تصميم: المنصة

بلاغة القرآن على مصاطب العوام

منشور السبت 15 فبراير 2025

كنا في امتحان الكمبيوتر، الذي يُسمُّونه الحاسب الآلي، للصف الخامس الابتدائي، ولأنها مادة غير أساسية، يُصاحب امتحانها آخر لمادة أساسية. يومها أطلقنا دعواتنا الطفولية بأن يرزقنا الله مراقبينَ "لُذاذًا" يتغاضون عن بعض الغش ويسمحون بقدرٍ من التسيُّب في اللجنة، كوننا أعطينا أولوية المذاكرة للمادة الأخرى الأساسية.

وجدنا من نصيبنا مِس ناهد التي وقفت واجمة في أول الفصل، وأستاذ ذكي الذي جلب دكَّةً خشبيةً وجلس عليها في آخره. نظرنا كأطفالٍ لبعضنا البعض وبدأت همسات الضحك؛ ليقاطعها أستاذ ذكي بحسه الفكاهي قائلًا "إنها عليهم مؤْصَدة"!

حينها، وكطفل سريع الانبهار، أُخِذت بهذا الاقتباس ورأيت فيه التطبيق العملي الذي يسد الفواصل بين حياتنا وما في الكتب. حماسة تشبه تلك التي كانت تصيبنا عندما نسمع خطيب الجمعة ينطق بيت شعر مما ندرسه، فتلمع في عيوننا نشوة المعرفة. النشوة نفسها فتح أستاذ ذكي، دون أن يدري، أفقًا لسؤال سأطرحه بعد سنوات.

وعلى ذكر سورة الهمزة واقتباس أستاذ ذكي الجميل منها، فحتى اليوم لا تعتمد أمي في وصف شدة حرارة الجو إلا آية نار الله الموقدة، وما زلت كلما قرأت شعرًا لفؤاد حداد أجد من يهمس في أذني "بصرت بما لم تبصروا به"!

أبعد من الأدب

في كادر سريع من فيلم كلمني شكرًا لمخرجه خالد يوسف، محل حلاقة وعلى بابه يافطة صغيرة مكتوب عليها "وجوه يومئذ ناعمة"، في مشهد لم يسبب لي أي ضيق أو إحساس بإهانة النص القرآني أو النيل من قدسيته.

لا أرى غضاضةً في أن يستخدم الحلاق آية "وجوه يومئذٍ ناعمة" وصاحبُ محل العصير "وسقاهم ربهم شرابًا طهورًا" أو حتى أن يكتب سائق الميكروباص على زجاج سيارته الخلفي "يا بني اركب معنا". فاستخدام مثل هذه الآيات آتٍ من منطلقات بسيطة ترجو البركة من كلام الله، بأكثر مما تسخر من النص القرآني أو تقلل منه، تمامًا مثلما يُوضع المصحف على التابلوه أو تُعلَّق السبحة في المرآة. وسبحان الذي أجرى كلامه على ألسنة العوام بتلك السلاسة وهذا التبسط.

لم يترك نصٌّ ما تركه القرآن من أثر في تشكيل حضارة كاملة

تفتح هذه الاقتباسات طريقًا صغيرًا نحو هذا الباب لاستغلالٍ لغويٍّ أوسع للنص القرآني، يتعدى كونه دستورًا دينيًا تعبديًا. فإذا كان كل مجتمع صعيدي وبدوي ونوبي وأمازيغي وفارسي.. إلخ، يتأثر أهله في لغتهم اليومية بسيرهم التراثية وأمثالهم الشعبية وتعابيرهم التي توارثوها جيلًا بعد جيل، فإن مجتمعاتنا العربية تأثرت بالقرآن كمرجع تنعكس مفرداته وتراكيبه على مرآة ألسنتنا وهي تنطق لغتنا اليومية دون قصد، كحال كلٍّ منّا وهو يستعيد، دون عمد، التعبيرات التي سمعها كثيرًا في نشأته من حكايات جدته أو شروح معلمه.

الحديث هنا عن التوسع في اقتباسات القرآن اللغوية وتداخلها في حياتنا اليومية، وليس فقط الحديث عن اقتباساته الأدبية التي قُتلت بحثًا.

دور القرآن هذا كان أحد شواغل المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد، الذي يقول في كتابه مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن:

"إن البحث عن مفهوم 'النص' ليس في حقيقته إلا بحثًا عن ماهية 'القرآن' وطبيعته بوصفه نصًا لغويًا، وهو بحث يتناول القرآن من حيث 'هو كتاب العربية الأكبر' وأثره الأدبي الخالد، فالقرآن كتاب الفن العربي الأقدس، سواء نظر إليه الناظر على أنه كذلك في الدين أم لا".

"وهذا الدرس الأدبي للقرآن في ذلك المستوى الفني، دون نظر إلى اعتبار ديني، هو ما نعتده وتعتده معنا الأمم العربية أصلًا، العربية اختلاطًا، مقصدًا أولَ، وغرضًا أبعدَ، يجب أن يسبق كل غرض ويتقدم كل مقصد، ثم لكل ذي غرضٍ أو صاحب مقصد بعد الوفاء بهذا الدرس الأدبي أن يعمد إلى ذلك الكتاب فيأخذ منه ما يشاء ويقتبس منه ما يريد ويرجع إليه فيما أحب من تشريع، أو اعتقاد، أو أخلاق، أو إصلاح اجتماعي، أو غير ذلك، وليس شيءٌ من هذه الأغراض الثانية يتحقق على وجهه إلا حين يعتمد على تلك الدراسة الأدبية لكتاب العربية الأوحد دراسة صحيحة كاملة مفهمة له".

الوصايا في عشق النساء

 في عام 2003، تقدَّم النائب مصطفى محمد مصطفى بمذكرة إلى رئيس مجلس الشعب لمساءلة رئيس الوزراء على إصدار الهيئة العامة للكتاب، التابعة لوزارة الثقافة، كتاب الشاعر أحمد الشهاوي الوصايا في عشق النساء، معتبرًا أن مطبوعات كهذه تستهين بالدين وتستفزّ مشاعر المسلمين.

أحال البرلمان هذه المذكرة إلى رئيس مجلس الوزراء عاطف عبيد، الذي أحالها بدوره إلى رئيس الهيئة العامة للكتاب سمير سرحان، ليُسحب الكتاب من الأسواق حتى تتولى لجنة قراءة تتحقق في صحة الادعاء بمساسه بالدين. أصدر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر لاحقًا فتوى بمصادرة الكتاب لم تلتزم بها الهيئة التي أكد رئيسها أن الكتاب لا يتضمن إهانة للنص.

كل الفتاوى تؤول في هذا الجانب إلى الإبقاء على القرآن قاموسًا يُرجع إليه عند الاقتباس

في مقدمة الجزء الجديد من الوصايا الذي صدر بعدها بثلاث سنوات، أورد الشهاوي ما قال إنه نص الفتوى، ومنها "في الكتاب تَمجيدٌ للذّةِ الجسديةِ بين المعشوقةِ وعاشقِهَا مع الاستشهادِ بعباراتٍ من القرآنِ الكريمِ، وإساءات الكتاب كثيرة فَهُوَ يَسُوق آيات القرآنِ الكريمِ في غَيْرِ مَوْضِعِهَا ويستشهدُ بها في عبارات الفجورِ والفسقِ والعري، واستعمال أوصاف اللَّه تعالى في وَصْفِ المعشوقةِ مِمَّا يُشَكّل كُفْرًا صريحًا".

السؤال هنا، إن كان هذا مع الشعر والأدب وما يتحملانه في أصل كتابتهما استنادًا إلى اللغة وجمالياتها التي يشكل القرآن مرجعًا أساسيًا لها فما بالك بتبسيط الاقتباس على ألسن العامة؟

جاء في الفتوى رقم 3194 الصادرة من دار الإفتاء عام 2016، ردًا على حكم الاقتباس من القرآن وتضمينه كلام الناس، "إذا كان الاقتباس من القرآن بصورة حسنة موافقة للشروط المذكورة فهو حسن، وأما إن كان مغيرًا للمعنى بصورة مخلّة، أو مضمَّنًا في كلام مبتذل لا يتبين له معنى صحيح، ككلام العوام والسوقة من الناس، أو كلام كثير الرمز أو غريب عن الأسماع، فلا يجوز. والله تعالى أعلم".

كل الفتاوى تؤول في هذا الجانب إلى الإبقاء على القرآن قاموسًا يُرجع إليه عند الاقتباس في الفتوى والدعوة والخطب، وبحذر شديد من التفاعل معه في كلامنا اليومي وقاموس حياتنا الاجتماعية خشية إنزاله منزلة التباسط والسخرية. لكن يظل السؤال؛ من يستحق أكثر ممن أوتي جوامع الكلم أن نأخذ الكلام عنه ومنه، وأي كتاب (عربي) أحرى بأن يكون منهلًا لفظيًا نستقي منه متى شئنا؟

يرفض المجتمع انتشار الاقتباس باستنكار دون تفكير. يتكرر الأمر إن حاولت تمرير آيات قرآنية في كلامك اليومي من تقرير أو سؤال أو نصح أو استرسال أو شرح أو حتى مزاح.

يأتي هذا الرفض المجتمعي من قوة وصلابة حضور شكل التدين، تستنكر الأمر قبل النظر إليه. ولعل هذا الخوف هو ما جعل الأدباء يستقون من الثقافة اليونانية بآلهتها وقصصها وأساطيرها أكثر مما يتعاطون مع ثقافتنا الإسلامية وما تعج به من مواد أكثر اتصالًا بما يكتبون، على الأقل من حيث اللغة.

قبل سنتين تقريبًا، وفي صباح كان كئيبًا للغاية، وفي عنابر أحد مراكز تدريب القوات المسلحة، صحونا وتناولنا إفطارنا وهرعنا إلى ساحةٍ لا أول لها ولا آخر. كان يوم الرماية المشؤوم، وفيه سمعت أحد الجالسين جواري يقول "ده ولا سوق الجمعة" ليتردد بداخلي هاتف لا يتوقف: يوم يكون الناس كالفراش المبثوث.