أمام مجمع التحرير الذي أصبح مشروع فندق مملوكًا لصندوق مصر السيادي، عادت المقاعد الخشبية لاستضافة "الكابلز" والأصدقاء، تتقاطع معها أسطوانة معدنية عملاقة بيضاء اللون تفترش الأرض بلا هدف، وكأنَّ أحدهم عجز عن التخلص منها فأبقاها هنا في انتظار قرار ما، بإعدامها أو إعادة تدويرها.
إنها سارية علم مصر التي كانت تتوسط ميدان التحرير منذ يناير/كانون الثاني 2015 وحتى أكتوبر/تشرين الأول 2019، كان طولها 20 مترًا. في البداية كانت مثبتة بقوائم معدنية في منتصف القرص العشبي بالميدان، ثم أقيمت لها قاعدة حجرية بسيطة أكسبتها ارتفاعًا إضافيًا. آنذاك اعتبر محافظ القاهرة جلال السعيد وضع علم مصر على سارية طويلة في قلب ميدان مليونيات 25 يناير و30 يونيو أمرًا إيجابيًا "يوحد الناس ويجعلهم يشعرون بالوطنية".
بدأت بهذه السارية، التي غدت خردة مهملة، محاولات حثيثة لم تتوقف بعد، لتغيير المشهد البصري للقاهرة.
فبين عامي 2020 و2021، أُعيِد تشكيل ميدان التحرير بالكامل لتتضاءل قدرته على استيعاب المتسكعين، ويودع قلبه الأخضر الذي كان يومًا ما مقصد التجمعات العائلية البسيطة في الليالي الحارة.
وُضعِت في منتصفه مسلة قصيرة على قاعدة حجرية تحيط بها أربعة كباش نُقلِت من معبد الكرنك. إنه تكوين فرعوني جديد على ميادين القاهرة الخديوية، لكنه بدا وكأنه نُفّذ على عجالة ودون تخطيط كاف، إذ افتقر إلى عنصر الأصالة، بتشابهه الكبير مع تصميم بياتزا ديل بوبولو (ميدان الشعب) في روما، كما اتسمت مواد "تشطيب" القاعدة بالرداءة، وظهر هذا بوضوح بعدما تقرر إضافة "شلال حائطي" لم يمثل أي إضافة جمالية أو ثقافية.
بقيت الرداءة، مع التقليد وسوء التوظيف، عيوبًا لا تنفصل عن أغلب المستجدات المعمارية والفنية التي قصدت بها الحكومة بأجهزتها المختلفة "إعادة رسم الهوية البصرية" للقاهرة، بشوارعها ونيلها ومرافقها، ومن خلف تلك العيوب تطل مسببات أخرى خطيرة منها السعي المحموم "لأخذ اللقطة" وإسناد الأعمال للمنتحلين وغير المتخصصين، وغياب المعايير العلمية والذائقة الفنية السليمة. والأهم أنَّ لا أحد يراقب، ولا المخطئ يُحاسَب كما ينبغي.
لماذا حوكمت غادة والي وحدها؟
نهاية يناير الماضي قضت المحكمة الاقتصادية بمعاقبة الفنانة التشكيلية غادة والي بالحبس 6 أشهر وكفالة 10 آلاف جنيه وتغريمها على التصميمات الجدارية لمترو كلية البنات بعد ثبوت سرقتها من لوحات الفنان الروسي جورجي كوراسوف.
وتروي حيثيات الحكم أنَّ النيابة العامة حركت الاتهام ضد غادة والي بعدما تقدم وزير النقل كامل الوزير بعريضة أشار فيها إلى "صدور تكليف من رئيس الجمهورية بالتنسيق مع الجهات المختصة بإحالة الواقعة إلى النيابة العامة". أي أن المحاسبة بدأت بقرار سيادي من الرئيس السيسي شخصيًا، وذلك بالطبع بعدما اكتظت السوشيال ميديا بالتندر على السرقة الفنية الواضحة.
وتخبرنا شهادات المسؤولين بأنَّ الهيئة القومية للأنفاق تعاقدت مع شركة فرنسية لإدارة وتشغيل وصيانة الخط الثالث بمترو الأنفاق، التي تعاقدت بدورها مع غادة والي "وتكليفها بالترويج للثقافة والفنون المصرية في محطات المترو".
هكذا ببساطة اقتصرت المحاسبة على غادة والي، التي لم نعرف كيف أُوكِل إليها الأمر وعلى أي أساس.
التفكير الكسول يَهدي إلى إجابة مريحة: إنه تعاقد خاص بين الشركة الملتزمة والفنانة و"مالناش دعوة". لكن بقليل من الضمير، لا يمكن قبول غياب الشروط والمعايير المالية والفنية التي تضمن حسن إدارة مرفق عام كالمترو، وأخصها أن تكون "هويته البصرية" معبرة عن العاصمة، متفردة إبداعيًا وفي الحد الأدنى جيدة الصنع.
وبالتالي، فهناك شخص ما في موقع ما بمسؤوليات ما، لم يبذل العناية الواجبة للتأكد من عدم وقوع مثل هذه الفضيحة الفنية.
وفي تكرار غريب لقصة غادة والي، اكتشف منذ أيام شاب على فيسبوك يدعى Aozeid تطابق شعار "الهوية البصرية" الجديدة لمحافظة القاهرة الذي طُبع على عشرات المباني المطلة على الطريق الدائري مع شعار جمعية زراعية إيطالية، لتتبرأ محافظة القاهرة بعد ساعات من التصميمات وتعلن أنها مسؤولية جامعتي عين شمس والقاهرة، ثم خرجت وزارة التعليم العالي بإعلان "إزالة الرسوم" بحجة أنها كانت "على سبيل التجربة".
هذه المرة جرى احتواء الفضيحة سريعًا بالإزالة، ولم تُتح الفرصة لأخذ ورد كما حدث مع غادة والي. لكن أيضًا لم يُحاسب أحد، على الأقل علنًا.
السرقة من أقدم صور الضعف الإنساني، ولا يخلو بلد من "حرامية الإبداع"، ومن أجل ذلك تطورت آليات الرقابة والمحاسبة واستحدثت البيروقراطية كراسات الشروط، التي يجب أن تُعد بعناية تخصصية.
ربما في الخفاء سيتم التنكيل بالسارق لأنه بحكم التراتبية العنصر الأضعف، لكن ماذا عن المشرفين الذين أجازوا الرسم ولم يبذلوا العناية الواجبة للتأكد من سلامته، ولم يضعوا ابتداءً معايير فنية تضمن الجودة والكفاءة؟ وماذا عن هؤلاء الذين ادعوا أن الرسوم كانت "تجريبية"؟!
هذه الرسوم لم تكن وليدة لحظة كشف السرقة الفنية، بل نُفِّذَت وأُعلن عنها بفخر في أغسطس/آب الماضي "في إطار توجيهات رئيس الوزراء بتطوير الهوية البصرية للطرق المؤدية إلى المتحف المصري الكبير"، وبقيت قائمة لنحو ثمانية أشهر مما ينسف رواية "التجريب"، ولو أنَّ أحدًا نبه المصممين الإيطاليين لكانت قضية غادة والي تكررت ضد المحافظة أو إحدى الجامعات الحكومية "لكن الله سلّم".
ثم يأتي دور الرداءة..
ولأنَّ "أخذ اللقطة" أهم كثيرًا من "الجودة"، فلا يعني المسؤولين التفكر قليلًا في معنى لفظ "الهوية البصرية" الذي تلوكه الألسن بلا انقطاع، غالبًا لأنه مرتبط بأنماط التسويق الجديدة، ولتذهب إلى الجحيم "الهوية البصرية" الحقيقية للعاصمة التي يظللها جلال المآذن ويقبع في كل شبر منها جمالٌ متفرد.. حتى أن "قرافتها"، التي ترزح تحت معاول الإزالة، تلفظ من الكنوز التراثية ما تنوء باستيعابه قاعات المتاحف.
رأينا في مشروع الهوية البصرية خطوطًا مجردةً يمكن أن تعبر عن ملايين الأشياء، وبعد إزالتها وُضعت أشكال هندسية طفولية تفتقر لأبسط معايير التفرد.
رأينا أيضًا كلمة "القاهرة" مكتوبة بخط عجيب متكلف، بدعوى إمكانية قراءته من اليمين بالعربية ومن اليسار بالإنجليزية. ربما كانت هذه "موضة" منذ عشرين عامًا، لكنَّ الرداءة المفرطة أنتجت تكوينًا خطيًا مُربكًا لا يُقرأ بشكل صحيح من أي اتجاه.
وتكرر الأمر نفسه في مشروع "الهوية البصرية" لمحافظة الجيزة.. كُتبت الجيزة أيضًا بخط غريب لتُقرأ من اليمين واليسار فبدت وكأنها حروف لغة مجهولة أو إشارات صوتية. يزيد الأمر غرابة عندما ترى صورة رأس نفرتيتي الموجودة في برلين على إحدى اللافتات التي وُضعت على مباني الدائري بالجيزة "للترويج للمتحف المصري الكبير"! أليس فيكم من يراجِع؟
اللافت أن كل هذا الجهد "المُتغنى به" لوضع لافتات على مباني الدائري، سببه أنها تُركت في حالة يُرثى لها بعد أعمال الإزالة الجزئية لمئات العقارات لتوسيع الطريق، وكان من الأفضل للجميع، الحكومة وأصحاب العقارات والمارة المساكين، أن تُجرى أعمال تجميلية بسيطة عقب الإزالة مباشرة على نفقة الجهة صاحبة المشروع لتحسين المظهر العام، بدلًا من مناظر الغرف والحمامات المزالة المفعمة بالأسى.
وإذا عدنا إلى وسط العاصمة "القديمة"، تُطالعنا مؤشرات غير مريحة لما سيصبح عليه الشكل النهائي لمشروع ممشى أهل مصر، الذي من المفترض أن يكون جزءًا من "الهوية البصرية" الجديدة لمناطق قصر النيل وماسبيرو والزمالك، لا سيما وأنه سيجاور مشروعات سياحية عملاقة كبرجي نايلوس اللذين سيقامان في أرض الحزب الوطني المنحل، بالشراكة بين الصندوق السيادي وشركة إماراتية.
هذا الممشى غزته الدكاكين المكعبة لبيع الأطعمة والمشروبات، التي كنا نتصور في البداية أنها ستظل كامنة في محطات الوقود وتحت الكباري كنوع من النشاط الاقتصادي المصاحب لتلك المشروعات، فإذا بها تنتشر في الشوارع والحدائق وتغير معالم مناطق مميزة كالزمالك والدقي ومحيط قصر عابدين.
هل من منقذ للنسيج البصري؟
تُعرّف الهوية البصرية في المجال الإعلاني بأنها "مجموعة من الأنماط المرئية والعناصر الشكلية تمثل علامة تجارية أو واجهة مميزة لكيان معين". لكنَّ العواصم والمدن الكبرى لا تبحث عن هوية، فهويتها هي حصيلة إرثها الحضاري وتتعلق تضاريسها الطبيعية ومعالمها، بالروح المتفردة التي تخاطب السكان الأصليين والسائحين بلسان واحد يتعدى تباين اللغات.
ولمّا تتهاوى تلك الروح المتفردة، يتسلل الشعور بالغربة والضيق إلى أبناء المدينة ويبدأ الأغراب في التساؤل "ماذا حدث؟ ليست هذه مدينتكم التي عرفناها وأحببناها يومًا" فالقبح لا يمتع الأبصار حتى وإن تعودته.
وعندما أسست الدولة الجهاز القومي للتنسيق الحضاري عام 2001 كان هناك وعيٌ بضرورة الحفاظ على تلك الروح وتنميتها على مستوى الجمهورية وليس في القاهرة الكبرى فقط، فنصت المادة الثانية من قرار إنشائه على "تحقيق القيم الجمالية للشكل الخارجي للأبنية والفراغات العمرانية والأثرية، وأسس النسيج البصري للمدينة والقرية وكافة المناطق الحضارية بالدولة بما في ذلك المجتمعات العمرانية الجديدة".
وعلى الرغم من نسبية "الجمال"، فقد كان يجب أن يضطلع الجهاز بدوره في "إعادة صياغة الرؤية الجمالية والعمل على إزالة التشوهات، وإعادة صياغة الميادين العامة وفقًا لرؤية معمارية وبصرية تتفق مع الطابع المميز لكل منطقة، والحفاظ على الشكل القديم الأصلي للميادين والمنشآت التي تمثل طابعًا معماريًا متميزًا"، وذلك كله بناء على رؤى علمية وهندسية وفنية تستند إلى الخبرات والذائقة السليمة، لم تعدمها مصر الكبيرة، لكنها أُهملت وتوارت.
وبعدما نال النسيجَ البصري للقاهرة الكبرى تشوهٌ يصعب تداركه، يجب أن نسأل عن سبب غياب دور الجهاز الذي لا تصلنا من أنشطته إلا مشروع "عاش هنا" وبضعة معارض وندوات، وعن ظروف غياب الرؤية المتخصصة للحفاظ على النسيج البصري وفرص إنقاذه من التقليد والرداءة وسوء التوظيف، قبل الهرولة إلى تطوير مزعوم.. فقط من أجل "اللَّقطة".