لماذا لن تعود نفرتيتي إلى أرض الوطن؟
الملكة سجينة في غربتها الأزلية.. وبرلين: مصر لم تطالب بها
"أريد أن أعود إلى وطني" جملةٌ ذيَّلت صورَ تمثال الملكة المصرية نفرتيتي المعروض في برلين، ثم تحولت إلى رسومٌ متحركةٌ ناطقة مولَّدةٌ بالذكاء الاصطناعي. رسالة نفرتيتي التي انتشرت بالأخص عقب افتتاح المتحف المصري الكبير، استدعت جدلًا طالما شغل الأوساط الثقافية والمهتمين بالآثار في العالم بأسره، حول عودة التمثال الشهير إلى وطنه.
في مصر، نفرتيتي حاضرة في كل مكان. وجهها مرسوم على جدران الشوارع، تماثيلها الصغيرة تُباع في بازرات القاهرة، وصورها تزين الحقائب القماشية والقمصان في المحلات التجارية. حتى نسخها المقلَّدة تقف بفخر في متجر الهدايا بالمتحف المصري في ميدان التحرير.
المكان الوحيد الذي تغيب عنه هو قاعدة العرض التي يُفترض أن يقف عليها تمثالها الأصلي.
تمثال الملكة النصفي تملكه مؤسسة التراث الثقافي البروسي، ويُعرض للجمهور بمتحف نويس في برلين منذ عام 2009.
ولكن افتتاح المتحف المصري الكبير في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أحيا حلم استرداد نفرتيتي، وامتد الحلم ليشمل قطعًا أثرية أخرى اكتُشفت في مصر، لكنها اليوم في متاحف العالم.
حجر رشيد على سبيل المثال معروض في المتحف البريطاني منذ عام 1802، ودائرة أبراج معبد حتحور بدندرة يحتضنها متحف اللوفر.
وبينما قدم عالم الآثار المصري ووزير الآثار الأسبق زاهي حواس، مع شخصيات بارزة أخرى، عريضة للمطالبة بإعادة هذه القطع الثلاث إلى مصر، يعبّر أثريون ومؤرخون غير مصريون عن رغبتهم في عودة هذه الآثار إلى مصر، لا سيما نفرتيتي. فلماذا لا تعود إلى الوطن؟
ملكة وتمثال نصفي
الملكة نفرتيتي زوجة إخناتون من الأسرة الثامنة عشرة، الذي حكم مصر نحو عام 1350 قبل الميلاد، تميّز عهدهما بإصلاحات دينية جذرية، من بينها عبادة الإله الواحد آتون، إله الشمس. وفي عاصمتهما أخيتاتون (تل العمارنة حاليًا)، عثر عالم الآثار الألماني لودفيج بورشاردت على التمثال النصفي المصنوع من الحجر الجيري عام 1912.
في ذلك الوقت، ومصر تحت الحماية البريطانية، كانت الاكتشافات الأثرية تخضع لنظام القسمة، حيث تُقسَّم اللُقَىَ (جمع لُقيَة وهي كل ما يُعثر عليه مصادفة على الطريق أو مدفونًا) بين بعثات التنقيب الأجنبية والدولة المضيفة. وفي عام 1913، شُحن التمثال الذي يبلغ عمره 3400 عام إلى برلين، ليبدأ ظهوره العلني عام 1924، ويجتذب الأنظار ويصنع أيقونيته الخاصة باعتباره من أهم القطع الأثرية في العالم.
في مقابلة مع دويتشه فيله، فسرت نائبة مدير متحف نويس في برلين أوليفيا تسورن جاذبية نفرتيتي في الغرب قائلة أنها، "في أوائل القرن العشرين، كانت بالفعل تجسّد نموذج الجمال الحديث كما نراه اليوم، بوجنتيها المرتفعتين وملامحها الرقيقة".
وتؤكد مؤسسة التراث الثقافي البروسي أن اقتناء التمثال قانونيًا وموثّقًا. وردًا على سؤال المنصة عبر الإيميل عن شرعية ملكيتهم له، جاء الرد بأن "العقود المبرمة في تلك الفترة لا تزال سارية، وعملية تقسيم اللُقى الأثرية جرت على نحو سليم، كما تُظهر السجلات، وهي موثقة بالكامل".
الغريبُ في رد المؤسسة كان أنهم لم يتلقوا أي طلب رسمي لاسترداد التمثال من الحكومة المصرية، وهو ما أكدت عليه أيضًا وزارة الخارجية الألمانية عندما سألناهم.
طلب رسمي أم إنكار دبلوماسي؟
الادعاء بأن الحكومة المصرية لم تطلب استرداد نفرتيتي، يرفضه زاهي حواس، ويؤكد أنه في عام 2011 أثناء توليه منصب وزير الآثار، أرسل طلبًا رسميًا إلى كل من وزارة الخارجية الألمانية ومؤسسة التراث الثقافي البروسي. غير أن المؤسسة اعتبرت طلبه "غير رسمي".
وجاء في بيان صحفي للمؤسسة عام 2011 أن "الخطاب ليس موقَّعًا من رئيس الوزراء. لم يردنا أي طلب رسمي من الدولة المصرية لإعادة التمثال". وكررت الخارجية الألمانية الموقف نفسه، قائلة إنها لم تتلقَّ طلبًا عبر القنوات الدبلوماسية الرسمية.
ورفض أندرياس بيشكه، المتحدث باسم الوزارة آنذاك، اعتبار طلب حواس "طلبًا رسميًا. الطلب الرسمي يُقدَّم بين حكومات".
أما حواس، الذي أثار الرد الألماني غضبه، فوصف خروج التمثال من مصر بأنه "سرقة"، وقال إن "عالم الآثار الألماني بورشاردت الذي اكتشف التمثال خدع الجميع. وضع التمثال في صندوق ولم يُفصح أبدًا عن أن ما بداخله هو نفرتيتي!".
وأكد حواس لـ المنصة أن قطعًا فريدة مثل نفرتيتي لم يكن من المفترض أن تغادر مصر أصلًا، وأضاف متسائلًا "وإلا لماذا أخفاها عشر سنوات في ألمانيا قبل عرضها لأول مرة؟".
قوانين الاستعمار
لا يقتصر التشكيك في أحقية امتلاك التمثال على الآثاريين المصريين، فعدد من المؤرخين الألمان يشاركونهم التوجه. ويرى سيباستيان كونراد، مؤلف كتاب Nefertiti: The Making of a Global Icon وأستاذ التاريخ العالمي والاستعماري في جامعة برلين الحرة، أنه حتى لو جرت الأمور وفقًا لقانون ذلك العصر، فإن السؤال الحقيقي هو: من الذي وضع هذا القانون؟ وفي أي سياق؟
يقول كونراد أن مصر بمجرد حصولها على الاستقلال عام 1922 غيرت هذا القانون، وهو ما يدل على أنه قانون ينتمي لزمن الإمبريالية، حين كانت مصر فعليًا مستعمرة بريطانية.
يستدل أستاذ التاريخ، في حديثه مع المنصة، على عوار قانون تقاسم اللقى بأن "علماء الآثار الذين ذهبوا في بعثات مماثلة إلى إيطاليا أو اليونان كان بإمكانهم التنقيب كما يشاؤون، لكن لم يكن مسموحًا لهم بأخذ مكتشفاتهم معهم. فكيف يمكننا الاستمرار في التبرير اعتمادًا على هذا القانون بسذاجة؟".
هناك من المؤرخين من ذهبوا أبعد من ذلك، من بينهم يورجن تسيمرر الذي يستحضر نموذج النظام النازي في ألمانيا، مؤكدًا في مقابلة مع مجلة دير شبيجل أنه "لا ينبغي لأحد أن يتحاجج بقوانين القوى الاستعمارية لذلك الزمن. نحن لا نعدّ المصادرات التي نفذها النازيون قانونية، رغم أنها اعتمدت على قوانين سارية آنذاك"، مؤكدًا أن "الأدلة العلمية واضحة: نفرتيتي سُرقت".
اللافت أن مصر كادت تنجح في استعادة نفرتيتي عام 1933، بعد وقت قصير من ترسيخ النازيين سلطتهم. إذ يُقال إن هيرمان جورينج، حاكم بروسيا آنذاك، فكّر في إعادة التمثال لكسب ودّ الملك فؤاد الأول، سعيًا للتقارب مع مصر. لكن أدولف هتلر الذي كان مفتونًا بالملكة كما يشاع عنه رفض، ويقال أنه أرادها أن تكون جوهرة العاصمة الألمانية الجديدة.
حملات وتوقيعات
لم تتوقف مبادرات استرداد نفرتيتي قرابة قرنًا من الزمان. ففي المتحف المصري الكبير، جمع ناشطون توقيعات من الزوار. واللافت أن بعض هذه العرائض ليست موجهة إلى ألمانيا، بل إلى رئيس الوزراء المصري.
تقود عالمة الآثار مونيكا حنّا حملة أعيدوا نفرتيتي إلى الوطن، التي تحث رئيس الوزراء مصطفى مدبولي على تقديم طلب رسمي للاسترداد. وتذهب في مطالبها إلى إعادة رأس الملكة "إلى مكانها الطبيعي في متحف العمارنة بمحافظة المنيا"، وليس إلى المتحف المصري الكبير.
كما أطلق زاهي حواس في سبتمبر/أيلول 2024 عريضة منفصلة تطالب ليس فقط بإعادة تمثال نفرتيتي، بل أيضًا حجر رشيد ودائرة البروج في دندرة.
وتدعو العريضة التي وقّع عليها حتى الآن 240 ألف شخص "الحكومة المصرية إلى مخاطبة الحكومات الأجنبية لاستعادة هذه الآثار. لا بد من وجود اهتمام جماهيري كافٍ"، بحسب حواس.
ورغم أن الرئيس المصري يدعم هذه الحركة، يصرّ حواس في حديثه إلى المنصّة على أن طلب الاسترداد النهائي لن يصدر عن الرئيس، بل عنه هو شخصيًا "بصفته ممثلًا للشعب المصري".
ولكن هل المالكون الحاليون لهذه القطع سيعتبرون عريضة حواس تلك أكثر "رسمية" من محاولاته السابقة؟
رغم أن الحكومة لم تُعلّق، تحدّث الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار محمد إسماعيل خالد عن رغبة المصريين في استعادة حجر رشيد، وقال لصحيفة ذا تايمز إن "أصواتًا كثيرة في مصر ترى أننا يجب أن نطالب بعودته، لأنه حقهم".
اللافت أن خالد أبدى ارتياحًا لوجود آلاف القطع الأثرية في المتحف البريطاني، معتبرًا أنها "تنتمي إلى الطرفين"، بريطانيا ومصر. غير أن حجر رشيد، في رأيه، يمثل حالة مختلفة، لأن ظروف إخراجه من مصر لم تكن كسائر الكنوز الأخرى: "كان ذلك في زمن حرب، ولم يكن انتقالًا طبيعيًا، ولا حتى وفقًا للقانون".
الإمبراطورية والحرب
عثرت قوات نابليون بونابارت أثناء غزوها لمصر عام 1799 على حجر رشيد في دلتا النيل ليصبح واحدًا من أهم القطع في علم المصريات، فهو المفتاح لفك رموز اللغة الهيروغليفية القديمة. وبعد هزيمة فرنسا، انتقلت ملكيته إلى بريطانيا بموجب معاهدة الإسكندرية عام 1801، ومنذ 1802 وهو معروض في المتحف البريطاني بلندن.
واستفسرت المنصة عبر الإيميل عن جهود الحكومة المصرية لاسترداده، فقال المتحف البريطاني إنه "لم يتلقَّ أي طلب رسمي من الحكومة المصرية لإعادة حجر رشيد". وقدمت لنا وزارة الثقافة البريطانية ردًا مماثلًا.
وكذلك أبدت السلطات الفرنسية موقفًا مشابهًا بشأن دائرة البروج في دندرة. وقال متحدث باسم متحف اللوفر في رد رسمي على المنصة إن "دائرة البروج في دندرة لم تقتنَ بشكل غير قانوني، ولم تكن، بحسب علم متحف اللوفر، موضع طلب رسمي للاسترداد من الحكومة المصرية".
واستند المتحف إلى اتفاقية اليونسكو لعام 1970، معتبرًا أن قوانين الاسترداد لا تنطبق.
وتحظر أطر اليونسكو نقل الممتلكات الثقافية بشكل غير قانوني، لكنها لا تُطبَّق بأثر رجعي إلا إذا كانت الدولتان قد صدّقتا على الاتفاقية وقت إخراج القطعة. ورغم أن مصر وفرنسا وألمانيا صدّقت جميعها على الاتفاقية، فإن تاريخ اعتمادها يستثني عمليًا معظم عمليات الاقتناء في الحقبة الاستعمارية.
ورغم أن اتفاقية يونيدروا لعام 1995 صُممت لمعالجة ثغرات اتفاقية 1970، ووفّرت آليات مساءلة أكثر صرامة للقطع المسروقة، فإنها بدورها غير قابلة للتطبيق بأثر رجعي. كما أن بعض القوانين المحلية تزيد من تعقيد المشهد؛ فعلى سبيل المثال، يمنع قانون المتحف البريطاني لعام 1963 الاسترداد الدائم قانونيًا.
لمن تنتمي الكنوز الثقافية؟
يرى المؤرخ سيباستيان كونراد أن القنوات الدبلوماسية قد لا تكون الطريق الأجدى في استعادة المقتنيات الأثرية، ويضرب مثالًا على ذلك ببرونزيات بنين، حيث أعادت ألمانيا هذه القطع إلى نيجيريا عام 2022.
لم تكن المطالب الرسمية هي ما رجّح الكفة، حسب كونراد، بل نقاشات طويلة دارت في الكواليس. كما أن خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي أعلن فيه إعادة قطع بنينية من فرنسا، زاد الضغط على الجانب الألماني للقيام بالمثل، إلى أن رأت برلين أن إعادة الآثار تصب في مصلحتها.
لكن حالة مصر قد تكون مختلفة، و"لن يكون هناك مجال للإعادة إلا عندما يتغير الرأي العام في ألمانيا"، كما يقول كونراد.
تكشف تعليقات الجمهور على المقالات المنشورة في الصحف الألمانية عن تعقيد الموقف، فبينما يرى البعض أن موطنها هو "مصر، بالطبع"، يجادل آخرون بأن برلين تُوفر لها حراسةً أفضل، مشيرين إلى أعمال نهب المتاحف خلال ثورة 2011 في مصر.
ويعكس تعليق أسفل مقال في صحيفة دير شبيجل حجةً متكررةً بالادعاء بأن "مصر التي جاءت منها نفرتيتي لم تعد موجودة"، وهو التصور الذي يصفه الباحثون بأنه "تقليد مُختلَق". فمصر الحديثة، على سبيل المثال، لم تبدأ في الارتباط بالعصر الفرعوني إلا منذ نحو 150 عامًا فقط، حسب كونراد.
كذلك يتسائل البعض ضمن رفضهم إعادة التمثال عما إذا كانت مصر ستمتلك كل هذه الآثار لولا المنقّبون الأجانب. ورغم أن هذا الطرح يستند إلى منطق استعماري، فإنه لا يزال يتردد في النقاشات العامة.
ومن أبرز الحجج الداعمة لبقاء نفرتيتي في برلين اعتبارها سفيرة للثقافة المصرية في الخارج. حتى أن الرئيس الأسبق حسني مبارك وصفها بذلك، غير أن كونراد لا يقتنع بهذا التبرير؛ "لو كان الأمر كذلك، لكانت تسافر إلى دول أخرى أيضًا. ولماذا لا ترسل دول مثل ألمانيا أعمالًا فنية شهيرة إلى مصر لتمثيل نفسها؟".
في ظل هذه القيود، يعيد بعض الباحثين صياغة تساؤل مّن يملك نفرتيتي، ليُطرح سؤال آخر: لمن تنتمي؟
إلا أن كونراد يفكر بطريقة مختلفة. فعلى الرغم من أن تمثال نفرتيتي يبلغ عمره 3400 عام، فإن "حياتها الاجتماعية" لم تبدأ إلا عام 1924، وكانت معظمها في برلين. فهل يجعلها ذلك "برلينية"؟ بعض التعليقات على السوشيال ميديا ترى الأمر كذلك. إلا أنه يرى أن "أيقونة عالمية مثلها، في عالم مثالي، يجب أن تُرى في كل مكان، أو تعود إلى وطنها".
الاسترداد.. طريق طويل إلى الوطن
قصة نفرتيتي ليست سوى واحدة من آلاف القصص لآثار مصرية لا تزال معروضة في متاحف غربية.
ورغم أن مصر استعادت ما يقرب من 30 ألف قطعة خلال السنوات العشر الماضية، وفي عام 2024 وحده أُعيدت 172 قطعة، و280 أثرًا آخر في عام 2025، فإن كثيرًا من الكنوز الثمينة لا تزال في الخارج. وستتطلب إعادتها ما هو أكثر من الحجج القانونية.
لكي تعود نفرتيتي، سيتطلب الأمر تغير الرأي العام، وثقافة المؤسسات، والمعايير الدولية؛ "فكرة استرداد الممتلكات الثقافية أكثر تعقيدًا ودقة مما يظنه الناس. يجب التعامل مع كل قطعة على حدة"، تقول سليميّة إكرام، أستاذة علم المصريات في الجامعة الأمريكية بالقاهرة لـ المنصة.
تتمنى سليميّة عودة نفرتيتي إلى أرض الوطن، لتراها أخيرًا في بلدها، بعدما زارتها أكثر من مرة في برلين؛ "التقيتها للمرة الأولى عندما سقط الجدار في ألمانيا الشرقية، ثم لاحقًا في متحف برلين. أحببتها أكثر في المرة الأولى. كان المشهد دراميًا ومؤثرًا للغاية".