تصوير محمد عوض لـ المنصة
أحواض مزارع الأسماك رشيد وفي الخلفية تظهر ورش صناعة قوارب الصيد، مدينة رشيد

رشيد.. من صد العدوان على الوطن إلى الهروب منه

منشور الخميس 17 أكتوبر 2024

على مسيرة ساعة في طريق قطعته السيارة من مدينة الإسكندرية باتجاه الشرق، كان الحديثُ يدور بين 14 شخصًا عما ينتظرهم في رحلة استكشاف قصص عن رشيد، وحكايات البشر وتاريخ المدينة التي تحولت من حائط صد سفن الاحتلال إلى ميناء لقوارب الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.

 تجمع ركابَ السيارة مشاركتُهم في مشروع "خرائط رشيد" في إطار برنامج خارج حدود العاصمة، الذي ينظمه معهد جوته بهدف دعم المشروعات الثقافية في المحافظات خارج القاهرة.

أطلال الماضي 

أطلال حصن أبو مندور، مدينة رشيد

ما إن وصلت السيارة إلى سفح تل أبو مندور، طلب محمد وجيه، أحد المشاركين في البرنامج، من رفاقه الصعود أعلى تل رملي متوسط الارتفاع. وقف يتصبب عرقًا وقال "هنا نرى أطلال حصن أبو مندور، وما تبقى من جدران وآثار الحصن الذي وصفه رحالة فرنسيون في كتاب وصف مصر بأنه تل".

يشير وجيه إلى الحصن "هنا كانت صوامع بناها العرب مع دخول مصر، أصبحت لاحقًا بقعة مثالية لمن يريد السيطرة على المدينة وموقعًا لمدافع الفرنسيين والإنجليز، وفي الناحية الأخرى تظهر مئذنة جامع زغلول أحد أقدم مساجد رشيد الذي قصفته قوات الإنجليز من أعلى تبة أبو مندور، بعدما هتف المؤذن محذرًا من سفن الإنجليز التي وصلت للمدينة في حملة فريزر (1807)".

رفع رأسه لأعلى قبل أن يقول "بقي من الحصن أطلاله وأعيد بناء المئذنة لتكون شاهدة على إحدى المعارك التي غيرت تاريخ مصر وإحساس المصريين بأنفسهم".

اجتمع محمد وجيه ومحمد خضر ومنة الله عبد المنعم خلال الصيف في جولة للبحث في تاريخ المدينة، ضمن مشروع "خرائط رشيد" ومدى تأثر سكانها الحاليين بأحداث ساهمت في تغيير الفكر المصري العام، وأنتج كل منهم بطريقته ما يراه من تأريخ المدينة. 

بينما انشغل وجيه في إعداد فيلم عن الأماكن التي حملت تاريخ رشيد؛ اهتم خضر ومنة الله في البحث عن ما تعيشه المدينة حاليًا.

رشيد بعيونهم 

التقى الثلاثة مجددًا في سبتمبر/أيلول لعرض نتاج المشروع، وهو الشهر الذي تحتفي خلاله محافظة البحيرة بعيدها القومي في ذكرى صد أهالي رشيد لحملة فريزر، وللمفارقة شهد الشهر ذاته أكبر فاجعة للمدينة بغرق ما يقرب من 160 شابًا على متن قارب للهجرة غير الشرعية خرج من رشيد عام 2016، فكانت المدينة ذاتها التي تصدت لسفن الاحتلال ميناءً لخروج قوارب الهروب من الوطن.

يعيش وجيه في مدينة رشيد ويهوى تقديم محتوى مرئي على الإنترنت عن طبيعة المدينة والحياة البرية بها ويساعد أصدقاؤه زوار المدينة بمعلومات عن آثارها، ووجد في مشروع "خرائط رشيد" دعمًا لإنتاج فيلم وثائقي عن الآثار المعمارية التي شهدت أحداثًا أسهمت في تاريخ مصر بدءًا من دخول العرب حتى الحملة الفرنسية (1798) والتصدي لحملة فريزر (1807). 

يقول إن "رشيد بها ثاني أكبر المباني المسجلة آثارًا إسلامية بعد القاهرة ولكنها لا تتمتع بنفس الشهرة، لذا أحاول توثيق هذا التراث الغني".

مشاركون في مشروع "خرائط رشيد" خلال جولة بـ"بيت الأماصيلي" أحد المنازل التراثية برشيد

يشرح مسؤول الوعي الأثري بمنطقة آثار رشيد محمود سعد الحشاش لـ المنصة "يمكن اعتبار التصدي لحملة فريزر في رشيد نقطة فاصلة في تاريخ المصريين ولكن المدينة فهمت ما يمكن أن يفعله المحتل، من وقت الحملة الفرنسية التي دخلت مصر بسهولة بالترويج إلى أنها وصلت مصر لتخليص الناس من سطوة المماليك". 

لكنه يلفت إلى أن محاكمة الفرنسيين لحاكم رشيد، عثمان خجا، وإعدامه وتعليق رأسه على باب منزله، جعلت الناس يتأكدون من أن ظلم الفرنسيين لا يقل قسوةً عن المماليك ومن بينهم خجا.

التأسيس لتأثير الحملة الفرنسية على طريقة تفكير المصريين يرصده كتاب صحوة المحكومين في مصر الحديثة من رعايا إلى مواطنين 1798-2011، الذي يوضح اعتقاد المصريين في فترة الحكم العثماني أن أي عمل إنساني نابع من الإرادة الإلهية، ولا توجد إرادة شخصية، وأن المواطن لم يكن على وعي بأنه مصري، إذ كانت تحكمه هوية إسلامية وهوية محلية مرتبطة بالقرية أو المدينة. 

مسجد أبو النضر أشهر مساجد رشيد كما يظهر من أعلى باخرة تبحر في نهر النيل

يبدو تفسير كتاب صحوة المحكومين متوافقًا مع رؤية الحشاش، الذي يشير إلى بدء حملة المقاومة ضد الحملة الفرنسية بصيحة من أعلى مئذنة المسجد وقيادة الأئمة والشيوخ للمقاومة.

ورغم الثراء التاريخي للمدينة ودورها، يرى محمد وجيه ورفاقه من مشروع "خرائط رشيد" أن سكان المدينة الحاليين لا ينظرون إلى تاريخها بمثل هذا الشغف. 

محاولة لرسم خرائط بشرية

تشرح منة الله عبد المنعم منسقة مشروع "خرائط رشيد" لـ المنصة أن الهدف الأساسي من المشروع هو "تدوين سرديات بديلة للمدينة والمقاربة بين الحكايات الشعبية وتاريخ رشيد، من خلال تتبع حكايات المدينة من نشأتها ومقاومة الاستعمار الفرنسي والإنجليزي، ومدى وعي سكانها بالتاريخ، وتأثيرها على حاضرها ومستقبلها"، في مقابل التاريخ المكتوب عنها.

بدأت علاقة منة الله برشيد مبكرًا "كنت أسكن في مدينة أبو المطامير وهي واحدة من مدن محافظة البحيرة، ورشيد كانت المحطة الأولى للرحلات المدرسية في الطفولة لزيارة الحدائق والمتحف والبحر، ثم موقعًا مناسبًا لعزلة الكتابة والسير بشوارع المدينة والكورنيش على النيل وحجم البراح الذي أفتقده في مدن محافظة البحيرة وحتى في الإسكندرية حيث أسكن حاليًا".

تكشف منة الله أن عملها في المشروع جعلها تدرك عدم اهتمام سكان رشيد الحاليين بتاريخ المدينة وتأثيره في الوعي الجمعي المصري، تبدي أسفها لأن "الواحد منهم بيكون ممتن للي بيسمع حكايته الشخصية أكثر من اهتمامهم بإعادة سرد حكاياتهم مع المدينة".

يعمل المشروع حسب منة الله على التأريخ الشفهي لحفظ قصص المدينة من جديد "نعمل على تفكيك مفاهيم التأريخ من المدينة نفسها، ما قصتها؟ وكيف أصبحت؟ ما هي عليه الآن؟ ندور حولها ونضع عينًا على تغير مكانها على الخريطة التجارية والسياسية عبر العصور".

ورشة تصنيع أخشاب الأقفاص من جريد النخيل، إحدى أقدم الحرف اليدوية برشيد

فيما تعرفه نايري عبد الشافي مدربة التأريخ الشفوي لـ المنصة بأنه أداة بحثية مختلفة تركز على تجربة الفرد ووجهة نظره في الحياة.

"نستخدم المقابلات لتوثيق القصص والسرد الشفوي مباشرة من الأفراد. ويساعدهم على اختيار كيفية توثيق وعرض قصصهم كما يرونها، بناءً على خلفياتهم وفهمهم لتجاربهم" تضيف المدربة.

لاحظت نايري خلال جولات في رشيد، أن بعض المحادثات التي شهدتها بين المشاركين والمشاركات وسكان المدينة كانت روايات غير موثقة عن تطور شوارع ومناطق معينة، وتطور مهن مختلفة تم توارثها على مر الأجيال.

غير أن تلك القصص لا تصل إلى إجابة السؤال الذي يشغل بال منة الله "كيف يختار الشباب رشيد كمحطة للسفر إلى أوروبا؟"، قد تبدو الإجابة من تاريخ المدينة الذي يحمل بين طياته صناعة السفن واليخوت.

لا يزال حلم الهجرة يراود شباب رشيد على الرغم من حكايات الفقد في البحر، وغرق المهاجرين غير النظاميين، تقول منة الله "يعتقد الشباب أن حرفهم غير مقدرة ماليًا بدءًا من الحرف اليدوية البسيطة إلى بناء وصناعة قوارب الصيد أو اليخوت السياحية، يرون البر الثاني فرصة لنشر حرفتهم والاستفادة ماليًا".

حسب تقرير لوزارة التخطيط المصرية سجلت نسبة السكان تحت خط الفقر في محافظة البحيرة 47.7% من نسبة السكان، ومن بينها رشيد، إذ يعتمد أهلها على الزراعة والصيد وصناعة القوارب كمصدر أساسي للدخل.

هجرات قديمة غير موثقة

في التأريخ الشفهي لرشيد، جمع محمد خضر حكايات عم سيد، نجار عجوز ترك رشيد أكثر من مرة للعمل في الإسكندرية ثم دمياط وصولًا إلى أسوان، سأله خضر لماذا أسوان؟ فقال "شغل فلوسه حلوة أحسن من هنا، وبالمرة أشوف الآثار".

يقول خضر لـ المنصة "كبار السن كانوا بيتكلموا عن السفر لإسكندرية أو القاهرة، بس الشباب يفضل أوروبا". يعيش محمد خضر بمدينة الإسكندرية ولكنه يهتم بدراسة العلاقات المتضادة بين المدن المتقاربة "أتذكر أني زرت رشيد مرة واحدة في صغري، وأعتقد دائمًا بأن المدن المتجاورة ترتبط ببعضها البعض بعلاقة عكسية ما بين الازدهار والتراجع، سواء اجتماعيًا أو ثقافيًا، وفي حالة رشيد والإسكندرية يمكن القياس اقتصاديًا وسياسيًا".

تعددت زيارات خضر لمدينة رشيد على مدار ثلاثة أشهر، عمل خلالها على إنتاج قصص قصيرة معتمدًا على التأريخ الشفهي كأسلوب بحثي لجمع حكايات البشر للإجابة عن سؤال "كيف يرى أهل رشيد تراجع اقتصاد المدينة لصالح الإسكندرية".

قارب يبحر لنقل الركاب بين ضفتي النيل ومدينتي رشيد وفوه بكفر الشيخ.

"في مقابلاتي مع سكان رشيد فوق سن الستين لما يعرفوا أني سكندري، يقولوا لي أكيد ليك أصول رشيدية، لأن كثير من سكانها قديمًا انتقلوا للعمل في ميناء أبو قير بالإسكندرية ونقلوا صناعة السفن لهناك".

هذه الثقة التي يتحدث بها أهالي رشيد الكبار، أربكت خضر وخلقت لديه الدافع للبحث عن إجابة السؤال "كيف بدأت العلاقة بين المدينتين والتعامل بين ميناء أبو قير ورشيد التي كانت مزدهرة بالزراعة وصناعة السفن ومسارها إلى القاهرة عبر فرع النيل المرتبط باسمها".

يرجع خضر العلاقة الضدية بين المدينتين لكتاب لمحة عامة إلى مصر لكلوت بك الذي اعتبر أن الأهمية التجارية لكل نقطة من نقط سواحل مصر على البحر الأبيض المتوسط يحددها سهولة الوصول إلى القاهرة، وهو ما تحقق لرشيد بسبب فرع النيل وزاد من أهميتها التجارية، ومع استعادة الإسكندرية مكانتها بحفر ترعة المحمودية تراجعت رشيد.

يتعجب خضر من تسامح أهالي رشيد وسماحة تعاملهم مع تراجع اقتصاد المدينة وارتفاع نسبة الفقر مكتفين بكون مدينتهم ما زالت تحمل إرثًا ثقافيًا وترحب بضيوفها وإن كانت تضيق بشبابها الراغبين للهجرة، السؤال الذي لا تزال منة الله تبحث له عن إجابة، فيما يتمنى وجيه لو يمتلكون شغفًا يشابه ما يدفعهم لاستكمال مشروعهم.