لم يدرك المصور محمد عبد الملك أنه سيأتي اليوم الذي يكون فيه مضطرًا للاختباء بينما يصور المشهد الأخير لإزالة قبة حليم باشا. فبعد سنوات طويلة عاشها أسير غواية توثيق تراث قرافة الشافعي في قلب القاهرة، ها هو يواجه الحقيقة الصادمة؛ المبنى ذو الطراز المعماري المميز غدا أثرًا بعد عين، بعدما طالته يد البلدوزر الغاشمة.
وثّق عبد الملك أعمال إزالة قبة "نام شاذ قادين"، والدة الأمير محمد عبد الحليم باشا، ابن محمد علي. وأثارت صور التوثيق، التي انتشرت مؤخرًا على السوشيال ميديا، غضبًا عارمًا جراء هدم القبة ضمن مخطط إزالة عدد كبير من المقابر التاريخية.
والقرافة التي تعد واحدة من أكبر مدن الموتى في العالم مهددة بهدم مبانيها وأضرحتها وقبابها المميزة، ففي فبراير/شباط 2021 أعلنت محافظة القاهرة عزمها نقل 2760 مقبرة من محيط الإمام الشافعي والإمام الليث ضمن خطة تطوير مسار آل البيت، ثم وقعت هذه المقابر في مسار مروري يجري تنفيذه لربط قلب العاصمة بشرقها وبالمدن الجديدة.
"لما كنا بنصور المكان من سنين عشان بنحبه ماخطرش في بالنا إن حد هييجي ويزيله"، يصف عبد الملك لـ المنصة اللحظات الأخيرة التي عايش فيها هو ورفاقه من محبي تراث القاهرة ومجاذيب القرافة هدم القبة. يومها اعتلوا مبنى قريب يراقبون في أسى عملية الهدم، قبل أن يتعهد رئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، في 30 أكتوبر/تشرين الأول الماضي بوقف إزالات قرافة الشافعي.
الحكومة سبق وخلفت الوعد
لكن محبي القرافة لا يثقون في الوعد الحكومي بوقف الهدد، فهم يرون الأعمال الإنشائية جاريةً بجوار المقابر التاريخية حتى الآن.
يقول مؤسس صفحة جبانات مصر إبراهيم طايع لـ المنصة إن المعدات الهندسية لا تزال تعمل على تمهيد مسار المحور الذي يمر داخل المقابر؛ حيث تُجرى أعمال فرش الرمال والتربة الزلطية، إضافة إلى نقل الرفات من بعض المقابر الصادر بحقها قرار إزالة.
يُشار إلى أن مسار الكوبري الجديد، الذي يخترق المقابر التاريخية، يبدأ بجوار مسجد المسبح عند مدخل ميدان السيدة عائشة من جهة قلعة صلاح الدين الأيوبي، ويعبر منطقة المقابر ليصل إلى الجهة الأخرى عند بداية محور الحضارات، ويعد بديلًا عن كوبري السيدة عائشة الحالي.
كان وزير الثقافة الدكتور أحمد هنّو أعلن في 26 أكتوبر الماضي أن أعمال الهدم في منطقة مقابر الإمام الشافعي توقفت مؤقتًا "لحين دراسة موقف الأضرحة والمقابر الموجودة في اتجاه المحور المروري الجديد"، حيث "طرحت الوزارة بالتعاون مع الجهات المعنية بحث إمكانية الإبقاء على الأضرحة في مكانها أو نقلها لمكان آخر".
ومن بعده لم تصدر أي تصريحات حكومية بالتوصل لحلول دائمة، باعتبار أن وقف الهدم، وفق ما أعلن الوزير، "مؤقت".
كما أن الذاكرة لم تخذل محبي القرافة. ففي مايو/أيار من العام الماضي وجه الرئيس السيسي بتشكيل اللجنة لتقييم نقل مقابر منطقتي السيدة نفيسة والإمام الشافعي، ودراسة البدائل المتاحة، على أن تُعلن توصياتها للرأي العام قبل الأول من يوليو/تموز 2023.
وما جاء قرار السيسي بتشكيل اللجنة إلا على وقع ضجة واسعة أعقبت إزالة عدد كبير من المقابر التاريخية. ونقلت حينها وسائل إعلام أن المقابر ستنقل إلى مواقع جديدة في مدينتي 15 مايو العاشر من رمضان، على بعد 35 و63 كيلومترًا من القاهرة.
ورغم أنه كان مقررًا إعلان نتائج اللجنة في غضون شهرين من تشكيلها، إلا أن أيًا من النتائج لم تخرج للنور حتى الآن.
يوضح المهندس طارق المري استشاري الحفاظ على التراث العالمي أنّ اللجنة تشكلت برئاسة الدكتور أيمن عاشور وزير التعليم العالي، إلى جانب أساتذة كبار، منهم الدكتورة سحر عطية والدكتور جلال عبادة والدكتورة مي الإبراشي والدكتور عباس الزعفراني.
تجاهل بدائل الهدم
يؤكد المري لـ المنصة أنّ اللجنة درست مشكلات قرافة الشافعي بطريقة علمية ووضعت بدائل تحافظ على الجبانة بدون تدمير، يوضح "المخطط البديل صمم حلًا مروريًا لتغطية التدفقات المرورية لمدة 10 سنوات مقبلة".
استقرت لجنة حكومية على عدم إزالة المقابر والاكتفاء بتوسيع الطريق ليصبح مزارًا سياحيًا
وتضمن المخطط الذي أعدته اللجنة 3 مسارات مختلفة، أحدها لأولياء الله الصالحين، وآخر للشخصيات المهمة في المجتمع المصري في القرون الأخيرة، ومسارًا ثالثًا سياحيًا يمر بالقرافة بأكملها، كما أجرى المتخصصون مجموعة من الدراسات الأخرى، منها دراسة لحل مشكلة تسرب المياه الجوفية الموجودة في المنطقة إلى السطح وبعض المقابر.
ويلفت استشاري الحفاظ على التراث العالمي إلى أن هذا المخطط وافق عليه رئيس مجلس الوزراء، ثم اعتمده رئيس الجمهورية، الذي وجّه بتنفيذه كاملًا بالتعاون مع الهيئة الهندسية، لكن "اتفاجئنا الشهر اللي فات بأعمال تدمير واسعة في القرافة وهُدم 16 مبنى تراثيًا".
وفي تصريحات سابقة لـ المنصة، قال عضو اللجنة الرئاسية الدكتور عباس الزعفراني إن اللجنة أوصت بالاكتفاء بمحور الفسطاط "الذي عمل على حل أزمة المرور"، لافتًا إلى أن الفرق بينه وبين محور الجبانات كان دقيقتين ونصف الدقيقة من وقت الرحلة فقط، وبالتالي "استقرت اللجنة على عدم إزالة المقابر والاكتفاء بتوسيع الطريق ليصبح مزارًا سياحيًا يسهل حركة السائحين، والحفاظ على المقابر التراثية لقيمتها التاريخية".
ولم تكن اللجنة الرئاسية الوحيدة التي قدمت اقتراحات بديلة للهدم، إذ أعلنت نقابة المهندسين بداية أكتوبر الماضي أنها شكلت لجانًا متخصصة عاجلة من الخبراء المعماريين ومن كل ذي صلة لبحث ما ورد للنقابة من تساؤلات وما أثير على السوشيال ميديا في شأن هدم بعض المناطق ذات الطابع التاريخي والمعماري المميز، والتواصل مع كل الجهات المعنية لبحث الأمر وإعداد تقرير شامل.
توثيق ثلاثي الأبعاد
عدم الالتزام الحكومي بما انتهت له اللجنة الرئاسية دفع محبي التراث وبعض العائلات المهددة مقابرها بالإزالة، للعمل على الحفاظ عليها بأكثر من صورة.
تروي ليلى قناوي، أحد أفراد عائلة بركات، لـ المنصة قصة إعادة بناء الحوش، الذي يضم رفات عائلتها، افتراضيًا بتقنية التصوير ثلاثي الأبعاد؛ حيث استلهمت الفكرة من تصميم وزارة السياحة والآثار نماذج ثلاثية الأبعاد للمناطق الأثرية أثناء جائحة كورونا.
وتضيف "المهم هو توثيق الطراز المعماري للحوش، وحفظ قصص الأشخاص المدفونين في المكان، وعلى رأسهم محمد بهي الدين بركات باشا وزير المعارف الأسبق، وواحد من ثلاثة كانوا أوصياء على العرش بعد رحيل الملك فاروق".
يتجاوز تاريخ الحوش 200 عامًا، حسب ليلى، ويضم تاريخ عائلة ممتدة، ويتمتع بخصوصية معمارية.
خطة ممنهجة وسرقات
لم تأتِ عمليات الهدم الأخيرة مصادفةً، أو في سياق "الخطأ غير المقصود"، بل جاءت ضمن خطة حكومية ممنهجة اقتضت أولًا شطب عدد من المباني التراثية من قوائم المباني ذات الطراز المعماري المميز، التي تمنحها حماية قانونية ضد الهدم؛ وفقًا للقانون رقم 144 لسنة 2006.
وفي وقت سابق من سبتمبر/أيلول، نشر موقع باب مصر قرارًا لوزير الإسكان شريف الشربيني يقضي بشطب عدد من المقابر والأحواش المدرجة في قوائم المباني ذات الطراز المعماري المميز، بعد موافقة جهاز التنسيق الحضاري.
عمليات سرقة ممنهجة للأحواش في ظل فوضى الهدم
توضح الدكتورة سهير حواس أستاذة العمارة والتصميم العمراني بكلية الهندسة، وعضوة مجلس إدارة الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، لـ المنصة أن عملية الحذف جاءت في الأصل بتوصية من لجنة حكومية يتلخص دورها في تحديد المباني التراثية في إطار مشروع قومي، ومن ثم ترفع توصية لوزير الإسكان لشطبها من قائمة المباني ذات الطراز المعماري المميز.
اللافت أنّ الإزالات الأخيرة شملت مدافن بعد نحو شهر واحد من شطبها من القوائم التي تحميها من الهدم؛ فمن واقع جولاته الميدانية يؤكد إبراهيم طايع مؤسس صفحة جبانات مصر لـ المنصة إزالة حوش عائلة ذو الفقار الحكيم، وحوش عائلة العظم السورية، إضافة إلى عدد من المباني التراثية الأخرى، وعلى رأسها قبة حليم باشا.
لكن أخطر ما أشار إليه طايع هو عمليات السرقة الممنهجة للأحواش في ظل فوضى الهدم؛ حيث تسرق التراكيب الرخامية الممهورة بالخطوط العربية والزخارف الفنية الفريدة، ويشتريها تجار، لتُعرض في متاجر خاصة بالقطع الفنية، يقول "من لحظة إعلان الإزالات في عام 2021 وقرافة الشافعي تشهد استباحة كاملة".
كانت المنصة نشرت في سبتمبر 2023 قصة بعنوان "تراث القاهرة" على عينك يا تاجر في سوق الإمام كشفت فيها عن سوق كبيرة للتجارة في التراكيب والزخارف والشواهد المسروقة أو المجمعة من المقابر المهدمة وعرضها للبيع بأسعار تصل إلى 5000 جنيه للقطعة.
حاجة ماسة لتوثيق الأحواش
مع هذه الاستباحة، يسعى المهتمون بتراث مقابر الشافعي إلى توثيق البنايات قبل هدمها، يؤكد كريم بدر المصور الفوتوغرافي والباحث في التراث الثقافي على الحاجة الماسة لتوثيق أحواش المقابر، وهي الهواية التي دأب عليها منذ سنوات، حيث التقط مئات الصور للأحواش التي تتميز مبانيها بطراز معماري فريد.
ويقول لـ المنصة "في كل الأحوال لا نريد هدم أي مقابر أو مبانٍ تراثية، لكن إذا أصبح هذا أمرًا واقعًا، فيجب توثيق هذه المباني حتى يمكن إعادة إحيائها مستقبلًا"، منوهًا بالنموذج الملهم لتجربة عائلة بركات في توثيق حوشها افتراضيًا 3D.
وحسب حامد محمد حامد الباحث في الأنثروبولوجيا الثقافية لـ المنصة "هدم أي مبنى تراثي لا يُمثل مجرد تدمير معمار مُميز، لكن يُفقدنا تاريخًا اجتماعيًا كاملًا مُرتبطًا به، حتى على مستوى الناس البسطاء وتفاعلهم وحكاياتهم معه".
ويضيف "الأجيال الجديدة بدأت تعتاد رؤية القبح في كل مكان، من ألوان صارخة ومبانٍ مُشوهة، إلى تماثيل قبيحة التصميم. مما أدّى إلى تراجع حسّ الجمال لدى المجتمع، وفقدانه القدرة على التمييز بين الغث والسمين".
ومع أمل المصور الشاب محمد عبد الملك بأن يتوقف الهدم تمامًا، لكنه ورفاقه لا يجدون أمامهم ولو على سبيل الاحتياط إلا التوثيق، فبدأوا في التصوير الدقيق لمدفن الإمام ورش، وحوش رشوان باشا عبد الله، ومقبرة بهي الدين بركات باشا، إلى جانب جامع الفلكي، وقبة الدرملي، وقبة كلزار، التي تعدّ أحد أقدم وأجمل مباني قرافة الإمام الشافعي، حسب وصفه.