
أحلام وأوهام في المتحف الزراعي
لم يكن شعورٌ بالرهبة هذا الذي رافقني في تجوالي بين مباني المتحف الزراعي الذي أُعيد افتتاحه الشهر الماضي في حي الدقي، بعد إغلاق امتد لسنوات، بل مزيج من التقدير والفهم وفي الوقت نفسه الخفة والكوميديا وسخرية الأقدار؛ شعرت بعظمة مصر وتعقيد تاريخها وهول إمكاناتها.
توقفت مرارًا أمام صناديق العرض الزجاجية والمعروضات المحنطة والهياكل العظمية والنباتات المجففة والصناعات الزراعية والأثاث العتيق والمأكولات المعلبة والنماذج الخشبية واللوحات التشكيلية وصور الأشخاص الزيتية. كنت كمن يسير في حلم حينًا وفي كابوسٍ حينًا، متنقلًا بين صالات وغرف المتحف.
أضاف الأطفال القادمون مع عائلاتهم ورحلاتهم المدرسية بهجةً يفتقدها المكان، وهم يقفون أمام كل صندوق زجاجي يضمُّ فراشاتٍ أو نباتاتٍ مجففةً أو نماذجَ معلباتٍ وفواكهَ من مصانع ومزارع الدولة في الستينيات، أو نموذجًا للسد العالي، أو صورًا للأمراض التي كانت متفشيةً في البلاد؛ من السل والبلاجرا والزهري منذ مائة عام، قبل أن تقضي عليها "الثورة المجيدة".
ينظر الأطفال ومرافقوهم الكبار، ثم يستديرون ويأخذون سيلفي لأنفسهم مع الصندوق. يتضاحكون ويندفعون قليلًا بمرحٍ وهم ينظرون لنماذج الحياة اليومية في مصر قبل عشرات السنين، وقد وقف فيها رجالٌ ونساءٌ وأطفالٌ بالحجم الطبيعي؛ منشد ديني، صانع زجاج يدوي، بائع حلوى، زفاف، مقهى، صندوق الدنيا.. كليك، كليك، كليك، صور سيلفي أخرى.
تشرئب الرقاب متطلعةً لأعلى الحوائط الشاهقة المعلقة عليها رؤوسُ وعول وغزلان وحيوانات برية أخرى، كلها ربما من مخلفات الأسرة الملكية في النصف الأول من القرن العشرين.
كليك كليك كليك، مزيدٌ من السيلفي، صورٌ لملوك وأميرات مصر قبل 1952، صورٌ قليلة يظهر فيها اللواء محمد نجيب، أول رئيس لمصر بعد انقلاب الجيش الذي باركه الشعب فصار ثورةً، صورة واحدة لجمال عبد الناصر في المتحف، وأخرى للرئيس حسني مبارك مع زعيم صيني.
تحمل وجوه بعض الكبار في العائلات والمدرسات والمدرسين تعابير الاغتراب والدهشة، المخلوطة ببعض الأسى، أكثر من وجوه الأطفال التي يقفز منها الفضول والمرح.
ساعدني الأطفال في الإحساس بسخرية الأقدار والتمعن فيما جرى والابتعاد عن نصيبي من الحزن الذي خيّم على مرافقيهم من أقراني من الزوار الكهول.
المهندس قادم يا صحراء
في المبنى الرئيسي للمتحف الزراعي، تتراصُّ القاعات والغرف الكبيرة المخصصة للنهضة الصناعية والإصلاح الزراعي والسد العالي، وكيف قهرت "الحركة المباركة" ورجالها الفقر والظلم والمرض في الريف، وفي القطاع الزراعي عمومًا، الذي شهد أول تدخلات كبيرة لرجال "الحركة المباركة" بعد إطاحتها بالنظام الملكي.
عملت الحكومة المصرية بقيادة عبد الناصر على تقليل التفاوت الصارخ في الملكية الزراعية، عبر قانونٍ وضع حدًّا أقصى لملكية الأراضي، ومنح الأراضي الفائضة بتسهيلات كبيرة للفلاحين الذين كانوا شبه معدمين. كان ذلك جزءًا من خطط تنميةٍ طموحةٍ تميزت بها كل الدول المشابهة، وهي تتحرر من الاستعمار في ذلك العصر.
خطط تستهدف تقليل الفقر والمرض والتفاوت المذهل في الثروة في البلاد. كان هذا من أهم عوامل الدعم الشعبي الذي حوّل، على الأقل في الخطاب العام، ما كان انقلابًا عسكريًا إلى ثورة. وكان للعلم والتكنولوجيا ثم الفن والثقافة بما فيها الاستعراضات الحية والعروض المتحفية دورٌ مهمٌ في الحشد والتأييد.
كنت أسير في صالة مخصصة لمديرية التحرير؛ مشروع النظام الناصري الضخم لاستصلاح الأراضي الصحراوية، وفي أذني ترن أغنية المهندس جاي المهندس جاي.. يا صحرا المهندس جاي، التي سمعتها كثيرًا في صباي في السبعينيات، وهي من كلمات بيرم التونسي وألحان أحمد صدقي. ظهرت للمرة الأولى في فيلم الصقر لصلاح أبو سيف (1950)، وجرى تدويرها في العقود التالية.
المفارقة الساخرة أن الأغنية كانت تعبر عن محاولة فاشلة من محتالٍ لخداع الأهالي وإقناعهم بأن الخبير الأجنبي سيحفر لهم قنوات مياه وري تجعل التراب مالًا وتبني لهم قصورًا.
ظهرت أغانٍ كثيرة وأفلام ورقصات، ودُبّجت كتب ومقالات حول إنجازات وأحلام وأوهام النخبة الجديدة.
كان أشهر الأغنيات فدادين خمسة التي غناها محمد العزبي مع رقص لفرقة رضا في 1960 ترحيبًا بسياسات الإصلاح الزراعي التي منحت عددًا من الفلاحين خمسة فدادين ملكية، ومن كلماتها "الدهر اندار ومَلكنا الدار.. غار الاستعمار و بقينا أحرار.. فدادين خمسة، خمس فدادين".
الإحساس بالفخر والكرامة والاستقلال الذي صاحب تلك الفترة، خاصة لدى الطبقة الوسطى، لم يستمر أطول من فترة الخمسينات، ثم انهار تمامًا مع هزيمة 1967 المذلة، وانهار معه أيضًا شعور كلّ مصريٍّ بالاستحقاق تجاه ما ستضمنه له الدولة والنظام من امتيازات.
في مطلع الستينيات بات أهم ما تقدمه الأغنيات وما تعرضه المتاحف إنجازات الزعيم وتفضله ونجاح التدخلات التقنية الضخمة مثل السد العالي، وهكذا ظهرت أغنية مطالب شعب لعبد الحليم حافظ أمام عبد الناصر في حفل ثورة يوليو في 1962، غنى فيها عن أمجاد الزعيم وانتصاراته الثورية.
قاعة بعد أخرى تعرض نماذج خشبية كبيرة لمشاريع الري الكبرى، وأهمها السد العالي، كيفية مكافحة الأمراض، الإصلاح الزراعي، أفضل طرق التغذية، منتجات مصانع ومزارع الدولة، المناحل الجديدة، صناعة الحرير.. إلخ.
ولأن المتحف بدأ في العهد الملكي، فهناك معروضات ونماذج تسبق 1952، يبدو المتحف معها تأريخًا لطريقة تعاطي الدولة والأنظمة الحاكمة مع قضايا الفلاحين والزراعة ومقاومة الآفات والري والصناعات الزراعية والتغذية ومقاومة الأمراض المتفشية بين الفقراء، على مدى عقود تسبق وتلي تحولات 1952.
يصعب عدم التعاطف مع الحلم الكبير والأسى على ما جرى فعلًا عندما ترى صورتين من خيال الرسام لما كانت عليه القرية المصرية قبل نهاية حكم أسرة محمد علي وتخيله لما ستصبح قريبًا. فلا كانت ولا أصبحت.
الصداقة المصرية الصينية
في قصر آخر من مباني المتحف، هناك لافتة بالعربية والصينية، تعلن عن متحف الصداقة المصرية الصينية. المتحف الصغير نسبيًا يضم أعمالًا فنية صينية خزفية وخشبية جميلة، دون توضيح سبب وجودها في صناديق زجاجية متراصة بعرض حوائط القاعات.
هناك صور ولوحات من الصين إحداها من إقليم التبت، ومكتوب عليها أنه يتمتع بالحكم الذاتي، المتحف ليس فقط عن أحلام وسرديات النخبة المصرية، بل الصينية أيضًا.
على الحائط المواجه للمدخل صورة لخطاب موقع من رئيس الوزراء الأسبق شواين لاي، عندما زار المتحف الزراعي في 1965، يشير فيه إلى ما قام به عبد الناصر من "منجزات ملحوظة في تنمية الإنتاج الزراعي"، متمنيًا لمصر أن تحقق "انتصارًا أعظم في التنمية الزراعية العلمية".
وهناك صورة للمشير الراحل حسين طنطاوي، وزير الدفاع لسنوات طويلة مع الرئيس مبارك والقائد الفعلي للبلاد بعد عزل الأخير، مع رئيس الحزب الشيوعي الصيني، وأخرى لمبارك مع نائب رئيس مجلس الدولة الصيني، وثالثة لوزير الزراعة الراحل يوسف والي مع وزير الثقافة الصيني.
على عكس كل مباني المتحف الأخرى، لم ألتقِ في هذا المبنى الحزين بأي زوار مهتمين بالصور السيلفي. في متحف الصداقة لم يكن هناك سواي وصديقتي الصحفية.
الأميرة تركت جامعةً وقصرًا و"صورة مبكسلة"
قصر الأميرة فاطمة إسماعيل هو أول مبنى على يمين الداخل لمجموعة المتحف الزراعي التي زرت منها خمسة مبان، ونتعرف على الأميرة أكثر عندما ندخل غرفة خلفية في هذا القصر الضخم كثير الغرف، المتخم بمعروضات ربما لا يربطها ببعضها البعض سوى أنها كانت في القصر أو من بقايا الأسرة المالكة التي أطاح بها الجيش، بعد وفاة الأميرة نفسها بعشرات السنين.
تطل الأميرة فاطمة من لوحة كبيرة واضح أنها مطبوعة بالكمبيوتر نقلًا عن أصل زيتي، ولما عبَّرت عن اندهاشي أن المرأة التي يعود لها الفضل في بناء جامعة القاهرة، بتبرعاتها من أرضٍ ووقفٍ ومالٍ، لا تستحق لوحة زيتية حقيقية، مثل عدد آخر من كبار العائلة العلوية المالكة الراحلة، التي تناثرت صورها في الغرفة نفسها، أكد لي واحد من العاملين شديدي اللطف أنها كانت صورة أصلية ولكن عندما طبعوها على الكمبيوتر "طلعت مبكسلة شوية"، يقصد أنها منخفضة الجودة، ولذا تظهر نقاط الطابعة الملونة كلما اقتربت من الصورة.
تبدو صورة فاطمة، ابنة الخديو إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي باشا، الألباني الذي أسس حكم الأسرة، مثل صورة قديمة لجدة ماتت قبل أن أولد وقبل أن يشيع التصوير بالألوان، وقام فني استوديو بتلوينها فباتت غريبة ومشوهة ومسطحة بدون تجعيدة واحدة.
على طابقين، يضم قصر الأميرة فاطمة مجموعة لوحات تشكيلية هائلة عن حياة الفلاح والزراعة. قضيت وقتًا أتأمل لوحات على الديب، الذي قدم مجموعة هائلة من المصريين من خلفيات متعددة، فلاحون وبحاروة وصعايدة ونوبيون.
في الصالة الكبرى تتراص عدة لوحات ضخمة للرسام علي الأهواني وبعض لوحات لمجايله الفرنسي روجيه بريڤال، الذي عاش وعمل في مصر عشرات السنين، وفي القاعات الأخرى لوحات لمحمود سعيد ويوسف كامل وهدايت.
هذه مجموعة مهمة من فناني التصوير في النصف الأول من القرن العشرين وما يقدمونه عن الفلاحين وأهل مصر خارج القصور مهم للغاية لدارسي تاريخ الفن وتاريخ مصر.
تفتقر كل المعروضات للوحات تعريفية ومعلومات حقيقة فتترك الزائر أمام مجموعة مفككة من الغرائب لا تروي سردية بعينها عكس ما تسعى معظم المتاحف لتقديمه.
في غرفة بالقصر نفسه أمام ممر به عدة لوحات زيتية بديعة لأشجار رمان ومشربية ضخمة مكتوب عليها أنها كانت بوابة القصر الأصلية توجد غرفة لكاميرات تصوير قديمة بعضها مهشم دون أي توضيح لأهميتها أو لسبب وجودها في المتحف.
على حائط الغرفة؛ صورتان للجنرال محمد نجيب قائد مصر لعدة أشهر قبل أن يعزله عبد الناصر وبالقرب منها صورة تجمع عبد الناصر مع بعض مسؤولي الدولة، يسير ربما في المتحف ذاته منذ أكثر من سبعين عامًا.
لا يعدم المتحف صورًا أو احتفاءً برؤساء وقادة آخرين، منها لوحة اصطفت فيها الفراشات الملونة حتى تصنع اسم الرئيس "مبارك".
المتحف تعليمي جدًا ومهم وزيارة لطيفة ومسلية للأطفال، ومثل كل المتاحف فهو ليس عن حقيقة ما جري وتحليله من منظور الواقع بل تقديم لما اعتقدته النخب الحاكمة عن نفسها وعن مشاريعها وعن أحلام شعب بالكرامة وبتفاوت أقل وعن اهتمامه هو ذاته بذاته.
والخوف طبعًا أن تعود له يد التطوير أو الاستغلال التجاري، حيث إن مساحات الحدائق المهملة فيه كبيرة وتحيطه من عدة اتجاهات مبان مرتفعة وهو قريب من النيل وفي قلب القاهرة مما يجعل قيمته العقارية تخبل أصحاب القرار.
كان المتحف وفق لوحته التذكارية من أفكار الملك الطاغية أحمد فؤاد محطم دستور 1930 وافتتح في عهد ابنه الملك فاروق يناير 1938 ولكن نظام يوليو واضح البصمات في كل أرجاء المتحف.
دعونا نتخيل متحفًا في المستقبل مماثلًا لهذا المتحف يحكي تصورات النخبة الحاكمة عن نفسها وعن مصر، مشهد في مستشفى للدكتور اللواء عبد العاطي إبراهيم وهو ينظر لمريض متصل بماكينة بخراطيم ويعلن أنه اكتشف علاجًا لمرض الإيدز وفيروس التهاب الكبد الوبائي، مشهد جليل لرئيس يقف بمفرده على سفينة تسير في قناة السويس الجديدة ونماذج خشبية للقناة وأرقام على لوح بطول الحائط حول إسهام القناة الجديدة في دخل البلاد والتجارة، مشاهد لأبراج العاصمة الجديدة والعلمين، صور للساحل الشمالي والبحر الأحمر قبل التطوير وبعد التطوير.. إلخ.
زوروا المتحف المفتوح يوميًا، ولا يزيد سعر تذكرته عن عشرين جنيهًا حتى الآن.