لا يعني التطوير بالضرورة التخلص من كل قديم نافع، لا يمكن تعويضه أبدًا، بل إن الإقدام على هذا يكون في بعض الأحيان تدميرًا قاسيًا للهوية، ومعها المصلحة العامة، لا سيما إن اقترن هذا بإلحاق أذى مباشر بالسكان.
لهذا لا يقتنع عاقل بأن ما يسمى تطوير القاهرة منذ الطولونيين وحتى أسرة محمد علي، يتطلب بالضرورة هدم كل أثر لافت، واغتيال كل معلم بارز يمثل جزءًا أصيلًا من تاريخ بلادنا، يدل على عراقتها وبهاء حضارتها.
وأتساءل في هذا المقام، لماذا لم تسندوا الأمر إلى عارف بالتنسيق الحضاري، وهندسة المدن، مخلص مبدع منتم إلى مصر، يتعامل مع هذا التطوير المزعوم بمشرط جراح، لا بمعول مقاول جهول، فيُبقي على الآثار التي لا يمكن استرجاعها، وسط التطوير المزعوم، بل ويوظفها كعنصر جاذب لا يمكن تقليده؟
وقعنا في عصر الظلمات وعاد الهدم عبر قوة السلطة التي لا تنصت لأحد
إن الدول الأحدث منا بكثير في الدنيا، تنقل أحياءً، بل قرىً كاملةً على هيئتها إلى أماكن أخرى، حتى لا تفقد تاريخها، إن كانت في حاجة إلى المكان الذي أقيمت عليه.
إن كانت هذه الأماكن في أيديكم، فلم تفعلون هذا؟ وإن كنتم قد بعتموها، كما جرت العادة، فلماذا لم تشترطوا في عقود البيع بقاء الآثار والمعالم البارزة على حالها، وترميم ما يحتاج منها إلى ذلك؟ أم أنكم تضحون بالتاريخ في سبيل حفنة دولارات ستتبدد بسرعة البرق؟
هل المطلوب هو تصغير القاهرة، وتصغيرها، ثم تصغيرها ليصبح عمرها عشر سنوات فقط؟ أليس هذا شيئًا مؤسفًا ومحزنًا ومضحكًا في الوقت نفسه؟ والأهم: هل هناك بديل لما تقدم عليه السلطة من تدخل بارح وجارح ضد هوية القاهرة وتاريخها؟
تآكل مستمر
رحت ألتمس الإجابة على هذه الأسئلة، التي أراها مهمة، فيما جادت علينا به حملة انطلقت تحت عنوان عمارة البلد: هوية لا تستحق الهدم، وعقدت ندوة قبل أيام تحت عنوان تراث المدينة نظمها موقع باب مصر، الذي يرأس تحريره الكاتب محمد شعير، بمبنى قنصلية بالقاهرة، وفيها بث الحاضرون أوجاعهم على ما آل إليه حال القاهرة، وتوجعوا أكثر لعجزهم عن وقف هذا "التآكل المستمر" لتراث المدينة، ثم قدموا، من واقع خبرتهم، حلولًا للمشكلة التي نحن بصددها.
تتحسر دكتورة جليلة القاضي أستاذة التخطيط العمراني بجامعة باريس، والمشغولة طوال الوقت بمقارنة القاهرة بالعاصمة الفرنسية، على العصر الذهبي للحفاظ على تراث وسط البلد، وهو في رأيها يقع بين زلزال 1992 وحتى اندلاع ثورة 2011، وترانا قد وقعنا في "عصر الظلمات"، إذ عادت الفوضى عبر الباعة الجائلين، وعاد الهدم عبر قوة السلطة التي لا تنصت لأحد.
ويشكو عباس الزعفراني عميد كلية التخطيط العمراني الأسبق، من أصوات زاعقة ناعقة، تدعو إلى استبدال أنماط معمارية جديدة بالمباني التراثية، وأخرى لا ترى غضاضة في الإتيان على المناطق الخضراء، ثم يقول "عندما طرح مشروع القاهرة 2050 صدمت لأنني عرفت أن غرض المشروع هو إزالة الجبانات والمقابر غير المسجلة في الآثار، وتحويل أجزاء منها لفراغات عامة ومحاور مرورية".
البيروقراطية المصرية المعنية بالآثار حريصة على إرضاء من بيدهم القرار على حساب تراث المدن
وبث دكتور مصطفى الصادق المهتم بتاريخ وتوثيق الجبانات مرارة الشكوى بسبب حرمان المختصين من أي فرصة لتوثيق الجبانات وتسجيلها آثارًا، بل منع من حاولوا هذا، رغم أن قانون الآثار لعام 1983 يجيز تسجيل الرفات البشرية، ويقول في أسى "خسرنا العديد من المقابر المهمة مثل مقبرة عالم الآثار علي بك بهجت، وإحسان عبد القدوس، وجبانات المجاورين، وباب الوزير، وسيدي جلال، وسيدي عمر، والطحاوية، والسيدة نفيسة، والإمام الشافعي! .. تمت تسوية مقابر وأحواش ذات طرز معمارية مميزة في الفترة الأخيرة بالأرض".
أما الدكتورة أمينة عبد البر، المهندسة المعمارية، فتشكو من تعقد عملية الحفاظ على التراث المسجل، في ظل اقتصار هذا على المنح الدولية، وغياب دور قوي وخلاق للمجتمع المدني. وشاركتها هذا الصنف من الهموم دكتورة دوريس أبو سيف، أستاذة كرسي الفنون الإسلامية بكلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، حين قالت "أتابع اليوم ما يجري داخل مدينة القاهرة، وأشاهدها وهي تتآكل، وتضيع معالمها بشكل متسارع".
ويلتقط دكتور محمد حمزة الحداد، العميد السابق لكلية الآثار بجامعة القاهرة، وأحد أبرز المدافعين عن تراث مدينة القاهرة، وجهًا آخر للمأساة، يتعلق بالبيروقراطية المصرية المعنية بالآثار، التي يشغلها أكثر إدارة الصراعات، وتصفية الحسابات، بين كبار مسؤوليها، والأدهى والأمر هو حرصهم الشديد على إرضاء من بيدهم القرار، على حساب تراث المدن، فلا يصدون ولا يردون أي جامح أو طامع لا ينشغل من هذا التراث سوى بثمن الأرض التي ستنجم عن هدمه، بل يجارونه في سبيل الاحتفاظ بمواقعهم ومناصبهم ومنافعهم، ثم ينخرطون، بكل تفان، في تبرير هذا العبث.
وهنا يعلق الحداد الجرس في رقبة القط قائلًا "وزارة الآثار هي من تعطي الموافقات بالهدم، لأن قانون المنفعة العامة ينص على ضرورة استشارتها، ولها المسؤولية الكاملة في الحكم على أثرية موقع ما من عدمه قبل هدمه، لكنها توافق على الهدم بدعوى أنها مناطق غير مسجلة! وهذا تضليل واضح وصريح".
ثم يضرب الرجل مثلًا صارخًا على هذا، فيقول "أنا من طالبت بتشكيل لجنة تسجيل القرافات، لكن اللجنة لم تُفَعَّل. لم تجتمع أصلًا، بحجج وتأجيلات مثل أن الأوضاع الداخلية لا تسمح بدراسة المنطقة على الأرض، فضلًا عن حجة عدم توفر الميزانية. وعندما جاء خالد العناني لوزارة الآثار دُفن القرار، وجرى استبعادي من مجلس إدارة اللجنة عن عمد".
حلول بديلة
لم يكتف المحاضرون في هذه الندوة المهمة جدًا، لا سيما في الوقت الراهن، بترديد الشكوى، ولا تصدير الحزن لمن جلسوا ينصتون إليهم، إنما طرحوا حلولًا، أتمنى أن تجد من ينصت إليها، ويهتدي بها، إن كانت السلطة تروم إصلاحًا، أو تنحاز إلى المصلحة العامة، ولا تتصرف على أنها مجرد مقاول هدم، أو سمسار أراضٍ.
فجليلة القاضي، التي تريد تنشئة جيل يعرف تراثه ويدافع عنه، وتطلب رأيًا عامًا يعي أن احتفاظ القاهرة بهويتها الحضارية ضرورة ملحة، تنادي بترميم المباني القديمة واستخدامها، وتحسين الفراغ العام داخل القاهرة من خلال إنشاء محاور للحركة، وتشجيع الناس على التنقل والحركة باستخدام الدراجات صديقة البيئة، وتعول على دور للمجتمع المدني في رصد المخالفات والاعتداءات على التراث كافة.
استخدام المباني التراثية القديمة كمطاعم ومقاهٍ جاذبة للسكان المحليين والأجانب
وتشاطر دوريس زميلتها جليلة الرأي في صناعة الجيل الواعي بالتراث، ولذا تنصح الباحثين، المهتمين بمدينة القاهرة بالاطلاع على ما يتم إنتاجه في العالم من دراسات حول العمران والحضارة والتراث، وهو أمر لا يقتصر، في نظرها، على الدراسات التي يتم إعدادها ونشرها في أوروبا وأمريكا، بل في الصين واليابان وآسيا أيضًا.
فيما يطالب الزعفراني باستخدام المياه الجوفية الموجودة داخل منطقة الجبانات في ري الأشجار وزيادة جمال المنطقة، ويرى أن زيادة عدد الأشجار وسيلة لحل مشكلة "تخفيف أحمال الكهرباء" أو الحد من ظاهرة الجزر الحرارية، ويقول "فاتورة الكهرباء يمكن أن تنخفض بمعدل يتراوح بين 50 إلى 100 جنيه شهريًا إذا وُجِدَ الشجر أمام العمارات، على ألا يكون شجرًا مثمرًا، لأن وجوده داخل العمران يعرض الثمار للتلوث بسبب انتشار عوادم السيارات".
وترى أمينة عبد البر أنه من المفيد جدًا استخدام المباني التراثية القديمة، كما يجري في بلدان أخرى مثل المغرب التي تستغلها كمطاعم ومقاهٍ جاذبة للسكان المحليين والأجانب، اتكاءً على قيمتها التاريخية المضاعفة، وتعول على أن مثل هذا الإجراء سيدر عائدًا، مع الزمن، أكبر بكثير من أثمان الأرض، وسيحافظ في الوقت نفسه على هوية القاهرة.
أما الحداد فينادي بسن قانون جديد موحد للآثار والتراث، مع تبعية هذا القانون لجهة إدارية واحدة كي يسهل محاسبتها، وكذلك إدخال تعديلات على قانون المنفعة العامة، وإضافة مادة واضحة لا لبس فيها تقول إنه عندما تتعارض المنفعة العامة مع التراث يجب البحث عن بدائل وحلول مبتكرة لا علاقة لها بالموقع الأثري.
بعد هذا يتم تسجيل كل المواقع المهملة أو المنسي تسجيلها في منطقة الجبانات، خاصة أنها مُسجلة على لائحة التراث العالمي، ثم إلزام وزارة الآثار بتحمل مسؤولية الترميم، دون تذرع بنقص الميزانيات. وهنا يجب أيضًا التراجع عن مشروعات "إعادة الاستخدام الفجة للمواقع الأثرية"، وعرضها على لجان علمية متخصصة لوضع دراسات ورؤى حقيقية حول الطريقة الأمثل لاستخدامها.
وهنا لا بد أن يكون للصحافة، إلى جانب المجتمع المدني والمثقفين، دور ملموس، عطفًا على ما قامت به في سبعينيات القرن العشرين، حين تصدت لتبني محافظة القاهرة هدم الجبانات وشق مسارات وطرق جديدة كوسيلة لتخفيف تكدس المدينة، فأيامها انبرت الصحافة رافضة لهذا الحل، ما شجع اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية على أن ترفض أيضًا.
إن الحفاظ على هوية القاهرة أصبح قضية ملحة، يجب أن تصرخ بها الحناجر، وتخرج لها الأقلام من أغمادها، وتشرع لها السواعد، كي لا نراها تتآكل أمامنا، فنستيقظ ذات يوم على فجيعة تسقط على رؤوسنا جميعًا كأحجار مسنونة، ووقتها لن ينفع ندمنا على تاريخ تم نزعه في تعسف وتجبر من عاصمة بلادنا.