على ضفاف النيل في الأقصر، Egypt -old Cairo paintings، فيسبوك
لوحة على ضفاف النيل بالأقصر 1929
للفنان البولندي آدم ستيكا

"الحمار والسفينة".. كيف مهدت "مصر الفاطمية" الطريق للعالم الحديث

منشور الثلاثاء 10 ديسمبر 2024

يعيد كتاب الحمار والسفينة، الذي صدر باللغة الإنجليزية صيف 2023 لكريس ويكام أستاذ التاريخ في جامعة أوكسفورد، الاعتبار لتاريخ مصر الفاطمية من سنة 950 إلى 1180م، حيث سبقت أوروبا في المسيرة نحو الحداثة.

وبينما يذهب أغلبية المؤرخين إلى أن النهضة في مصر بدأت مع قيام دولة محمد علي، وما قبله كان حقبةً من الظلام، يؤكد ويكام على دور مصر الأساسي في العصر الفاطمي في التمهيد لدخول العالم ثورة التحديث والتصنيع وسلاسل الإنتاج. 

نشأت دولة الفاطميين في المغرب العربي وكان أول من حكم دولتهم المعز لدين الله الفاطمي، وعندما دخلوا مصر على يد القائد جوهر الصقلّي اختاروا القاهرة عاصمة لهم حيث نشروا المذهب الشيعي، واستمروا في الحكم حتى سقطت دولتهم على يد صلاح الدين الأيوبي.

وبينما تركز كتب تاريخ الاقتصاد والتجارة في حوض البحر المتوسط في القرون الوسطى على دور المُدن الإيطالية في قيام ثورة تجارية نهض عليها فيما بعد العالم الحديث، متجاهلين شرق وجنوب المتوسط، يؤكد أستاذ التاريخ في أكسفورد على أهمية دور مصر في هذا العصر: "كانت حيث يذهب كل من له نشاط في الاقتصاد على البحر المتوسط، عاجلًا أو آجلًا. وكانت مهمة للتجارة البحرية أكثر مما كانت تلك التجارة مهمة لها".

الحمار أهم من السفينة.. فمن دون شبكة معقدة للتجارة الداخلية لن نصل لمرحلة السفن المحملة بالبضائع

خصص الكتاب فصلًا كبيرًا عن مصر تحت الحكم الفاطمي باعتبارها "النقطة التي تحكمت في تجارة المتوسط. وبلغت صلابة الإنتاج والطلب الاقتصادي فيها درجة انتفت معها إمكانية نهوض أي شبكات متوسطية من أي نوع دونها. وهي وإن كان فيها حينئذ اقتصاد غير تقليدي على غرار مناطق المتوسط في القرن الحادي عشر، فقد كان اقتصادها هو الأكثر تعقيدًا واستقرارًا".

مهاد الثورة التجارية

غلاف كتاب "الحمار والسفينة"، كريس ويكام

في "الحمار والسفينة - إعادة تفسير اقتصاد المتوسط من سنة 950 إلى سنة 1180"، ينطلق ويكام من فرضية طالما أزعجته، إذ دأب المؤرخون على وصف تلك الفترة بمهاد الثورة التجارية المتوسطية، ووضعوا في قلبها المدن الإيطالية كمحرّك للاقتصاد والتجارة في العالم القديم، واعتبروا السلع الثمينة، من حرير وحديد وأخشاب وعطور وتوابل، موضوعات حصرية للبحث، وبراهين على "أوروباوية" المتوسط في ذلك الوقت.

في المقابل، قلما يتطرق المؤرخون، وفقًا لويكام، لمناطق جنوب المتوسط. وحين يذكرونها يمروّن عليها مرور الكرام.

لم يتوقف الكاتب عند "الاحتفال بالتجارة والتهليل لها"، والصور الرومانسية "لمرافئ فينيسيا وجنوة تئن تحت حمل الحرير والتوابل التي جلبتها السفن من الشرق"، فهذه الصور  ليست الاقتصاد كله، لذا فإن مربط تفسير تاريخ الاقتصاد هو الاقتصاد الإنتاجي في حد ذاته.

من ينتج ومن يبيع ومن يشتري؟

لم يفت على المؤلف الإشادة بكتاب جانيت أبو لغد قبل الهيمنة الأوروبية، الصادر في الثمانينيات، وفيه أوضحت أن "التجارة الأوروبية القروسطية في فترة 1250-1350 كانت جزءًا من شبكات معقدة امتدت من هولندا إلى الصين، ولم تكن هي الشق الأكبر من هذه التجارة العالمية".

الأصل في تقدير ويكام إذن أن الحمار أهم من السفينة؛ النقل الداخلي للمنتجات على ظهور الحمير بين القرى والمدن كعماد للتجارة الداخلية في مصر. فمن دون شبكة معقدة للتجارة الداخلية، وراءها اقتصاد على درجة عالية من التخصص، لن نصل لمرحلة السفن المحملة بالبضائع.

"أسعى لتكوين صورة عن حركة اقتصادات التبادل المتوسطية وكيف تغيرت وترابطت خلال الفترة التي يغطيها الكتاب" يقول ويكام، ليكون سؤاله السابق على أسئلة التجارة المتوسطية والعالمية هو "من ينتج؟ ومن يبيع ومن يشتري؟ ومن أين بدأت حركة التبادل الداخلية، وما الذي أبقاها؟".

راجت النقود في مصر  من فضة وذهب.. وكانت في الفسطاط قبل إنشاء القاهرة أسواق على درجة عالية من التخصص

استعان المؤلف في فهم تاريخ مصر الفاطمي بثلاثة مصادر؛ وثائق الجنيزة، والبرديات العربية، و"التجميعات" و"النتائج" الخاصة بالكشوفات الأثارية التي ينتجها باحثو ودارسو الآثار. وأغلبها مصادر جديدة لم تكن مُتاحة للمؤرخين قبل عقدين.

أول سمة لتلك المرحلة هي استقرار التطور الاقتصادي في مصر بما لا يُقارن بسائر مناطق المتوسط. فعلى النقيض من التصور السائد عن القرن الثاني (الحادي عشر ميلاديًا) للفاطميين في مصر أنه كان قرن "انحدار" وتدهور، يقول ويكام "لا توجد دول باستثناء الصين استمرت فيها أسرة حاكمة لقرنين" لا في ذلك الزمن ولا بعده. والتدهور المتكرر جزء من حركة التاريخ وليس مفسرًا له. السمة الثانية هي أن أهل مصر كانوا يخضعون للضرائب وقتها، وكان في مصر "بنية تحتية ضريبية لم تخف قبضتها قط".

خطوط إنتاج سبقت أوروبا

كان في مصر، على النقيض من مناطق كثيرة في المتوسط، رواج للنقود من فضة وذهب ودراهم ودنانير. وكان في الفسطاط، قبل إنشاء القاهرة، أسواق على درجة عالية من التخصص، وحرفيون وحركة إنتاج وتجارة رائجة. لكن المدهش، في نطاق إحداثيات ويكام للتعقد الاقتصادي، أن قرية تطون في الفيوم مثلًا كان بها شبكة من المهارات والخبرات الكثيفة، وكان بها أيضًا "تخصص جزئي".

نرى فلاحي مصر في القرن الحادي عشر قادرين على الارتباط بسوق محلية متخصصة في الإنتاج والتجارة. وكان في الأشمونين وهي إحدى حواضر المنيا "تقسيم للعمل الإنتاجي أقل من درجة التخصص في الفسطاط، لكنه كان هائلًا بالنظر لأنها كانت مركزًا ريفيًا"، ويشير الكاتب لوجود "تجار وأصحاب متاجر متخصصون" في الأشمونين وقرى الفيوم،  ما يجعلها تتفوق على أغلب مناطق المتوسط.

خريطة للعالم رُسمت في مصر الفاطمية، في القرن الحادي عشر الميلادي. من مقتنيات مكتبة بودلين، جامعة أوكسفورد

في بحثه عن شواهد التعقد الاقتصادي، يعتبر المؤرخ الإنجليزي أن السلع الأساسية هي المقياس الحقيقي للاقتصاد والتجارة، وليس سلع الرفاهية مثل التوابل، التي انشغل المؤرخون من قبله بها. وبالنظر إلى حالة مصر وقتها، ارتبطت الغالبية العظمى من قطاعات الإنتاج بالزراعة، مع الكثير من التخصص في العمل والإنتاج. ومنها صناعة السكر، حيث كثرت المعامل، بخلاف المعامل المملوكة للخلافة في العاصمة وفي الدلتا (زفتى). وفي المنيا كان الإنتاج على نطاق هائل.

وضمن الوثائق، وجد ويكام رسالةً يطلب كاتبها من تابع له بإرسال من يُصلح السواقي لأن "هناك قصب سكر ثمنه 10 آلاف دينار مهدد بالعطش". ولم يكن صاحب الرسالة ولا أرضه ولا سواقيه من المراكز الأهم لإنتاج السكر، الذي كان يُنتج ويُكرر في مناطق كثيرة بمصر، "لكن بيعه كان في شبكات على امتداد مصر" وكان يجري تصديره أيضًا، إذ كانت مصر "بفارق كبير عن غيرها من البلاد أكبر منتِج للسكر المكرر في المتوسط حتى القرن الرابع عشر".

تنيس ودمياط معجزة النسيج 

نرى أدلة أبلغ على ما وصلت له خطوط الإنتاج في إنتاج وتجارة الكتان، حيث بلغ الأمر أن تخصصت فيه مدينتان مهمتان، هما دمياط وتنيس المدينة التي اندثرت وكانت قريبة من بورسعيد، وهي عبارة عن جزيرة في بحيرة المنزلة.

كانت تنيس متخصصة في تصنيع وتجارة الكتان على مساحة تقارب ربع مساحة الفسطاط وتراوح تعدادها بين 30 و50 ألف نسمة؛ وهي كثافة سكانية هائلة قياسًا إلى القرن الحادي عشر، وكأنها لم يكن فيها شبر بلا بيوت ولا ورش.

احتضنت تنيس آلاف العمال في الورش كما يليق بمدينة نسيج متخصصة، "اضطر أهلها للاعتماد بالكامل على شراء كل مستلزماتهم من الأسواق"، وكانت القوارب تجلب كل شيء إلى المدينة إلى جانب الكتان الذي ينسجونه. وتطلب هذا التخصص "قدرًا هائلًا من التعقيد في البنية التحتية الاقتصادية والتجارية، وخلقت تنيس لنفسها شبكة إنتاج (لكافة المستلزمات والسلع) امتدت إلى قلب الدلتا".

وفي الفيوم أيضًا ازدهرت زراعة وصناعة وتجارة نسيج الكتان. وبلغ حجم الإنتاج درجة أن كتان الفيوم كان ينتقل إلى الفسطاط ومنها للتجارة المتوسطية عبر ميناء الإسكندرية. أي أن صناعة النسيج في تنيس كانت لها شبكتها الدولية المنفصلة من تجار ووسطاء.

الفازات الصيني في بيوت الفلاحين

يمضي ويكام في فصله عن مصر متحدثًا بالتفصيل عن سلع ومنتجات وسلاسل إنتاج وتجارة كثيرة. الخلاصة في تقديره أن الفلاحين في أبعد المناطق الريفية في مصر الفاطمية أمسكوا في أيديهم الدراهم وربما الدنانير الذهب. وكانت الضرائب تُحصل أكثر من مرة في السنة، وتترك في يد الناس في الوقت نفسه من الفلوس ما يكفي للرواج الإنتاجي والتجاري، وما يكفي لاستهلاك سلع رفاهية، لدرجة أن الخزف الصيني وصل إلى بيوت ريفية كثيرة (من الأدلة الآثارية).

وأحب المصريون زيت الزيتون التونسي واستوردوه واستهلكوه بكميات كبيرة "ليس لأنهم احتاجوه، فقد كان الزيت في مصر متوفرًا، لكن لأنهم كانوا يفضلوه"، وفي هذا دليل على رواج النقود في يد المواطنين، وشاهد على ضرورة النظر للسلع الأساسية كمؤشر لفهم تاريخ التجارة والاقتصاد.. وكان في مصر "اقتصاد مالي شُعيري" يتمدد وينفذ إلى الأرياف، والقرى والنجوع الصغيرة... إلخ. وفي المجمل "لم يكن هناك أي منتج في حوض المتوسط لم يتوفر في كل بقعة من بقاع مصر".

وقبل أن يخرج ويكام من مصر يقول "كان العمود الفقري لتجارة المتوسط في القرن الحادي عشر وحتى الثاني عشر نِتاجًا ثانويًا للنشاط التجاري المصري المحلي، نتيجة عارضة من نتائج ذلك البنيان المعقد من البيع والشراء على ضفاف النيل. في القرن الثاني عشر ظهرت مراكز جديدة على شواطئ البحر المتوسط، لكن ظلت مصر في المركز. أي أن حيوية القطاع التبادلي/التجاري المصري وجدت نافذة لها على عالم المتوسط، لكنها ظلت - تلك النافذة - محض إضافة لتجارتها المحلية العظيمة التي استمرت في كونها أهم عنصر في الاقتصاد المصري".