انتشرت مؤخرًا أغنية مابروحش مكان غير لما اتوضى وأصلي، التي أداها رجل وزوجته المنتقبة في أحد الأعراس، ثم روجا لها على أنها من إنتاج فرقة "إسلامية" لإحياء الأعراس. بعدها غرق التايم لاين بفيديوهات وإعلانات لفرق أفراح إسلامية، أغلب أعضائها فتيات بفساتين ساتان للمحجبات، وبعضهن بالنقاب، مع تأكيد متواصل أنهن على استعداد تام لإقامة الحفلات في طاعة الله ودون أي اختلاط.
أربكت موجة الفيديوهات قطاعًا من الجمهور الذي لم يتخيل وجود هذه النوعية من الاحتفالات، بينما تفاجأ قطاع آخر، وأنا منهم، من "عودة" الأفراح الإسلامية للسطح مرة أخرى بعد أكثر من عقد على انحسار الاهتمام بها.
في صيف 2003 تقريبًا، اصطحبني أبي إلى "فرح إسلامي"، كان الأول من نوعه فى قريتنا أبو الشقّاف بمحافظة البحيرة، بعدما انتشروا في مدن وقرى الدلتا وانتشر التحاكي عنهم، مع الصعود الساحق لجماعة الإخوان المسلمين وقتذاك.
اجتمعت القرية كلها في الفرح لاستكشاف الأناشيد والأجواء الغريبة التي نجحت في انتزاع دهشتهم وحماسهم، خاصة عندما وصل المُنشد إلى نشيد سنخوض معاركنا معهم، فثارت الجماهير وهتفت لمحمد الدرة وضد إسرائيل، متضامنين مع الانتفاضة وقتها.
بعدها بشهور تأسست في القرية فرقة باسم "فريق البدر للأفراح الإسلامية"، واتخذت لنفسها سلوجان دعائي "أفراحنا طاعة.. لنبدأ حياتنا في مرضاة الله".
كانت الفرقة تقليدًا صريحًا لتلك التي سبقتها؛ فرقة الهدى من طنطا، أول فرقة أسستها جماعة الإخوان، وانطلقت منها الشرارة لتأسيس بقية الفرق، حتى انتشرت في مراكز وقرى الدلتا والصعيد، في ظاهرة حقيقية، ومؤثرة.
البداية طنطا
تأسست فرقة الهدى للأفراح الإسلامية في النصف الثاني من التسعينيات تقريبًا، على يد رمضان ودن وهو مدرس من طنطا. فكرت الجماعة في تقديم نفسها بشكل فني يتماس مع الناس في الشارع، واستغلت في ذلك مواهب شبابها في قالب مسرحي، يتوافق مع منظورها "الحلال" للفن.
بينما كانت الأغاني الريفية تحتفي بالدلع والجنس ولا تلقي بالًا لأي شيء خارج لحظة الفرح الطاغية جاءت الأناشيد من عالم آخر
كان برنامج الأفراح شبه ثابت، يبدأ بقراءة آيتين من القرآن، ثم أسماء الله الحسنى، ثم عدة أناشيد عن الزواج والأفراح في المطلق، وبعدها اسكتش كوميدي، ثم عدة أناشيد عن الأفراح والقضية الفلسطينية، ثم اسكتش مسرحي أصغر غالبًا ما يكون عن الانتفاضة، وفي النهاية زفة بالدفوف.
الملفت في تجربة "الهدى"، وكل الفرق التي نسخت خطواتها، هو الذكاء في اختيار الجمهور المستهدف من الأناشيد. في كل مرة، كان يقدم عشرة إلى خمسة عشر نشيدًا، تختلف في الطول والقصر، لكنها تجتمع في الغاية النهائية، في محاولة صبغ الليلة بصبغة إسلامية.
تظاهرت تلك الأناشيد بأنها تعدّل سلوكيات المجتمع من منطق إصلاحي، وتناقض عادات القرية الرجعية، إلا أنها كانت تعزز تلك الأفكار وتقويها، عن قصد أو بدون، مثل النشيد الذي يخاطب والد العروس "يا أبو البنات أكرم تكرم.. ستر بناتك لك أكرم"، ونشيد آخر يخاطب أم العروس "يا أم العروسة قولي للبنت وعرفيها.. مش لازم عقد لولي والقسمة ترضى بيها"، وغيرها من خطابات تحوّل مناسبة العرس إلى فقرة دعوية تغازل السياق العام.
كانت الأناشيد تتباين تباينًا واضحًا مع أغاني الأعراس التراثية؛ فبينما كانت الأغاني الريفية تحتفي بالدلع والجنس ولا تلقي بالًا لأي شيء خارج لحظة الفرح الطاغية كونها لحظة انتصار على حياة الريف القاتمة، جاءت الأناشيد من عالم آخر، لتهتم بتقديم منتج وعظي، لا يتناسى عقدة الذنب الدينية التي لا تتصالح مع فورة البهجة بسهولة، بل وتترك في نفوس مستمعيها تأنيبًا لشيء غير معلوم، حتى لو اندمجوا معها وأحبوها، بصفتها "ترند" مغايرًا وقتها.
في ظرف سنوات قليلة أحدثت فرقة الهدى ضجة كبيرة في أفراح قرى الدلتا، وساعدها في ذلك الحاضنة الشعبية لأعضاء الجماعة، خاصة مع صعودها المتسارع في كل انتخابات برلمانية، بالإضافة إلى الذكاء الفني الذي لا يمكن إنكاره، حتى أنهم سايروا ثورة شرائط الكاسيت وقتها، وأنتجوا عدة شرائط تحمل "إبداعاتهم الأصلية" بلغة اليوم.
أفرزت الهدى عدة أصوات كانت لامعة وسط الجماعة في زهوتها، مثل أشرف زهران ومحمد نجيب وآخرين، ممن ستقوم عليهم بعدها بسنوات أغاني حملة محمد مرسي، رئيس الجمهورية الأسبق، في انتخابات 2012، وأحمد بو شهاب الذي سيغني ثيمة حزب الحرية والعدالة الرسمية.
الهامش يصارع ليكون متنًا
في قريتنا ذاع صيت فرقة الهدى بسرعة، أحيوا عدة أفراح عندنا وفي القرى المجاورة، وربما في المدن المركزية أيضًا. فنشأت فرقة البدر التي اعتمدت في تأسيسها على شباب القرية، ممن كانوا منخرطين في الجماعة، أو الموهوبين من غير المنتمين ولا يتعارضون مع الخط العام لها. أتذكر منهم اليوم عمي الأصغر، وخالي الأوسط، وجارنا الأستاذ حمادة، وآخرين سقطوا من ذاكرتي.
بدأت فرقة البدر بإمكانات بسيطة، عدة دفوف يدوية الصنع، وزي موحد عبارة عن قميص زهري وبدلة كحلية، دون ربطة عنق. مع تلك البداية البسيطة والسريعة، لم يكن لديهم أي مخزون من الأناشيد، فاعتمدوا على كثير من أناشيد فرقة الهدى، مع أناشيد شهيرة للمنشد الأردني أبو راتب، مثل "يا دعوتي سيري"، الأنشودة الأيقونية للجماعة على مر السنين.
كان هذا شعورًا طبيعيًا، فخلال تلك الفترة لم تشهد القرية فعالية ثقافية واحدة، رغم وجود "مركز شباب" عتيق منذ الستينيات، وتزايد عدد المتعلمين بدرجة فائقة، إلا أنهم عاشوا طول حياتهم على الهامش، أو أبعد من الهامش.
جاءت فرقة الأفراح تلك لتصبح الحدث الذي أثبت للناس أنهم قادرون على إنتاج فن ما يعبر عنهم. كذلك شعر الشباب أعضاء الفرقة أنهم نجوم غناء، مع ازدياد الطلب عليهم، وانبهار الناس بأداءاتهم رغم ضعفها وتكرارها.
المركزية داء الجميع
لفت نجاح فرقة البدر نظر الشعبة المركزية للجماعة في المحافظة فأنشأوا فرقةً خاصةً بهم، وحتى لا يحدث تعارضٌ بين الفرقتين، تم دمجهما معًا. أثارت تلك الحركة حفيظة شباب فرقة القرية فانسحب عدد منهم من الفرقة، وربما خرجوا من الجماعة للأبد.
تزامن الشكل الجديد للفرقة مع نجاح جماعة الإخوان في الانتخابات وفي شكلها الجديد لم يشعر الناس بانتماء الفرقة إليهم
كما أغضب قرار الدمج جمهور فرقة البدر المخلص في القرية، الذين شعروا أن المركزية تطاردهم في كل وقت، وأنه لا مساحة للهامش لأن يتحرك وينتج دون أن يبتلعه المتن بشراهته، لا تختلف في ذلك مركزية الدولة، أو مركزية التنظيمات المعارضة لها، وكأن الجميع نسخٌ مكررةٌ من بعضها البعض.
انطلقت الفرقة المركزية بشكل مختلف، بأجهزة صوتية حديثة، ودفوف راقية من تلك التي تستخدمها فرق الإنشاد الصوفي، وزي أكثر أناقة. صارت أقرب إلى "الباند" بلغتنا اليوم.
تزامن الشكل الجديد للفرقة مع النجاح الخرافي لجماعة الإخوان في انتخابات 2005. وفي شكلها الجديد، لم يشعر الناس بانتماء الفرقة إليهم، بقدر انتمائها للجماعة. وبينما كان الهدف من إنشاء الفرقة هو الاندماج مع الناس، صارت أحد أشكال تمييز الجماعة عنهم. أما شباب القرية، فذابوا في الفرقة المركزية تمامًا، وبعدما كانوا نجومًا، تراجعوا إلى جوقة تردد خلف المنشد الرئيسي.
دفع ذلك بعضهم إلى التوقف عن الغناء نهائيًا، والبعض راح يبحث عن فرصة في مشروع آخر. لم يكن لأحدهم طموح فني ضخم في ذلك الوقت، كانت محاولات فقط للتعبير عن الذات، أو تسيير الموهبة كي لا تنضب، أو تبتلعها دوامة الجماعة.
ومن بين هؤلاء كان جارنا الأستاذ حمادة، الذي سعى لتسجل شريط مع عدة منشدين آخرين، تزامنًا مع الحرب الإسرائيلية على لبنان في 2006. حينها دعاني للمشاركة لأنه كان يحتاج إلى كورال من الأطفال يرددون خلفه، بالإضافة لغناء بعض الكوبليهات التي تعبر عن الإجرام الصهيوني في حق الطفولة.
سافرنا إلى استديو احترافي في محافظة أخرى، كان مجهزًا بالضبط مثل الاستديوهات التي رأيتها في التليفزيون. كان هناك ثلاثة منشدين، وفتاتان في مثل عمري. بدأنا التسجيل، وكان الشريط يحاكي أناشيد ما يعرف بالصحوة الإسلامية، ولكن مع توزيع أكثر عصرية وشبابية.
عندما جاء دوري أنا والفتاتان، كان هناك نشاز غير مفهوم، واستغرق الموزع عدة دقائق ليفهم أنني النشاز. طلب مني أن أتنحى جانبًا. تنحيت، ولا أعرف مصير الشريط إلى اليوم.
نهاية حتمية لنجومية لم تكتمل
خفت نجم الفرقة قليلًا، مع التضييق الأمني في سنوات ما قبل الثورة، ثم قل الطلب عليها في الأفراح بشكل لافت. ومع الثورة، خرجت الجماعة من قمقمها، واستبشر كثيرون بأنها ستكون فرصة للانتشار في المساحات الاجتماعية والفنية الممنوعة عليها، وآمل كثيرون من نجوم الفرقة أن يكون ذلك ميلادًا جديدًا لها، لكن ذلك لم يحدث.
انشغلت الجماعة بحصد كل مكسب سياسي ممكن، وانخرط المنشدون في إنتاجات سياسية، رديئة القيمة والجودة. انحلت كل الفرق تلقائيًا مع ضغط العمل السياسي ثم أحداث 2013 وما تلاها. وانتهت موضة الفرق الإسلامية.
لا أعرف أين ذهب أعضاء فرقة البدر، أو كيف سارت حياتهم، لكني قابلت الأستاذ حمادة مرة في ميدان التحرير، قبل أن يسافر نهائيًا إلى الخارج. كانت تلك المرة اليتيمة التي توافقت فيها كل القوى السياسة على الوجود في الميدان. لا أذكر المناسبة بالضبط، لكني أذكر أننا وقفنا حول فرقة إسكندريلا وهم يغنون أغنيتهم الشهيرة يُحكى أن.
بعدها اقترح أحدهم على الحضور لو أراد أحدهم أن يغني شيئًا. استلم الأستاذ حمادة الدفة وأنشد "أخوتنا بين كل القلوب.."، وهي أنشودة لأبو راتب يتغنى فيها بحالة الإخاء بين الناس. ربما اختارها الأستاذ حمادة ليرثي الماضي، أو ليتنبأ بصدع هائل سيحدث مستقبلًا.
أنشودة أخوتنا بين كل القلوب، من ألبوم لحن وجرح، للمنشد أبو راتب.
حدث الصدع في 2013، ومرّت السنوات، ثم عادت الفرق الإسلامية لتطل برأسها مؤخرًا من خلال السوشيال ميديا، في تجربة تختلف كثيرًا عن تجربة فِرق أفراح الجماعة، من حيث الشكل والأناشيد، ومن حيث مركزية ظهور العنصر النسائي.