
الاستعمار بميزان إفريقي.. خيول برية في حظيرة السيد
"نصف إنسان، نصف شيطان"؛ يستهل الروائي الأيرلندي جويس كاري روايته الشهيرة مستر جونسون بوصف الإفريقي الأسود، ليس كما يراه هو وإنما كما رآه الرجل الأبيض في عقود الاستعمار الأوروبي لإفريقيا.
نظرة الأبيض الاحتقارية للسود تنطلق من التقليل من كل ما هو "آخر"، فالأوروبي الأبيض يرى نفسه الجنس المختار، وعليه فهو أعلى من كل ما يختلف عنه في اللون، أو الجنس، أو العرق، أو حتى العادات والتقاليد، فقبيل نصف قرن كان البريطانيون ينبذون النساء اللواتي يضعن مستحضرات تجميل زاعقة واصمين إياهن بأنهن فرنسيات.
إذا كان الأوروبي تمادى في عنصريته مع من هم من نفس جنسه ولونه ودينه، ما بالك بسلوكه تجاه الإفريقي، عديم السردية، فالتاريخ يكتبه المنتصرون، بالتالي السردية الإفريقية هامشية أمام سردية الأوروبي الأبيض التي انتشرت على نطاق واسع.
نمّطت روايات وكتب الإفريقي بأنه الأسود الجاهل، عبد السيد الأبيض المتعلم الذكي، وربما كان هذا الدافع وراء كتابة تشينوا آتشيبي لرواية الأشياء تتداعى، التي طُبعت للمرة الأولى في يناير/كانون الثاني عام 1958، وتؤرخ لفترة الاحتلال البريطاني لنيجيريا، بنهاية القرن التاسع عشر.
الخط المستقيم مقابل الدائرة
ما الفارق بين الخط المستقيم والدائرة؟ هذا ليس سؤالًا مرتبطًا بدرس رياضيات، وإنما تفسير للعقل الأوروبي مقابل الإفريقي، فالأول ينظر إلى الحياة باعتبارها خطًا مستقيمًا واحدًا، بالتالي فإن الحقيقة واحدة تتم عبر خط واحد، وهذا ما يفسِّر اعتقاد الغربي بأن كل ما عداهم دونٌ، فالإيمان بمعايير جمالهم وثقافاتهم علمهم فقط هو الصواب؛ غيبياتهم قابلة للقبول العقلي في نظرهم، بينما غيبيات الآخرين خرافات وأساطير.
على الجانب الآخر يظهر الإفريقي بما يمكن أن يصبح دائرة. الحقيقة واحدة وهي قلب الدائرة، لكن كيف يمكن الوصول إلى القلب؟ بعدد لا نهائي من الطرق، وهذا يتضح جليًا في رواية آتشيبي، فعندما حدثت مواجهة بين الكاهن المسيحي وكاهن القبيلة قالت أجوفيا زعيمة أرواح الأجداد "تستطيع أن تبقى بيننا كما تستطيع أن تعبد إلهك الخاص، فمن الحَسن أن يعبد الإنسان آلهة أبائه".
يحرص الأوروبي على تعميم ثقافته الاستهلاكية عبر دول العالم كلها، وبامتلاكه التكنولوجيا يصبح هو الأول في الخط المستقيم الواحد هذا! ما تطلق عليها الأدبيات "أزمة فجوة اللحاق"، ما يظهر أيضًا في "الأشياء تتداعى"، فعلى الرغم من كون الإفريقي صاحب الأرض الأصلي، فإن الأبيض بنى محكمة وكنيسة ومستشفى ومدرسة، واعتبر السكان الأصليين جهلة أميين، لا بد من تعليمهم على يده هو، مع عدم تقبُّل رأي آخر لأن هذا الرأي يخرج عن الخط الواحد، وعن القمة الواحدة!
السردية الغربية
الهدف الرئيس من كتابة هذه الرواية عرض سردية هامش، سردية مقابلة للسردية الغربية، تلك التي صوّرت الإفريقي باعتباره شخصًا همجيًا لا يستحق الحياة فهو أقل من كونه إنسانًا، أو كما ذاع قول منسوب لمونتسكيو: لا يمكن أن يكون الإله قد خلق أولئك، وفي إطار سعي آتشيبي لتفنيد هذه السردية الأوروبية عن الإفريقي، لم يذهب لنفي وجود هذه الشخصية، وإنما انصب تفنيده على التنميط، عبْر عملية تفكيك أظهرت أونوكا أبو البطل ضعيفًا للحد الذي يجعل مجرد الحديث عن الحرب يخيفه.
الإفريقي كأي إنسان لا يبدي في بعض الأحيان عاطفة علنية وليس نمطًا واحدًا أو صورة ثابتة
بينما أوكونكوو قوي للحد الذي يجعل أحاديث النساء تنفّره، كما وُجد المفوه الحكيم، ورجل الحرب الاندفاعي، الوسيم والغليظ، القصير والطويل، وغيرهم. ومن ثم بدأ يتحدث عن الإفريقي الإنسان، فنجد أوكونكوو البطل يخزن مخاوف وذكريات أليمة دفينة في قلبه بسبب أبيه "لكن كان الخوف يسيطر على حياته بأكملها، الخوف من الفشل والضعف.. الخوف من نفسه لئلا يبدو مثل أبيه".
حتى المشاعر، فالإنسان الإفريقي في "الأشياء تتداعى" مثله مثل غيره لا يبدي في بعض الأحيان عاطفة علنية، ويخطئ أحيانًا. لا نمط واحد أو صورة ثابتة. "كيف يراني الآخر؟" هذا السؤال البسيط هو الذي يحدد هوية الضعيف، بينما يحدد هوية القوي "كيف أرى ذاتي؟"، وعليه فإن تنميط الإفريقي، وإظهاره ضعيفًا في السردية الأوروبية، ساهما في إيهامه بأنه جاهل وضعيف ويحتاج لغيره الأذكى ليمحو ثقافته وتاريخه ويكرس تاريخه هو وثقافته، وبالتالي فإن الرواية بشكل خاص والأدب بشكل عام من هذا النوع وسيلة لإعادة تشكيل المرء لتعريف ذاته، وصياغة سردية متماسكة تسهم في تحديد هويته.
أرض الأنا
آمنت الثقافة الإفريقية في مضمونها بأن الأرض غير محدودة، لم يكن هناك ما يُسمى بحدود الدولة القومية، وعند آتشيبي لم تشكل الأرض مشكلةً لأوكونكوو في بداية حياته رغم فقره المدقع وضعف أبيه على ثقافة الآخر التي تسعى إلى التملك، حيث أدرك محدودية الأرض، فسعى لبناء الأسوار.
هذا ما ظهر في الرواية أثناء بناء الأوروبي للكنيسة الأولى. نجد أهل القرية وقد انتابهم الفضول والدهشة معتقدين أن الآلهة ستبتلعهم حتمًا ببناء هذا السياج الذي يشبه فم الإله المفتوح!
ليس الأرض فقط بمفهومها المادي، وإنما مفهوم ممارسة السلطة عليها، فعندما وطأت قدم الرجل الأبيض الأرض الإفريقية، أراد أن يتحدث مع ممثل هذا الشعب فقال "من مالك هذه الأرض؟"، هذا ما أثار دهشة القبيلة بأكملها، تلك التي اعتمدت في الأساس على مجلس الأجداد للتشاور دون النظر إلى مفهوم الأرض، ما يمكن أن يخلق مفهومًا إفريقيًا خالصًا يعد بمثابة إسهام غير مسبوق في العلوم الاجتماعية، وينقلنا للمفهوم الثاني.
زمن الآخر
عبر الفصول الأولى للرواية (أي قبل قدوم المستعمر) لا يكون التعامل مع الزمن جافًا مرتبطًا بأرقام وأيام وإنما عادةً ما استخدم لفظ "سوق" مقابلًا لأربعة أيام بتوقيتنا الحالي، وفي حديث آخر يتحدث عن الساعة بأنها "بعد وجبة منتصف النهار".
يعتبر مفهوم الزمن محوريًا في "الإجماع الإفريقي" أو مجموعة المعتقدات المتفق عليها والمنتشرة بين القبائل الكبرى، فالزمن المعاش بماضيه وحاضره ومستقبله يندرج تحت الـSasa، التي تشبه الذاكرة المؤقتة، بينما الـZamani الماضي القديم، والمستقبل البعيد وكل ما بينهما، ويشبه الذاكرة الدائمة، وبالتالي فإن عملية الموت بالنسبة للمفهوم الإفريقي التقليدي هو انتقال من الـSasa إلى Zamani تدريجيًا.
وهنا يُطرح سؤال، هل يمكن لميت أن يظل في زمن الـSasa؟ والإجابة هي نعم! من خلال تذكر أهله وأصدقائه له، وهذا الهدف هو ما اهتم به أوكونكوو في حياته.
وللمواقيت خصوصية في الثقافة الإفريقية التقليدية، فالسادسة صباحًا هي وقت حلب اللبن/أكاشيش، والثانية عشرة ظهرًا وقت راحة الماشية والبشر/ باري أوموبيراجو، ولشهور السنة تسميات عملية، فنجد أن جماعة اللاتوكا، تسمي أكتوبر/تشرين، الشمس، لأن الشمس حارقة، وديسمبر/كانون الأول، أعط عمك مياهًا، في إشارة لقلة المياه وندرتها في المنطقة.
بقدوم المستعمر فرغ الزمن من مضمونه الثقافي والمجتمعي وخصوصيته، إذ سعى الأوروبي لتحييده لخدمة عقليته الاستهلاكية الصناعية، فبدأت تظهر تقسيمات أخرى للزمن مثل 30 يومًا بدلًا من ثمانية أسواق، بواقع سوقين أسبوعيًا في يومي الأحد والأربعاء.
حرص المستعمر أيضًا على فرض منتجين أساسيين في الدول المستعمَرة؛ الساعة الرقمية ليفرغ الزمن من مضمونه الثقافي والاجتماعي، وبعدها بعقود الواقي الذكري لتغيير الشكل الطبيعي للأسرة والمجتمع. وهذا ما نوّه عنه آتشيبي على لسان السيدة التي تزوجت حديثًا قبل مجيء المستعمر ونفيها أن يكون اقترب منها أي شخص قبل الزواج.
نقد الذات
لم يقدم آتشيبي الرجل الإفريقي ملاكًا يعيش في اليوتوبيا مقابل الشيطان الذي فرضه الرجل الأبيض، بل قدم صورة واقعية للطبيعة البشرية بما فيها من سلبيات وإيجابيات.
على الجانب الديني يذكر آتشيبي أن قومه أو سكان الأرض أعطوا الرجل الأبيض أرضهم التي تحميها آلهتهم، وسمحوا للمبشرين المسيحيين ببناء كنيستهم ظنًا منهم أن الآلهة ستثور عليهم وتلعنهم، وهو ما لم يحدث، ومثَّل خيبة أمل لأصحاب الأرض وإشارة ضمنية إلى أنه ليست كل العقائد التي اعتنقها الإفريقي صالحة.
على الجانب الأخلاقي، يظهر أوكونكوو وهو يضرب زوجاته وأبناءه ضربًا مبرحًا، كما شرع في محاولة قتل بسبب اندفاعه، ولكن كل هذا ربما يكون هامشيًا مقارنةً بالنقطة الأهم، وهي حرصه الشديد خلال مسيرته على تجنب مصير والده وألا يُوصم بأنه "امرأة أو ضعيف"، لكنه ينتحر بنهاية الرواية، كأن قدوم المستعمر دمَّر الصورة التي أفنى بطل الرواية عمره في رسمها لنفسه، لتتحقق النبوءة بـ"تداعي الأشياء".