
المشي في الذاكرة.. مطاردة هادئة لكتابٍ على أرصفة القاهرة
يستهويني أيُّ حديثٍ عن الكُتب والكتّاب. مثلي مثل عشاق القراءة الأوفياء الذين يدركون الحميمية الخاصة بين القارئ وكتابه، أملك شغفًا يكاد يكون غراميًا بكل ما يتعلق بالكتب؛ الإهداءات المخطوطة على صفحاتها الأولى، تاريخ اقتنائها، رائحتها، لون أوراقها الذي يشحب ببطء، وحتى بالكتّاب أنفسهم؛ أين جلسوا حين كتبوا؟ من ألهمهم؟ ماذا كانوا يشربون أو يسمعون أو يرون من شباكهم؟
قرأتُ مؤخرًا كتاب من كتبي: اعترافات قارئة عادية للكاتبة الأمريكية آن فاديمان، صدر عام 1998 وتُرجم إلى العربية لاحقًا؛ مقالات ساحرة عن الولع بالكتب، تستهلها الكاتبة بمقال ذكي وخفيف الظل عن دمج مكتبتها مع مكتبة زوجها، وما كشفه ذلك من العالم الشخصي جدًا لكل منهما مع كتبه.
كما اقتنيت كتاب خزائن الأسرار لطارق الطاهر (2021)، الذي يتجول بين مكتبات خاصة لمبدعين، فيلبّي فضولي القديم؛ مَن القارئ الذي لا يتلصص على مكتبات الآخرين؟ ولا يهدأ له بال حتى يلتقط عنوان كتاب يقرؤه شخص آخر؟
لهذا، عندما علمتُ بوجود كتاب بعنوان كعب عمل للقاص والروائي حسن عبد الموجود عن الحياة العملية للأدباء، من إصدار دار أخبار اليوم عام 2021، تملكني شغف الحصول عليه. أردته كمن يطلب تذكرةً لزيارة الجانب الآخر من حياة من يحبهم؛ ومن هنا بدأت رحلتي.
الأهرام والأخبار
كانت خطتي أن أذهب مباشرةً إلى دار أخبار اليوم في رمسيس، فأظفر بالكتاب من منبعه. قلبي يرقّ لهذا الشارع الذي يختزن سنواتي الصحفية القديمة، إذ عملت لفترة في الأهرام أونلاين بالإنجليزي.
قررتُ في سذاجةٍ أن أزور مبنى الأهرام أولًا، لأصعد السلالم الرخامية البيضاء في المبنى القديم وأشرب شيئًا في الكافيتريا بالدور العلوي كما اعتدت في الماضي. حملت كارنيه الأهرام العتيق تميمةً زمنيةً، لكن أفراد الأمن انتفضوا حين أريته لهم، وأدخلوني إلى مكتب عميد ما، ألقى عليّ محاضرة عن خطورة دخولي وضحك ساخرًا حين ذكرت له أسماء مديريّ وزملائي السابقين، ثم سحب كارنيهي وتأكد من خروجي بنفسه.
خرجت من الأهرام كمن طُرد من ذاكرته. مضيتُ نحو مبنى الأخبار القريب، الذي كنا نراه من شبابيك مكاتبنا قديمًا كأنه عالم موازٍ يشبهنا لكننا لسنا هو. كنت أطمع أن تحتويني أخباره وتبيعني الكتاب وتهديني فوقه عشرة كتب تطفئ غضبي.
في مكتبة أخبار اليوم الصغيرة استقبلني رجل طيب. عرف الكتاب فورًا، لكنه أخبرني أنه في المخزن ويتعذر إحضاره الآن، ونصحني أن أعود "بكره". قلت له "أنا جاية من بعيد"، فأجرى مشكورًا بعض الاتصالات بينما جلست لأتصفح الكتب. سألني مازحًا "حضرتك معانا في الأخبار؟" فأجبته "لا والله بس كنت في الأهرام"، فرد ضاحكًا "وليه كده؟".
لم أحصل على نسختي من كعب عمل، لكني اشتريت رواية ماركيز القصيرة ليس لدى الكولونيل من يكاتبه، وغادرت.
على أرصفة رمسيس
قررت التوجه إلى وسط البلد، لكني توقفت أولًا عند باعة الكتب القديمة على أرصفة شارع رمسيس. ثمة متعة خاصة في العثور على كتاب مرغوب وسط ما استغنى عنه الآخرون.
بعض الباعة يرتبون الكتب بعناية، وآخرون يلقونها في أكوام عشوائية تحتاج أن تقرفص لتبحث بينها. لم أجد ما أبحث عنه، لكني لم أقاوم واشتريت كتاب المواصلات لعمر طاهر، وفن التصوير الشعبي لنيفين خليل.
واصلت طريقي إلى وسط البلد. توقف أمام فرشات الكتب في ميدان التحرير وشارعي طلعت حرب وقصر النيل.
أثناء البحث كنتُ أرى القاهرة بعيونٍ غريبةٍ وأليفةٍ في آنٍ؛ مدينتي التي حاولتُ أن أعرف إن كانت لا تزال تتذكرني بعد غياب أم لا.
وجوه وذكريات
لم أجد في البداية بائع الجرائد الذي اعتدتُ أن أشتري منه أمام بوابة المبنى القديم للجامعة الأمريكية في التحرير؛ الرجل الأسمر صاحب النظارة السميكة والابتسامة العريضة الذي كان يبيع مجلات وكتبًا أجنبية.
ثم وجدته أخيرًا في شارع محمد محمود وقد انكمشت فرشته في إشارة ضمنية إلى ركود سوق الكتب والمطبوعات، لكنه استقبلني بالبشاشة ذاتها. رشح لي الكتب واحدًا تلو الآخر مؤكدًا أن لكل كتاب قارئه الخاص.
اشتريت منه كتابًا قديمًا بعنوان وراء الأخبار ليلًا ونهارًا لفيل أوت، لأرضي هوسي بالكتب الصحفية القديمة.
في هذا الشارع الذي يحمل الكثير من ذكرياتي، وربما لدى نفس البائع، وقفتْ معي منذ سنوات طويلة صديقتي وزميلة الدراسة المترجمة والباحثة مروة عرفة، التي قُبض عليها في أبريل/نيسان 2020 بتهمة الانضمام إلى جماعة إرهابية عندما كانت ابنتها الوحيدة بعمر سنتين.
ما زالت مروة في السجن حتى اليوم، وقلبي ينفطر من حرمان ابنتها منها. كنا نحب الكتب والمشي، أذكر إحدى الليالي التي جمعتنا؛ في شارع محمد محمود، نتمشى ونأكل ونضحك كعادتنا، نتحدث فيما تتحدث فيه الفتيات في تلك السن قبل أن تجرفنا الحياة في تياراتها العنيفة.
غادرت شارع محمد محمود وأنا أرى القاهرة مثل شريط باهت. وقفت أمام مكتبات كثيرة ولم أجد كعب عمل، لكني تورطت في شراء كتب أخرى. لطالما استمتعت بالشراء من الأرصفة أكثر من المكتبات التجارية الشهيرة. كنت أحب مكتبة عمر بوك ستور فوق مطعم فلفلة في شارع طلعت حرب، لكني حين مررت بهما وجدت المكتبة والمطعم مغلقين، كأن الماضي أغلق أبوابه أيضًا.
سور الأزبكية.. قلب بلا روح
عند هذه النقطة قررت التوجه إلى سور الأزبكية وكلي أمل أن أجد ضالتي. لكن الخيبة تسللت إليّ سريعًا.
السوق الجديدة أنيقة ونظيفة، بمكتبات خشبية مصممة بعناية، منفصلة عن ضوضاء العتبة. لكني افتقدت القديمة؛ المكتبات ذات الأبواب المشربية والأسماء المحفورة في الخشب، أصوات الباعة والأحاديث التي يتبادلونها مع الزبائن أثناء إمساكهم بأكواب الشاي، ومشاكساتهم مع بعضهم البعض، ومداعباتهم للقطط النائمة والمارة بين أكوام الكتب.
كانت تحتاج الترميم لا الإزالة؛ زرت السوق القديمة في صيف 2024 ووجدتها متهالكة، لكني تمنيت أن ترمَّم دكاكينها بدل أن تُمحى. تتباهى الشعوب بطاحونة عتيقة، فلماذا نمحو نحن إرثنا الثقافي الحي؟
المشكلة أن الكتب لم تعد تُعرض في الخارج، بل كُدست داخل محلات ضيقة، والباعة يجلسون خارجها يسألون المارة عن ضالتهم "بتدوري على إيه". حكى لي أبي عن زياراته للسوق وهو طالب في المرحلة الثانوية حين كان قريبًا من سور حديقة الأزبكية، يمر به في طريق ذهابه وعودته، ويطالع الكتب معلقة على السور.
قلت لصاحب آخر مكتبة دخلتها من شدة ضجري "مش عاجبني السوق الجديد ده"، نظر إليَّ صامتًا، رأيت الحزن على وجهه، وقال "ما فيهوش روح".
لم يعرف أغلبُ الباعة كتاب "كعب عمل"، لكن أحدهم سألني عن موضوعه وحدثني باهتمام، فأعاد لي بعض الأمل.
عند باب إحدى المكتبات رأيت عجوزًا تجلس تحت شمس الظهيرة، تسأل عن كتابين أخذهما منها أحدهم ولم يعدهما، تقول إنها تريد أن "تؤنس كتبها بجيرانها القدامى". شعرت أنني التقيت روح السوق القديمة في هيئتها.
من الرصيف إلى الموبايل
عدت إلى بيتي دون الكتاب، ولم أجد أمامي إلا اللجوء للعالم الذي سبق واكتشفته؛ باعة الكتب المستعملة على فيسبوك. صفحات ومجموعات تبيع كتبًا أصلية ومنسوخة بأسعار يسيرة. تخيلت نفسي في أيام الدراسة، أعلق على بوستات عرض الكتب للبيع "حجز من فضلك" طيلة الليل، وأستلم الكتب من محطات المترو أو في سوق ديانا الأسبوعي وسط القاهرة.
أرسلت رسائل لإحدى عشرة صفحة أسأل عن كعب عمل. جاءني الرد ذاته "غير متوفر". لكني انسقت دون أن أشعر إلى عوالمهم، أتصفح كتبًا سبقني إليها آخرون وكنت أتمنى اقتناءها؛ من صندوق الموسيقى لمجدي نجيب، ومدن الملح لعبد الرحمن منيف، وألف حكاية وحكاية من الأدب العربي القديم. لا نهاية في الأفق لقائمة الكتب التي أريدها.
انتهى بي المطاف كالمعتاد في الطائرة الباردة. تنتشلني من موطني في القاهرة إلى بيتي البعيد في إنجلترا. لكن يكفيني ما عدتُ به من رحلتي بين الأهرام ورمسيس ومحمد محمود وسور الأزبكية من ذاكرةٍ للبشر والأماكن والطبائع التي صنعتني، والتي تشبه رحم أمي يستحيل التبرؤ منه، ليطمئن قلبي كمن يغفو بعد تيه طويل.
تغيّرتْ القاهرة كثيرًا، لكنها لا تزال تخبئ ذكرياتي بين طياتها. أفتش عنها فأجدها، وأضمها فأشم العبير ذاته… كالابنة المنسية التي تتشبث وحدها بفتات الوفاء، ظللتُ أتمنى لو أن كل أسباب الرحيل تتبدل، وأبقى.