"لكل لغة في العالم فرصة لتحقيق الخلود، لكن ليس معنى ذلك أنه يمكن الجزم بأنها ستبقى إلى الأبد" بهذه العبارة المميزة يقدم نيقولاس أوستلر، في مجلده الضخم إمبراطوريات الكلمة تاريخ للغات العالم، شرحًا مبسطًا لفكرة بقاء اللغات حيّة بين المتحدثين بها، مشبهًا الأمر بأنه يخضع لقواعد جينية كما هو الحال مع البشر، وهو ما يمكن سحبه على اللغة القبطية القديمة، التي تحدَّث بها المصريون لقرون، ثم أتى عليها قانون أوستلر.
على امتداد قرون طويلة لم يتخل المصريون عن لغتهم الأم، التي واجهت اليونانية والفارسية بضراوة، وقاومت العربية قرابة ثمانية قرون، بداية من دخول العرب مصر (639/ 640م)، وحتى القرن الخامس عشر الميلادي، ظلت الحقول المصرية تفتخر بكلماتها القبطية، وترفض المد العربي الوافد، وفقا لروايات تاريخية.
وتشير كتب التاريخ العربي والقبطي، إلى أن المصريين كانوا قبل نحو سبعة قرون، أو ما يزيد قليلًا لا يتقنون العربية بشكل جيد، وأن الأمر مر بمراحل قاسية، أجبر خلالها أبناء الوادي والدلتا على تغيير لغتهم، وساهم في ذلك عمليات تغيير ديموغرافي تمت بشكل قاسِ وعنيف، تخللها ثوارت مصرية قوبلت بقمع دموي من الولاة العرب.
ميراث فروعوني
في كتابه المعني بلغات العالم الصادر عن مكتبة العربي ببيروت، ترجمة محمد توفيق البجيرمي، يقول أوستلر، إن اللغة القبطية هي امتداد للغة أسلاف مصر السابقين، ويؤيده في ذلك الدكتور سمير فوزي جرجس، في مجلد موسوعة من تراث القبط، (المجلد الأول الصادر عن دار القديس يوحنا الحبيب للنشر) في أن القبطية ليست لغة دينية، لكنها كانت لغة العوام المصريين، التي ورثوها عن الفراعنة، لكن يُحسب للكنيسة المصرية الحفاظ عليها.
ووفقًا للمَصدرين السابقين فإن اللغة القبطية كانت من أكثر اللغات الشرقية التي قاومت العربية، ووقفت في تحدٍ معها، حتى إن الأمر احتاج لأربعة قرون كاملة حتى قبلت القبطية بأن تزاحمها العربية، ومن ثمَّ سمحت لها بالتمدد تمامًا، لتنكمش هي في الأديرة ثم في الكتابات الكَنَسية فقط.
وتقول الموسوعة الصادرة تحت إشراف الكنيسة المصرية، إن اللغة القبطية هي التطور الرابع والأخير للكتابة المصرية أو اللغة المصرية القديمة، وهي امتداد ديناميكي للهيروغليفية والهيراطيقية، والديموطيقية، وأنها كانت تكتب بحروف يونانية، أدخل عليها سبعة حروف من الديموطيقية لتكون صالحة للاستعمال المصري.
وتشير إمبراطوريات الكلمة، إلى أنه حتى أوائل القرن الرابع عشر الميلادي كان المجتمع القبطي يتمتع بالحيوية اللغوية، ما يكفي لتقسيم لهجات المصريين إلى عدد من الألسنة، والتي تتطابق مع اللهجات المصرية الحالية بشكل كبير، حيث كانت توجد قبطية معتمدة وطاغية في الوجه البحري (شمال)، وقبطية صعيدية (جنوب)، والأولى كانت طاغية على الثانية، حتى أن البطريرك غبريال الثاني كرَّسها للاستعمال في الطقوس الدينية بين العامين 1132 و1145 ميلادية، وثالثة فيومية زاحمت على استحياء مع لهجة أقباط إخميم، واللهجة القبطية البشمورية.
تعريب الدواوين
تُجمع المصادر التاريخية واللغوية بما فيها كتاب الأدب العربي في مصر بين الفتح والعصر الأيوبي، الصادر عن دار الكتاب العربي للنشر عام 1967، للدكتور محمود مصطفى، أن أول ضربات واجهتها اللغة القبطية كانت في عام 706 م، حينما قرر الوالي الأموى عبد الله بن عبد الملك بن مروان، والي مصر في هذا التاريخ إحلال العربية مكان القبطية في الدواوين المصرية، حيث كانت الولاية من قبل تدوِّن شؤونها الإدارية بالقبطية وتترجم المراسلات إلى العربية.
رغم اتخاذ هذا القرار، إلا أن موسوعة من تراث القبط تجزم أن القبطية استمرت حيّة في المعاملات بين المصريين حتى القرن الثالث عشر، ولم تُجْد معها كافة المحاولات لإزاحتها عن موقعها.
ساهم قرار عبد الله بن عبد الملك في سحب البساط تدريجيًا من تحت أقدام القبطية، فبموجبه أُجبِر عشرات الموظفين في الدولة على تعلُّم اللغة العربية، لكي يحافظوا على مواقعهم الوظيفية، كما أن التعامل مع القبائل العربية التي وفدت إلى مصر بشكل جماعي استدعى معرفة بعض المصريين للغة جيرانهم، وكذلك أجاد العرب اللغة القبطية بشكل كبير كما يقول الدكتور محمود مصطفى في كتابه المعني بالأدب العربي في مصر.
بداية الاضمحلال
مرت اللغة القبطية باختبار قاسٍ لم تنج منه كما يقول مصطفى، الذي كان يشبه حالات التغير الديموغرافي التي تتم كنتاج للحروب، لاسيما في العصر العباسي على مصر (132- 254هـ) حينما تم قمع ثورة الأقباط بشكل عنيف.
يقول مصطفى إنه بعد أن أوقع الخليفة المأمون بالمصريين عام (217 هـ/ 829 م) وتمكنه من قمع ثورة البشموريين في الدلتا، والتي فشل كل الولاة الذين أوفدتهم الدولة في إخمادها، حتى جاء المأمون بجيشه، استطاع العرب مزاحمة المصريين ومجاورتهم.
ويشير مؤلف كتاب الأدب العربي إلى أن العرب، بعد إخماد الثورة، اتصلوا بالمصريين وامتدت بينهم أواصر النسب أو الجوار بحكم المعاملات، بعدما صاروا كثرة عقب إجلاء المأمون الثوار إلى بغداد، لكي يكسر شوكة الأقباط الذين اعتادوا الثورة على الولاة العرب كلما حانت لهم الفرصة.
إبادة البشموريين
وتفصيلًا يقول عبد العزيز جمال الدين في كتابه ثورات المصريين حتى عصر المقريزي، الصادر عام 2011، عن دار الثقافة الجديدة بالقاهرة، إن البشموريين هم أقباط كانوا يقطنون منطقة شمال الدلتا، وتحديدًا في منطقة البراري بمحافظة كفر الشيخ وما حولها.
وينقل الكتاب عن عن المؤرخ المصري تقي الدين المقريزي(1364- 1442 م) وصف البشموريين في في كتاب الخطط الجزء الأول "إن هؤلاء القوم كانوا أكثر توحشًا وتعنتًا من سائر سكان مصر، وقد أقلقوا السلطات وناصبوا العرب العداء سبع سنوات بعد سقوط الأسكندرية".
ويؤكد المقريزي أن ثورة البشموريين جعلت عدد الأقباط ينخفض بشكل كبير؛ لأن العرب قتلوا كثيرًا منهم، خصوصًا بعد قدوم الخليفة المأمون بجشيه، قائلا إنه لما كانت مصر تحت حكم الوالي عيسى بن منصور (824 م/ 216 هـ) اضطر المأمون أن يزحف بجيشه لإخماد الثورة، وهاجم مدن البشموريين وحَرَقها ودمرها، وقتل عددًا من الرجال وأجلى آخرين إلى بغداد وإلى جزر الروم التي كانت تحت حكمه، وسبى النساء وباع الذريّة، حتى "أذل القبط في جميع أرض مصر".
ويؤيد هذا الرأي أيضًا حديث أوستلر في إمبراطوريات الكلمة الذي يذهب فيه إلى أن معاملة المسلمين للأقباط ساءت بالتدرج، لكنه يشير إلى أنه لا يعرف وقتًا محددًا لانخفاض النسبة المئوية للمسيحيين في مصر، إلا أنه ما بين القرنين السابع والتاسع الميلادي، احتفظ الأقباط بالحرية والاستقلال الذاتي، رغم أنهم خضعوا لدفع الضرائب، حتى تمت معاقبتهم بقسوة عام 829م.
القبطية تتراجع
وبالعودة لموسوعة من تراث القبط، فإن لغة المصريين استمرت قائمة في تعاملات الناس في الحياة اليومية حتى القرن الثالث عشر الميلادي، خصوصًا في فترة الدولة الفاطمية (969م -1161م)، ماعدا فترة الحاكم بأمر الله (996 م-1021م) الذي أصدر مرسومًا بمنع التحدث بالقبطية في الطرقات والاقتصار على العربية فقط، لكن ذلك لم يمنع الناس بشكل كامل عن الحديث بلغتهم لا سيما في القرى والأقاليم البعيدة.
وبخصوص قرار الحاكم بأمر الله يقول أستاذ اللغة القبطية بمعهد الدراسات القبطية في القاهرة، الدكتور كمال فريد إسحق، إن هذه الرواية لم يُعثر عليها في كتب التاريخ العربي، لكن سجَّلتها بعض وثائق الأديرة القبطية، فقط، لذا ربما تكون غير حقيقة، لكن قياسًا على شخصية الحاكم بأمر الله، الذي اتخذ كثير من القرارات المجنونة، ربما يكون صحيحًا.
وهنا تستدرك موسوعة تراث القبط إلى أن قرار الحاكم بأمر الله كان من أكبر الأسباب التي حملت الأقباط على عدم التحدث بلغتهم، والتحول للعربية، التي كان يعرفها كثير منهم، خصوصًا بعدما أقدمت السلطات على قطع لسان كل من يُضبط متحدثًا بالقبطية.
وكانت حالة القبطية مثالية إلى حد ما في عهد الدولة الأيوبية (1161م- 1249م) حتى أن تلك الفترة شهدت بروز أسماء كبار المؤلفين التي كتبوا باللغة القبطية على رأسهم أولاد العسال، وأبو البركات بن كبر، وفقا للموسوعة ذاتها.
الانحسار الأخير
وتؤكد موسوعة من تراث القبط، أن اللغة القبطية بدأت تتقهقر على الأرض منذ وصول المماليك للحكم، إلا من استثناءات بسيطة ظلت باقية وفقًا لما أورده الرحالة الألماني فاتسلب، الذي زار مصر عام 1664م.
يؤيد ذلك ما يقوله الدكتور محمود مصطفى في مقدمة كتابه، بأن تراجع القبطية وصل إلى أن المثقف المصري كان يفخر في القرن العاشر الميلادي/ الرابع الهجري بأنه يعرف اللغة القبطية، وأن الأقباط حاولوا في القرن الحادى عشر إعادة لغتهم إلى الحياة العامة لكنهم فشلوا.
ويشير الكاتب إلى أن المؤرخ والجغرافي العربي المسعودي حينما زار مصر لم يستطع أن يعرف معنى كلمة فرعون من سكان البلاد، وفق ما يقوله في كتابه مروج الذهب الجزء الأول ص 211.
وفي نفس الموسوعة لكن في المجلد السادس والأخير منها والذي يحمل عنوان اللغة القبطية والتراث الأدبي للأقباط- الموسيقى والألحان القبطية، تشير إلى إن مصر ظلت تتحدث القبطية حتى جاء القرن الثاني عشر الميلادي.
في بداية القرن الثالث عشر ونهايات الثاني عشر كانت اللغة القبطية تصارع أنفاسها الأخيرة في مصر، وهو ما اضطر علماء الأقباط إلى وضع مؤلفاتهم باللغة العربية، ورغم ذلك فإن بعض قرى الوجه القبلى ظلت تتحدث القبطية حتى السادس عشر الميلادي، وبعضها يحتفظ بجزء منها حتى الآن كما هو الحال في قرية الزينية بالأقصر (جنوب).
وتشير المصادر التاريخية والأدبية إلى عدة أسباب كانت وبالا على اللغة القبطية، أولها قرار تعريب الدواوين، الذي أجبر عشرات الأقباط المسيحيين على تعلم اللغة العربية للاحتفاظ بوظائفهم.
أما ثاني الأسباب وفقًا لموسوعة من تراث القبط من هو دخول عدد كبير من المصريين تدريجيًا في الدين الإسلامي، بعضهم هربًا من الضريبة/ الجزية، وآخرين اقتناعًا بالدين الوافد كما تقول الموسوعة، وثالث الأسباب هو حركة الترجمة من القبطية إلى العربية في العصر العباسي.
ويرى الدكتور، كمال فريد إسحق، في حديثه للمنصَّة، سببًا رابعًا والذي يؤكد أن الجيش العربي بقيادة المأمون، والذي كان قوامه قرابة 100 ألف فارس، قتل ما يقرب من مليون مصري، في قمع ثورة البشموريين، وهو ما تسبب في تراجع عدد الأقباط بشكل كبير.
ويشير إلى أن خامس الأسباب يتمثل في إحلال القبائل العربية الوافدة إلى مصر، محل المصريين الذين شاركوا في الثورة، وتم إبادتهم أوتهجيرهم، وبالتالي اضطر الأقباط لتعلم اللغة العربية للتعامل مع جيرانهم.
بالعودة لكتاب إمبراطوريات الكلمة يشير أوستلر إلى أن ارتباط المسيحيين المصريين الإيماني باللغة القبطية، هو وحده ما حفظ تراث اللغة القبطية، ولولا وجود المسيحيين لكانت اللغة القبطية اندثرت تمامًا، وهو ما يؤيده الدكتور كمال إسحق بأنه لولا الكنيسة لاختفت القبطية تمامًا من مصر.
العربية تغزو الكنيسة
اضمحلال اللغة القبطية لم يؤثر عليها في الحياة العامة فقط، لكنه امتد للكنيسة أيضًا، كما تقول موسوعة من تراث القبط، التي تشير إلى أن بعض الكهنة اضطروا لترجمة صلوات القداس إلى العربية لكى يستطيعوا التواصل مع الشعب.
وعن التفاصيل يقول الدكتور إسحق الذي يؤيد بشدة قرار تعريب الصلوات إن أول محاولات تعريب للصلوات المسيحية كانت في العهد الفاطمي، بسبب تعلم كثير من الأقباط العربية وبدء تراجع القبطية، مشيرًا إلى استمرار عدد قليل جدًا من الصلوات التي ترتل بالقبطية كما هو الحال في صلوات أسبوع الآلام.
عن هذه النقطة تقول موسوعة من تراث القبط، إن صلوات القداس استمرت تتلى كلها بالقبطية القديمة داخل الكنائس؛ لأن المسيحيين كانوا يعتقدون أن التقديس باللغة العربية غير جائز، لكن مع حلول أواخر القرن التاسع عشر ترجم الكهنة أجزاء من القداس إلى العربية بعد تلاوتها أولا بالقبطية، وبحلول القرن العشرين صارت غالبية صلوات القداس تُتلى باللغة العربية.
كلمات قبطية صامدة
رغم الانسحاب التام إلا أن المصريين احتفظوا بمئات المفردات والألفاظ القبطية بعدما عربوها على طريقتهم، كما أن أسماء بعض البلدان والمدن المصرية لا تزال قبطية، ومن أمثلة ذلك، "ولا، ياد، واد (صبي أو ولد) أباي (علامة دهشة)، إردب (مكيال للموازين الزراعية)، أمَّر العيش (سَخَن)، أوباش (حقراء)، أوطة (طماطم).
ومن البلدان كلمات صفت (بلد) وطحطا (هيكل الأرض)، ومن الكلمات الشائعة أيضًا، ماجور (وعاء) ياما (كثير)، أخ (آه)، وبعبع (عفريت)، وكوِّش (استولى)، وليلي (فرح وانشرح).