هنا سوق الإمام، حيث يمكنك شراء تراكيب مقبرة حسين بك شاهين مقابل 1500 جنيه شامل التوصيل حتى باب المنزل، أما إذا كنت ترغب في اقتناء جزء من سبيل حسن حسبي معتوق محمد علي باشا فسعره يصل إلى 5000 جنيه.
حسين بك شاهين هو والد زوجة أمير الشعراء أحمد شوقي، وكان مدفونًا في الحوش نفسه المدفون به شوقي، إلا أن مجهولين اقتحموه، الشهر الماضي، واعتدوا على المقابر الموجودة به، دون المساس بقبر شوقي.
أما حسن أفندي حسبي الچركسي معتوق محمد علي باشا والي مصر، فسبيله مؤرخ بسنة 1297 هجرية أي 1880 ميلادية، في بدايات عهد الخديو محمد توفيق باشا.
وتعرضت مقابر تاريخية عدة للهدم، في سياق تنفيذ محاور وطرق جديدة بمنطقة الإمام والسيدة نفسية، وسط اعتراضات من آثاريين ومهتمين بالتراث. وردًا على تلك الانتقادات أعلنت رئاسة الجمهورية في 12 يونيو/حزيران الماضي تشكيل لجنة لتقييم الموقف بشأن نقل المقابر، وتحديد كيفية التعامل مع حالات الضرورة التي أفضت إلى مخطط التطوير.
لم تستطع اللجنة المشكلة بقرار رئاسي إيقاف الهدم، الأمر الذي دفع عدد من أعضائها للانسحاب الشهر الماضي، اعتراضًا على تجاهل توصياتهم بالاهتمام بالمقابر وحل مشكلة المياه الجوفية وتحويل المنطقة لمزار سياحي.
وبينما يسعى متطوعون لإنقاذ المقابر التاريخية، وما تضمه من طرز معمارية مميزة بالإمام الشافعي، تنشط مجموعات أخرى لسرقة الشواهد والتراكيب النادرة إما لتسفيرها إلى الخارج، أو بيعها علانيةً في محلات الانتيكات.
وبحسب مهتمين بالحفاظ على المقابر التاريخية بالإمام، فاللصوص يبحثون عن المقابر التي يبدو من هيئتها أنها تحتوي شواهد ذات زخارف ونقوش متميزة وعتيقة.
وقال الباحث الآثاري مصطفى الصادق لـ المنصة إن "السارق لا يفرق معه من يسكن هذا القبر، وإنما يفكر فقط في المقابل المادي". وأضاف الصادق "رصدنا سرقات كثيرة من مقابر تاريخية".
بينما قال باحث آثاري، طلب عدم ذكر اسمه، إن سرقة المقابر لا تتم إلا عن طريق عصابات تعرف قيمة ما تسرق، "مش منطقي حرامي يروح يسرق شباك نحاسي معين ويسيب باقي الشبابيك.. دا واحد عارف بيعمل إيه أو على الأقل حد قاله يسرق إيه بالظبط".
وأضاف الباحث "مثلًا عندما تم اقتحام وسرقة مقبرة أحمد شوقي لاحظنا سرقة المقبرتين الملاصقتين لمقبرة شوقي، بينما تم ترك شاهد قبر أمير الشعراء وحده.. فهل هذا منطقي؟"، وتابع "إما الحرامي مثقف وعارف أن دا قبر أمير الشعراء أو هناك من قال له اترك هذا القبر تحديدًا".
وأضاف الباحث "الأزمة الأكبر هي أن الشواهد والمقابر ملكية خاصة رغم أنها تاريخية، بالتالي لا توجد جهة رسمية نستطيع محاسبتها على أعمال السرقة".
من المسؤول؟
المسؤولية عن المقابر تتداخل بين جهات كثيرة؛ محافظة القاهرة ووزارات الآثار والأوقاف والإسكان والثقافة. هنا، ينكر المتحدث الإعلامي لوزارة الأوقاف عبد الله حسن، مسؤولية الوزارة عن حماية الجبانات. ويوضح لـ المنصة أن "اللجنة العليا للآثار شاركت في الإشراف على نقل الشواهد والتركيبات المسجلة بالأوقاف، ولا بد من الرجوع إليها، بجانب المجلس الأعلى للآثار؛ لمواجهة سرقة الشواهد التراثية".
لكن عزة عتريس، مديرة الإعلام في محافظة القاهرة، رأت أن سرقة الشواهد والتركبيات "أمر تُسأل عنه وزارة الأوقاف، ﻷنها عهدة الوزارة"، وفي الوقت الذي برأت فيه المحافظة بوصفها "جهة تنفيذية ومسؤولة على تطوير القاهرة التاريخية". وأكدت "لا نُسأل عن السرقة، إنما عن التطوير ليس أكثر من ذلك".
بينما حاولت المنصة التواصل مع رئيس جهاز التنسيق الحضاري بوزارة الثقافة المهندس محمد أبو سعدة هاتفيًا وعن طريق الواتساب لكنه لم يرد.
وحول مسؤولية حماية الجبانات التاريخية، قال مسؤول آثار بمنطقة الإمام الشافعي لـ المنصة، فضل إخفاء هويته، إن كل المسروقات مسجلة بالأوقاف، ويوجد سجل كامل بها، ولا بد من محاسبة مسؤول الوقف التابع للوزارة، رافضًا إلقاء اللوم على المجلس الأعلى للآثار.
تسعيرة لكل قطعة
المنصة زارت سوق الإمام الشافعي، حيث يعرض الحاج سيد، أشهر تجار الأنتيكات، تركيبات وشواهد لمقابر أمراء وشعراء، كأنك أمام "مغارة علي بابا".
يضع الحاج سيد تسعيرة لكل قطعة، فالتركيبة الكبيرة بـ5000 جنيه، والصغيرة بـ2000 جنيه، كما يبيع جزءًا من سبيل حسن حسبي بـ5000 جنيه. ومن المعروضات؛ شاهد قبر زوجة عناني باشا الذي مر عليه 150 عامًا، وشاهد قبر نجل طه الفندق عبد الوهاب، وهو من معاتيق محمد علي، ومر عليه 100 سنة.
"أنا مسؤول الهدد في قرافة الشافعي، وكل أسبوع تيجي لنا تشكيلة جديدة من الشواهد"، قالها الحاج سيد لـ المنصة، موضحًا أن شباك المقابر التراثية النحاس وصل سعره إلى 30 ألف جنيه.
وسط سرقة القبور التاريخية وهدمها خرجت بعض المبادرات المستقلة لتوثيقها
أصبح بيع شواهد المقابر التاريخية رائجًا في سوق الإمام، إذ يقول الحاج سيد إنه كان يتسلم أجزاء جديدة أسبوعيًا، أما بعد بدء هدم المقابر أصبحت تأتي إليه قطعًا جديدة يوميًا، وتجذب المترددين على المحل.
ومن جانبه قال المحامي أحمد جاد، إنه وفقا للقانون لا يوجد جريمة في بيع الشواهد والتركيبات ذات الطابع التراثي بمحلات الأنتيكات، "فلا ينص قانون العقوبات على تجريم ذلك، فالخطأ ليس على من بييع بل على من لم يسجل هذه الأعمال الفنية".
وأشار جاد لـ المنصة إلى أن وفقاً للقانون 117 لسنة 1983 بشأن حماية الآثار وتعديلاته في الباب الثالث للعقوبات، فإنه يعاقب بالسجن المؤبد وبغرامة لا تقل عن مليون جنيه، ولا تزيد على عشرة ملايين جنيه كل من قام بتهريب أثر إلى الخارج، مشددًا على أن هذا يندرج على الأثر فقط، فيتم مصادرة الأثر محل الجريمة ومعاقبة مرتكبها، مضيفًا "لكن الشواهد والتركبيات يتم تهريبها لأنها لم تسجل كأثر، وبالتالي لم تندرج تحت طائلة القانون، فالتقاعس عن تسجيلها وسرقتها قبل التسجيل يجعل تهريبها يتم في إطار قانوني دون ملاحقة، حتى لو مر على الشاهد 100 عام فهو ما زال لا يخضع لقانون حماية الآثار".
ولفت جاد إلى أزمة أخرى، وهي أنه نتيجة عدم تسجيل هذه الشواهد والتركيبات، فلا يحق لمصر المطالبة بعودتها، عند بيعها بالخارج أو حتى الداخل.
"عرض خاص" لـ المنصة
وخلال جولة داخل مقابر الإمام، قال التربي حسين علي إن حراس المقابر "ياخدوا كل ما يقدروا يشيلوه، ويبعوه لتجار الأنتيكات في المنطقة"، وعرض حسين على صحفية المنصة شراء أجزاء متكسرة من تركيبات حسين بك شاهين بسعر مخفض "1500 جنيه بس".
ولم يقتصر بيع الشواهد والتركيبات التراثية على سوق الإمام، بل امتد إلى صفحات فيسبوك، ومنها صفحة تبيع شاهد السيدة زبيدة، عبارة عن عمود ونصف يرجع تاريخه إلى عام 1772، أي يقدر عمره بنحو 250 عامًا، بـ"7 آلاف جنيه، والتوصيل حتى باب المنزل"، كما تعرض تركيبات يتجاوز عمرها الـ200 عام.
اتهامات بتهريب التراكيب
وحول المستفيدين، أكدت أستاذة العمارة والتصميم المساعدة سابقًا في جامعة المستقبل سالي رياض، لـ المنصة أن سرقة التراكيب والشواهد وغيرها من محتويات المقابر زادت خلال الفترة الماضية، و"يتم التعامل مع كلمة إزالة التي توضع على المقابر كأنها إشارة لسرقتها"، و"للأسف هناك اتهامات كثيرة بتهريب هذه الأعمال الفنية إلى الخارج خاصة إلى الخليج".
الإشارة ذاتها ذهب إليها باحث آثاري، طلب عدم ذكر اسمه، "كنا نسمع شكاوي أيضًا في السابق بسرقات تحدث في المقابر التاريخية بمنطقة السيدة نفيسة والإمام لكن الأمر زاد مؤخرًا"، مشيرًا إلى أن "هناك من يكلف الترابية بسرقة محتويات المقابر لتهريبها إلى الخارج".
جهود مستقلة
ووسط سرقة القبور التاريخية وهدمها، خرجت بعض المبادرات المستقلة لتوثيقها، منها مبادرة إنقاذ شواهد مصر، التي وثق رئيسها حسام عبد العظيم سرقة 4 تركيبات كاملة لإبراهيم بك، وشريفة عثمانية، وابن أحمد أغا طوسون دراما.
فيما وثق الباحث مصطفى الصادق سرقة تركيبة أحمد طوسون أغا، بجانب 7 تركيبات تراثية تعود لأسرة حسين باشا شاهين.
في الوقت الذي تستمر فيه الجرافات في الهدم ضمن "مشروع التطوير"، يعمل البعض على المتاجرة بمدافن شيدت قبل مئات السنين وتعد جزءًا أساسيًا في ذاكرة وتاريخ القاهرة، المعروض للبيع علانية على منصات السوشيال ميديا، وهو ما يعتبره عبد العظيم لـ المنصة "كارثة" لما فيه من نهب لتاريخ مصري غير مسجل، وﻷنها ملكية فردية فـ"لن نستطيع استردادها إذا ظهرت فيما بعد في متاحف العالم".