
اللغة القبطية.. محاولات خجولة لاستعادة صوت المصري القديم
في قرية نزلة الفلاحين التابعة لمركز المنيا، يتجاورُ طلابٌ من مراحل سنيّة مختلفة في فصل من فصول مدرسة صغيرة تتبع كنيسة العذراء مريم، يرددون ترانيم قبطية قديمة، يُدرّبهم عليها الدكتور جرجس إبراهيم يوسف، مدرّس اللغة القبطية في الكلية الإكليريكية بالأنبا رويس في القاهرة.
أسس جرجس إبراهيم المدرسة عام 2007، إضافة إلى مدرسة أخرى في طحا الأعمدة التابعة لإيبارشية سمالوط بمحافظة المنيا عام 2024، بالتعاون مع القس لوكاس نبيل، بغرض تعليم الأطفال اللغة القبطية ونشرها بين الأجيال الجديدة، ضمن مبادرات فردية وجماعية لإعادة إحياء اللغة المصرية القديمة.
الطلاب الذين تتراوح أعمارهم من 5 سنوات حتى سن الجامعة، أصبحوا يقرأون القبطية بطلاقة، ويتبادلون محادثات بسيطة بها، ويكتبون كلمات الدرس بالخط المشبّك على السبورة، إذ يحرص جرجس على محاكاة أسلوب الكتابة التقليدي للغة المصرية القديمة.
الأصل والأثر التاريخي
القبطية مكوِّن رئيسي في الخريطة اللغوية لمصر، وكانت اللغة الأم منذ القرن الثالث قبل الميلاد حتى حلت محلها اللغة العربية، ويربطها البعض بالديانة المسيحية، فكلتاهما نشأت في فترة واحدة، وفق ما يذهب إليه أنطون زكري في كتابه مفتاح اللغة المصرية القديمة.
في المقابل يجادل فريق آخر بأن القبطية أحد تجليات اللغة المصرية القديمة، ويستدلون على ذلك ببردية هايدلبرج 414 التي تعود إلى القرن الثالث قبل ميلاد المسيح، وتتضمن قائمة من الكلمات المصرية بالحروف القبطية تقابلها الكلمات ذاتها باليونانية، حسب كتاب اللغة المصرية القديمة -الخط القبطي- اللهجة الصعيدية للدكتور عبد الحليم نور الدين.
هناك فريق ثالث يرفض الاعتراف بنسب القبطية إلى اللغة المصرية القديمة، بالرغم من وجود قاموس تشيرني/Černý الشهير الذي يربط بينها وبين اللغة المصرية القديمة بالخطين الهيروغليفي والديموطيقي.
بدأت اللغة القبطية تتراجع مع دخول العرب إلى مصر، والبدء في تعريب الدواوين والسجلات والمراسلات الرسمية، لتستمر في التراجع حتى كادت تندثر تمامًا في القرن الثامن عشر، فوفق ما ذكره جرجس فيلوثاوس عوض في كتابه اللغة القبطية فإنه "كان في برِّ مصر كلها كاهن وعجوز شمطاء فقط يتحدثانها".
بينما نجد في القرن التاسع عشر إشارات واضحة لمحاولات إحياء القبطية، من بينها جهود القس يوحنا الشفتشي الذي علّم جان فرانسوا شامبليون تلك اللغة ومن خلالها استطاع فك رموز حجر رشيد، كما قدّم دراسة عن الأصول القبطية لأسماء البلدان المصرية.
موت أم انقراض؟
وفق الباحث اللغوي البريطاني ديفيد كريستال في كتابه مختصر تاريخ اللغة فإن اللغة الميتة هي اللغة التي يتوقف استخدامها، ولا تنقل من الآباء إلى الأبناء، لكن إذا كان يستخدمها عدد قليل فتكون لغة مُهددة بالانقراض.
من هذا المنطلق يرى إسحاق الباجوشي، عضو لجنة التاريخ القبطي بالمجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية أن القبطية لم تمت مستدلًا بالإبصاليات (التراتيل) الخاصة بالقديسين والمكتوبة باللغة القبطية التي كُتبت في الفترة من القرن 16 إلى القرن 18 "غالبية الإبصاليات شعر مسجوع، نذكر من كتابها شخصًا يسمى نقوديموس وهو كتب ما يزيد على خمسين إبصالية وآخر يسمى متاؤس فضلًا عن البابا مرقس".
بعد ذلك في القرن التاسع عشر، كما يؤكد إسحاق الباجوشي لـ المنصة، نضج الأقباط في الكتابة بتلك اللغة وألفوا قواميس وكتب قواعد أجروميات، فضلًا عن الأدب المكتوب في تلك الفترة، الذي يُذكر منه مخاطبات ومراسات البابا كيرلس الرابع في القرن التاسع عشر لأهالي منطقة الزينية في الأقصر وآخرين باللغة القبطية، وقد كان أهالي قرية الزينية يراسلونه باللغة القبطية.
في القرنين العشرين والواحد والعشرين نبغ عدد من كُتاب الإبصاليات والذكصولوجيات (التماجيد)، منهم الأنبا مكسيموس مطران القليوبية وبنها وقويسنا المتنيح الذي كان يكتب ذكصولوجيات وإبصاليات وخطابات، كما كان يسى عبد المسيح والأب متى المسكين يراسلان بعضهما البعض بخطابات مكتوبة باللغة القبطية.
في عصرنا الحالي كتب الباجوشي بالتعاون مع بيجول أنسي إسحق وخلف شحاتة مِلِك سيرة الكاهن ميصائيل بحر باللغة العربية، ونقلها الدكتور جرجس إبراهيم يوسف إلى القبطية البحيرية، وضبطها مينا عادل مستقيم (لاحقًا القس سيداروس عادل)، ونُشرت في العدد الثاني من مجلة الصخرة القبطية في 2014، ثم ترجمها أنطوني ألكوك من جامعة أكسفورد إلى الإنجليزية عندما أعجب بالنص القبطي.
يشير الباجوشي إلى أنه لا يزال نطق القبطية مثار جدل بين مدرستين أساسيتين؛ الأولى تعتمد النطق القديم في قريتي الزينية والضبعية، والثانية الرسمية التي ينسب تطورها إلى عريان أفندي مفتاح في القرن التاسع عشر، "مش شايف إن ده خلاف جذري إحنا بنقول 'أفنوتي' أو 'أبنودي'، والاتنين معناهم الله، وفي الريف بيقولوا أﭼيوس بالجيم المعطشة، ولكن في النطق الحديث تقال أجيوس، بالجيم القاهرية وكلا النطقين لهما نفس الحروف ولهما معنى واحد هو قدوس. ده كرم لغوي لا يُغير المعنى".
للغة القبطية أيضًا أسلوبٌ خاصٌ في الكتابة يُدعى "القبطي المشبك"، وهو نوع من الخط المنمّق استخدمه كتّاب القرن التاسع عشر وأوائل العشرين. ونُشرت بعض هذه النصوص في مجلة "عين شمس" عام 1900، ومن أبرز من كتبوا بهذا الخط المقدس يوسف ناروز.
دوافع قومية
تختلف الدوافع الدينية وراء رحلة تعليم الدكتور جرجس مؤسس مدرستي نزلة الفلاحين وطحا الأعمدة للغة القبطية لفهم "إيه اللي بيتقال في الكنيسة"، عن الدوافع القومية التي كانت السبب وراء رحلة أخرى لجورج سيدهم من أجل استعادة القبطية.
"شايفها لغتي القومية"، يقول جورج لـ المنصة مشيرًا إلى أنه علم طفليه نارمر وتيتي شيري القبطية منذ ولادتهما، ولا يزال يستخدمها في حديثه اليومي معهما.
https://www.youtube.com/watch?v=sdN1LGTa11I"فيه مسلمين بيتعلموا القبطية لأسباب وطنية وثقافية، إلا أن أعدادهم قليلة"، يضيف جورج معيدًا سبب العزوف عن تعلم اللغة المصرية القديمة وعدم إكمال العدد الأكبر ممن يبدأون التعلم الدراسة لصعوبة اللغة وغياب الدافع العملي.
مع ذلك، فإن مرثا موريس تصرُّ على تعلم القبطية دون أن يكون لذلك علاقة بوظيفة أو ترقية، وإنما هو كما تقول لـ المنصة "حب وشغف وانتماء وهوية وجوع لثقافة مسلوبة".
ويتعلم كاي محمد، شاب مسلم، القبطيةَ لأنها كما يصفها "دي لغة أجداي"؛ تتفق معه أسيل أحمد وهي شابة مسلمة وتقول إن "تعلم القبطية يعيد لي جذوري كمصرية، ويخليني أفهم ماضينا وأستعيد تراث بيتسرق منا يوميًا".
طريق ليس مفروشًا بالورود
على أرض الواقع، لا يتجاوز عدد المتحدثين الفعليين بالقبطية العشرات وفق من تحدثنا معهم من ناطقين ومدرسين، فرغم جهود نشر اللغة القبطية، سواء كان ذلك من مؤسسات أو كنائس أو كان جهدًا فرديّا، فإن الطريق ليس ممهدًا لبعث القبطية للحياة، ويؤكد جرجس إبراهيم أن المطلوب هو توجه عام من الدولة، ومبادرات مجتمعية أكبر.
يرى مدرّس اللغة القبطية أنه حتى لو تم إدراج اللغة القبطية في المناهج التعليمة بنفس منطق مقترح تدريس الهيروغليفية فإن هذا لن يُجدي، لأن تعليم الحروف لا يصنع متحدثين، "محتاجين تعليم حقيقي للغة، زي الإنجليزية أو الفرنسية، يخلينا نستخدمها في حياتنا اليومية بشكل طبيعي".
لكن الأمل لا يزال حيًا، فالدكتور جرجس ورفاقه يقيمون ملتقى سنويًا للحديث بالقبطية، ويقدّمون محاضرات متنوعة باللغة، ويستخدمونها في الكتابة، والترجمة، وحتى في الأعمال الأدبية.
هكذا، من مدرسة صغيرة في المنيا، ومن ترنيمة يُرددها طفل في السابعة، تحاول القبطية الإطلال برأسها إلى الحياة العامة في مصر الحديثة بدفع من مبارادت تعليمها، فكما يقول جرجس "لما بدأت شغل في المدرسة في 2007 كان عندي مجموعة واحدة من من 15 طالب أصغرهم في ابتدائي، لكن دلوقتي عندي مجموعات من كل المراحل من رياض الأطفال حتى الجامعة، وخريجين المدرسة دلوقتي هما اللي بيدرسوا للطلبة الجدد".