ماذا تعني كلمة كركشنجي في أغنية أحمد عدوية الملغزة والمبهجة التي تحمل الاسم نفسه؟ هذا السؤال ظل، في رأيي، دون إجابة مرضية لعشرات السنوات منذ إنتاج الأغنية.
محاولة البحث على الإنترنت عن معنى الكلمة ستقودك في الأغلب لإجابة من اثنتين؛ الأولى والأكثر انتشارًا، تتحدث عن أن كركشنجي هو اسم لشخص بسيط، عم كركشنجي، يحمل مبخرة في منطقة شعبية، ويجمع له أهل الحي مبلغًا من المال ليشتري به كبشًا في عيد الأضحى. وتسترسل الرواية في شرح باقي كلمات الأغنية لتعطي لنا انطباعًا بأن كلمات الأغنية كلها تسرد لنا قصة واحدة ومتماسكة، ودون إجابة أيضًا على السؤال الرئيسي: لماذا سمي عم كركشنجي بهذا الاسم، وما معنى اسمه؟
الرواية المنتشرة على العشرات من صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، ووجدت طريقها لبعض المواقع الإخبارية، بل وشاشات التليفزيون، لم يذكر لنا أغلب من نشروها مصدرًا واحدًا للحكاية، سوى نسبها أحياناً لحوار صحفي مع مأمون الشناوي، باعتباره مؤلف الأغنية، التي أجمع أغلب من نقلوا الحكاية على أنه مؤلفها. الغريب هنا أن الأغنية ليست أصلًا من تأليف مأمون الشناوي، ولكنها من تأليف الشاعر حسن أبو عتمان. يمكننا إذن توقع أن انتشار تلك الحكاية ليس سوى نتيجة لسلسلة من النسخ واللصق، ويعطينا فكرة بسيطة عن كيفية صناعة شريحة معتبرة من المحتوى المصري، حتى في مساحاته الآمنة، على الإنترنت ووسائل الإعلام التقليدية.
الإجابة الثانية والأقل انتشارًا، ستجدها على لسان أحمد عدوية نفسه. إذ يقول "الكركشنجي هو الجزار". إجابة مقتضبة، غير شافية.
بأي لغة أو لهجة أصبح الجزار كركشنجيًا؟ ولماذا اختفى هذا الاسم فلم نعد نفهم معناه؟ لكنه يستطرد قائلًا "والله يعني ده كلام قديم قوي حلو، وبعدين عجب الناس". يمكن هنا فهم أن التركيبات اللفظية في الأغنية مثل "كركشنجي دبح كبشه" كانت موجودة بالفعل في الموروث الشعبي قبل ظهور الأغنية، وبالتالي ليست بالضرورة أن تكون مفهومة لعدوية ولا لمؤلف الأغنية نفسه.
أغلب ظني أنها كانت منتشرة كحيلة لفظية ضمن الجمل صعبة النطق أو ما يطلق عليه Tongue twister، الموجودة في أغلب اللغات، والموجودة طبعًا في العامية المصرية مثل "قميص نفيسة نشف ولا لسة ما نشفش"، أو "ستي بسبستلي بسبوسة بالسمن والسكر والعسل" والتي غناها عدوية أيضًا ومن كلمات نفس الشاعر. ولكن ألا تحتاج هذه الحيل اللفظية أن تكون الكلمات نفسها موجودة في اللغة المحكية؟ أو على الأقل أن يكون جذر الكلمة كذلك؟ يمكننا أن نفهم مثلًا حيلة لفظية تحوي لفظ "المستدبسين" لأننا نعرف الدبابيس والتدبيس ولكن كيف لنا أن نفهم ما هو الكركشنجي دون أن نعرف عنه سوى كبشه؟
أعتقد أنني وقعت بالصدفة على طرف خيط للفهم. قائمة طعام لمطعم في صوفيا عاصمة بلغاريا، وقعت عيني على طبق مشويات اسمه Karakachan mix grill، ومع وجود الطبق تحت قسم لحم الضأن، استبعدت أن يكون الأمر مجرد صدفة.
فلنترك الكركشنجي مؤقتًا و لنحاول أن نفهم على الأقل ما هو الكراكاشان. بحسب المعلومات المتاحة فالكراكشان هم جماعة من الرُعاة الرُحل ذات أصول يونانية سكنت جبال البلقان، و اشتهرت بتربية الأغنام في المنطقة. أرجح الآراء تقول أن اسمهم مشتق من الكلمة التركية karakaçan وتنطق كراكاشان وتعني حرفيًا الطريد أو الهارب الأسود. الأسود هنا يعود للون ملبسهم التقليدي كما في الصورة، أما الطريد أو الهارب فتعكس نظرة الدولة العثمانية لهم باعتبارهم خارجين عن قبضتها وسيطرتها، وربما تعود لرواية أخرى تقول إنهم هربوا وتركوا القسطنطينية ولجأوا للجبال بعد سيطرة العثمانيين عليها.
المهم أنهم عاشوا داخل حدود الإمبراطورية العثمانية، ولكن في مناطق جبلية بعيدة عن سيطرتها وقبضتها اليومية. في صيغة غير مكتوبة تضمن بقائهم كمطاريد، على أن يستفيد منهم العثمانيون في توفير كميات كبيرة سنوية من الأغنام، تناسب احتياجات الاحتفالات الإسلامية للدولة الجديدة. وهو ما سمح بازدهار قطعان الأغنام في المنطقة بدرجة كبيرة، بالاعتماد على فصائل الأغنام التقليدية في المنطقة وأشهرها فصيلة سميت أيضًا فصيلة كراكشان.
في الفترة من القرن الـ15 إلى القرن الـ18 تواصل ازدهار تربية الأغنام في المنطقة لتصل إلى ذروتها في القرن الـ19، لتكفي لا لتلبية احتياجات مركز الحكم العثماني فقط، ولكن تسمح لها بالتصدير والتواصل التجاري مع مناطق أبعد ومنها مصر. يمكننا القول بأن المصريين عرفوا الخروف الكراكشان، أو على الأقل تعرفوا على أحد منتجاته كالصوف مثلًا، ومنها يصبح وجود الكلمة في اللغة المحكية أمرًا مفهومًا.
هذا عن الكراكشان فماذا عن الكركشنجي؟
في اللغة التركية يستخدم المقطع "جي" اللاحقة في نسب الشخص لمهنة أو وظيفة، ومنها أخذنا في مصر وقت الحكم العثماني أسماء بعض المهن مثل السفرجي والبوسطجي. فهل الكركشنجي هي كلمة تركية تمامًا أيضًا؟ هل استخدم العثمانيون لفظ الكركشنجي لوصف رعاة الغنم مثلًا؟ لم أجد دليلًا على هذا، وتشير أغلب الترجمات من التركية للكلمة لمعنى الهروب أكثر من أي معنى يتعلق بالأغنام أو الرعي، لكن لعله أحد الاحتمالات.
الاحتمال الآخر يتعلق بكيف تمصرت تمامًا هذه الـ "جي" اللاحقة لنصيغ منها كلمات جديدة، سواء المرتبطة بالاستخدام الأصلي لصاحب المهنة، المكوجي والفرارجي كأمثلة، لكننا أيضًا استخدمناها، ولا زلنا، لنسب الشخص لفئة أو جماعة حقيقية أو متخيلة فنقول إخوانجي ودولجي وثورجي، كما نقول مزاجنجي وسرسجي. ربما كان لفظ الكركشنجي هو ما استخدمناه للإشارة لهؤلاء الناس الذين رعوا تلك الأغنام التي تصلنا أو تصلنا منتجاتها؟ هل وصل بعضهم بأغنامهم الحية إلى مصر ووقفوا في الأسواق بزيهم التقليدي المميز فأسميناهم كرشنجية؟ أم كان وجود الكباش الكراكشان في الأسواق كافيًا وحده لاشتقاق تلك الحيلة اللفظية "كركشنجي دبح كبشه" دون أن يكون لكلمة كركشنجي معنى دارج كلفظ مستقل بذاته، فنفهم معنى الكركشنجي من كلمة كبشه التي تليها، كما فهمنا المستدبسين من الدبابيس التي تسبقها.
هكذا وصلتنا الكلمة، ولكن كيف نسيناها ؟
إذا كنا هكذا عرفنا عن الكراكشان وربما الكركشنجي، فكيف لم نعد نعرفهم، كيف يختفي معنى الكلمة من ذاكرتنا الجمعية، وكأننا نسيناها؟ في أي لغة حية تظهر الكلمة الجديدة لتمكننا من الإشارة لذلك الشيء الجديد الذي يجب تمييزه. وعكسه يحدث حينما يختفي الشيء، فتختفي معه اللفظة المعبرة عنه من كلامنا المحكي، وهذا تقريبًا ما حدث هنا.
مع بدايات القرن العشرين، واشتعال الحرب العالمية الأولى، ثم تفكيك الامبراطورية العثمانية وانتصار فكرة الدول القومية في المنطقة، لم يعد نمط انتقال تلك القبائل مع تغير الفصول بحثًا عن أماكن لرعي الأغنام بنفس السهولة السابقة. تراجع نشاط رعي الأغنام في المنطقة، وبحلول منتصف القرن العشرين، ومع تصاعد الحرب الباردة وإغلاق الحدود بين تلك الدول كان من المستحيل استمرار عاداتهم القديمة في رعي الأغنام. تفرقوا بين الدول المختلفة وفرضت على أغلبهم الإقامة في المدن.
انتهى تقريبًا وجود تلك القبائل القديمة، وتم تمدينهم، بشكل قسري في أغلب الأحيان، نتيجة لتشكك أغلب تلك الدول في انتمائهم لها، وصودرت أغلب أغنامهم فأصبحت فصيلة الأغنام الكراكشان من الفصائل المهددة بالانقراض، لم يعد إذن كراكشانًا ولا كركشنجي.
يمكن أن تقرأ الفقرة السابقة على خلفية توزيع حزين متخيل لموسيقى كركشنجي دبح كبشه.
كادت اللفظة أن تختفي هي أيضًا من لغتنا المحكية، لولا حيلة لفظية قديمة، كادت أن تندثر هي الأخرى لولا أن التقطها شاعر شعبي محب للتجريب ليضعها على حنجرة أحمد عدوية لتطربنا كما تحيّرنا في معناها لعقود.