي لا يجعل موجة من الرأسماليين تستقر على القمة؛ إذ سريعًا ما تولد موجة جديدة أكثر غنى، إما بسبب مولد نشاط اقتصادي جديد أعلى ربحًا في دول المركز، أو بسبب تحول مراكز السلطة وتعاظم مستويات الفساد في دول الأطراف التابعة.
حراك المولات في مصر جزء من الحراك العمراني في دول الأطراف، الذي يصل حد المطاردة العمرانية، تبعًا لحراك الثروة الذي يصل إلى حد اللهاث، بالإضافة إلى غياب آليات الاستدامة في صيانة المباني ونظافة شوارعها وعدم استقرار نظام التراخيص، وكل هذه أسباب جعلت تغيير البيت والحي هوسًا مصريًّا. بمجرد الحصول على ترقية مالية يبدأ الهروب إلى حي أحدث.
وفي ظل تعدد مصادر الثروة، من الفساد والمضاربة والتجارة ومرتبات التكنوقراط والسفر للخارج، صار من المستحيل الحفاظ على النقاء الطبقي في حي سكني أو كومباوند ساحلي أو مول تجاري. تتغير التركيبة السكانية بسرعة، نحو غلبة تركيبة معينة، تدفع تركيبة أخرى للرحيل. دون أمل في تحقيق حلم التناغم الاجتماعي المستحيل؛ فإلى جانب الأمراض الاقتصادية أو قبل هذه الأمراض يقف غياب التعليم الموحد عائقًا أمام اتفاق المصريين على حد أدنى من قواعد العيش.
كانت مدينة نصر بمثابة "تجمع" حقبة سابقة عندما نشأت بقرار من عبد الناصر
قيام وتدهور المولات يرتكز على الأسباب ذاتها لقيام وتدهور المجمعات السكنية. ورغم الفخامة واتساع الفضاء في الموجة الأحدث من المولات إلا أن كثيرًا من محالها يغلق أبوابه ويتغير نشاطه، خصوصًا توكيلات ماركات الملابس العالمية الموجهة لزبون يتسوق بسهولة من خارج مصر. وربما تكون المطاعم هي الأكثر ثباتًا، لأن رواد الترفيه أكثر من رواد التسوق في هذه المجمعات التي تتمتع مطاعمها بإطلالات جيدة.
وفي كل الأحوال، لا يعيش أي مول الحياة التي رُسمت له بسبب تحولات المجتمع والسلطة، ولا يمكن تحقيق "نقاء الزبون" لأن الميكروباص موجود دائمًا، وسينقل المواطن المشار إليه بـ"العادي" أو "الفقير" إلى "كايرو فستيفال سيتي" يحمل معه طعامه ويجلس في المدرج أمام النافورة يستمتع بموسيقاها وألوان مائها الراقص.
الميكروباصات نفسها التي كانت تحمل متنزهي المطرية وعين شمس إلى مدينة نصر صارت تتجاوزها إلى التجمع. كانت مدينة نصر بمثابة "تجمع" حقبة سابقة، عندما نشأت مدينة نصر بقرار من عبدالناصر عام 1959.
كانت لها طبيعة الطوق الغني الجديد، من حيث المساحات الخضراء والشوارع الفسيحة وارتفاعات البناء المحدودة، ثم كان إغماض العين عن اشتراطات البناء فيها منذ منتصف الثمانينيات، وإهمال نظافتها ثم اغتيال أشجارها وحدائقها في السنوات القليلة الماضية.
الحدائق الداخلية التي نجت من غزو محطات البنزين والغاز والمقاهي تتعرض للتقليم الجائر بطلب من السكان حتى لا تخفي العشاق، أو تنضرب حولها الأسوار الحديدية فتغلق في وجوه المتنزهين. لكن الأسوار لا تمنع أكياس البلاستيك الطائرة من الهبوط في الحديقة لتفترش الأرض تحت الأشجار الحبيسة، وفوق كل هذا موسيقى الباعة الجائلين بميكروفوناتهم كأنما عمدًا.
ضوضاء من الصباح الباكر إلى الليل، من جامعي الروبابيكيا إلى جامعي الزيت المستعمل، مرورًا بباعة منظفات المصانع السرية والبطيخ وسجق تحيا مصر. كل ذلك جعل مدينة نصر شيئًا من الماضي، وجعل مولاته تحتال من أجل الحفاظ على شيء من الحياة.
احتار السراج مول فيما يبيع في عصر اضمحلاله حتى وجد ضالته في تجارة الاكسسوارات الإلكترونية. معظم محاله تبيع هذه الأشياء، رغم أن "تكنولوجي مول" المتخصص فيها يلاصق السراج. وأصبح من المضحك أن تقصد أحدهما فتجد نفسك في الآخر، دون أن تنتبه إلى خطئك، ودون أن تضلَّ حاجتك كذلك.