عزيزي الكيميتي، إنني أراك ترتجف غيظًا من الأفروسنتريك الذين يريدون اختطاف حضارتك ونسبها إليهم. ولكن هوّن عليك، فقد سبقهم الرجل اليوروسنتريك الجميل وهو يسترزق منها فعليًّا. فعندما تزور مدينة تورينو الإيطالية مثلًا، سيصيبك الارتباك وقد تفقد البوصلة وأنت ترى على مدخلها نسخةً مصغَّرةً لأبي الهول، فلا تعرف هل أنت في أوروبا أم في الجيزة.
ذلك أن مدينة تورينو تضع بعض الآثار المصرية هنا وهناك، بحكم متحفها للمصريات الذي يلي المتحف المصري الكبير في الأهمية. يضم متحف تورينو نحو 40 ألف قطعة، ويعد من أكثر المتاحف جلبًا للسياح في إيطاليا والعالم، ويساهم في إنعاش الأعمال التجارية الصغيرة للمدينة من مطاعم ومقاهٍ وفنادق ومحلّات بيع التذكارات الفرعونية للسياح، وكأنهم في القاهرة.
أما الأكثر إثارة للدهشة، أنّ رئيسة الوزراء الحالية جورجيا ميلوني شنّت عام 2018، قبل أن تتقلد منصبها، هجومًا شرسًا على إدارة المتحف لتقديمه عرضًا خاصًا للناطقين بالعربية، انتقدت فيه إنتاج المتحف إعلانًا باللغة العربية، بزعم أنه "متحف إيطالي مموّل من جيوب الإيطاليين"، دون أن نعرف متى وكيف أوفى دافع الضرائب الإيطالي قيمة هذه القطع الأثرية المعروضة في المتحف، التي لا تُقدر بثمن.
متحف يبيع "الأصالة"
زيارة المتاحف من أهم الأنشطة التي تقوم عليها السياحة الثقافية، والسياحة في تورينو.
يقول ديل أبتون، الأستاذ والمؤرخ المعماري في جامعة كاليفورنيا، إن "السياحة الثقافية هي في نفس الوقت تنافسية واندماجية. تنافسية من حيث إن السياح يسعون لزيارة أكثر المواقع أصالة أو غموضًا، واندماجية بمعنى أنهم يبحثون عن تطوير أنفسهم برؤية المواقع التي 'يجب' رؤيتها، ليُعتبروا من طرف مجتمعاتهم مثقّفين ومتعلّمين".
باستيلائه على الآثار يرسخ الغرب سلطته الثقافية ويزداد قوةً على حساب صاحب الحضارة
وهكذا، يُمكِّن متحف تورينو الأوروبيين والأمريكيين من تطوير ثقافتهم بمعاينة التراث "الأصيل" لمصر في ظروف وبيئة أوروبية، دون الحاجة إلى زيارتها.
يعتبر ديل أبتون تأمُّل البيئة التقليدية والمحلية هو صُلب تجربة الحداثة، وأن أوصاف التقليدي والحديث هي بدورها من صنع الحداثة. فما هو تقليدي لم يكن كذلك حتى تم تخيّله كمكوّن مكمّل للحداثة.
ولكن الحقيقة أن الأصالة مجرد وهم يُباع للمرفهين في المجتمعات الغربية، الذين ينتابهم الخوف من أن تكون الحياة الحديثة غير أصيلة بما يكفي. والأصالة، حسب الباحث، ليست سوى سراب يهدف إلى إعطاء الآثار هويةً وحيدةً ومتأصلةً، في حين أنها نتاج معارف وممارسات ومعانٍ مختلفة ومتداخلة، ويعتمد تصنيفها أصيلةً أو حديثةً على تأويل من يعاينها.
يصنع الغرب "الأصالة" في غفلة من أصحابها بقيمتها الحقيقية، كما جرى في العديد من الدول المستعمَرة، فتؤخذ الآثار وتُصنَّف وتُدرَّس وتُعدُّ للتسليع. يشرح ديل أبتون هذه العملية بقوله "لم تعد الرأسمالية تسعى إلى المواد الخام والأسواق من أجل منتجاتها الصناعية فقط، بل إلى المواد الثقافية الخام التي يمكن تحويلها إلى نقود ملموسة من خلال المحافظة والترميم وإعادة صناعة المناظر الطبيعية المحلية والممارسات الثقافية التقليدية لإمتاع المستهلك الحضري".
متحف المصريات في تورينو مثال على عملية التحويل هاته، فسنةً تلو أخرى يتضاعف عدد زائريه، حيث بلغ في 2022 نحو 900 ألف. وطبعًا كلّ هذه المداخيل التي يفترض أن تصب في عصب الاقتصاد المصري، تملأ خزينة بلدية تورينو.
وهكذا لا تُسرق الآثار مرّة واحدة وإنّما مع كلّ تذكرة دخول. وبالإضافة إلى أن المتحف يأتي في قلب خطط المدينة للترويج السياحي، فهو أيضًا يُشكِّل هويتها، إذ يدخل في التنشئة الاجتماعية للسكّان الذين يرتادونه منذ الصغر، بينما أغلب الشعب المصري محروم من زيارته ببساطة لصعوبة السفر لإيطاليا.
ولكن كيف انتهت الآثار المصرية إلى تورينو؟
سرقة الآثار والذاكرة
"موزِيو إيجيزيو دي تورينو" هو واحدٌ من متاحف غربية كثيرة، أبرزها في برلين ولندن ونيويورك، تعرض الآثار المصرية التي كان علماء الآثار مثل جان فرنسوا شامبليون يتاجرون فيها. نشأت أغلب متاحف المصريات بهذه الطريقة، حسب عالمة الآثار المصرية مونيكا حنا، فعلم المصريات بدأ أصلًا كعلمٍ غربيٍّ استعماريٍّ، ينقّب عن الكنوز من قطع ذهبية وتوابيت ومومياوات، عوض البحث عن الدلائل الأثرية.
كان نابليون بونابرت أثناء حملته في مصر أوّل من شرع في وضع اليد على الآثار المصرية، لكن الإنجليز كانوا له بالمرصاد وأخذوا أغلب ما استولى عليه بموجب معاهدة أبو قير، تشرح الدكتورة حنّا.
وسرعان ما انتشرت موضة جمع الآثار المصرية لاحقًا في كلّ أنحاء أوروبا، خصوصًا بعدما منح محمد علي باشا القناصل الغربيين تصاريح التنقيب عن الآثار، بغية شراء رضا بلدانهم التي تمدّه بالسلاح في صراعه مع الدولة العثمانية. وبالفعل كان الإيطالي بيرناندينو دروفيتّي، قنصل فرنسا، جمع 8000 قطعة على سبيل المثال.
شرع الملك الإيطالي كارلو فيليتشيه في شراء الآثار المصرية والاستحواذ عليها، بداية بمجموعة كلٍّ من دروفيتّي وفيتاليانو دوناتي. وأنشأ في سنة 1824 أوّل متحف للمصريات في العالم بمدينة تورينو. أثريت مقتنيات المتحف ما بين 1903 و1937 إلى أن بلغ عددها ما يقارب 30 ألف قطعة، بفضل عالم الآثار إيرنيستو شاباريللي وبعده جوليو فارينا.
ويحتوي المتحف على نوادر فائقة القيمة كتابوت الملكة نفرتاري، ومعبد إليسيا الذي أهداه نظام عبد الناصر لإيطاليا في جملة دولٍ غربيةٍ أخرى، امتنانًا لمساعدتها في إنقاذ الآثار من الغرق جرّاء أعمال بناء السد العالي.
وبالنسبة لحنّا، فالغرب أيضًا يسرق الذاكرة الجماعية، إذ تناسى اهتمام العلماء العرب بفهم الحضارة الفرعونية، ليخلق سردية غربية لشرعنة هاته السّرقات، مفادها أنهم أولى من العرب والمسلمين بالحضارة الفرعونية التي تنتمي لهم، بانتقالها إليهم عن طريق الحضارتين اليونانية والرومانية.
ولا يزال علماء آثار غربيون بارزون مثل الألماني هرمان بارزينجر يدافعون عن أحقّية المتاحف الغربية بالاحتفاظ بالقطع المصرية تحت ذريعة أن مصر الحديثة لا تمتُّ بصلةٍ لتاريخها القديم. ادعاءات فنّدتها حنا في ورقة علمية، تُبيّن فيها ألَّا انقطاع بين مصر الحديثة والحضارة الفرعونية.
يستمر الغرب في سرقة القطع الفرعونية، حسب حنا؛ فهناك سوق كبيرة يتورط فيه أساتذة آثار، وبُعيد ثورة 2011 سُرقت أزيد من ألف قطعة أثريّة. لذلك تدافع حنا عن ضرورة التفكير في الآثار المصرية باعتبارها تراثًا وإرثًا للمصريين لا مجرد "أنتيكات"، فطالما لم تُخلق علاقة بين الشعب وحضارته الفرعونية، ليس بالشكل الشوفيني وإنّما بأن تتحسن معيشته بفضل حفاظه على الآثار، فلن يشعر أنّها ملْكه، وبالتالي سيسهُل على الغرب نهبه.
هكذا يمارس الغرب الأورو-أمريكي الاستحواذ الثقافي، الذي يمكن تعريفه بأنه سيطرة المجموعة المهيمنة على السلطة الاقتصادية والسياسية، على ثقافة المجموعة الأضعف. وباستيلائه على الآثار المصرية، يرسخ الغرب سلطته الثقافية على الآخر، ويزداد قوةً على جميع الأصعدة على حساب صاحب الحضارة نفسه، بحرمانه من فرص صناعة الثروة وخلق الزخم الثقافي اللذين يُمكِّنانه من تنمية المناطق المهمّشة التي نُهب تراثها.
أوهام التفوق الأبيض
والآن لماذا لا ينال الغرب سوى النصيب الأيسر من الهجوم، بينما ينصبّ كلّ تركيز الكيميتيين على مزاعم الأفروسنتريك؟
الجواب هو للأسباب نفسها التي تجعل الكيميتي المتعصّب يتقبّل صورة كليوباترا الشقراء ويمتعض من كليوباترا السوداء: يختار ما بين ما تمثله له هاتان الهويّتان من ثنائيات الغنى والفقر، الجمال والقبح، التقدّم والتّخلّف.
وبما أنّ الغرب بالنسبة له هو رمز القوة والعظمة، ومن يضع المعايير، فإنّ نسبة تاريخه إلى حضارة مصر القديمة دليل على أهميتها، ويخلق هذا بدوره لدى الكيميتيين وهم الانتماء إلى الهوية الغربية، والتملّص من كلٍّ من الهوية العربية والإفريقية المغلوبتين.
زد على هذا السياق الجهوي الذي يشهد تنامي العنصرية ضد المهاجرين السود، حيث يُخلط بينهم وبين الأفروسنتريك، للزعم بوجود مخطط استيطاني لتغيير "الجين الشمال إفريقي".
وفي مصر تحديدًا، يثير الصراع مع إثيوبيا حالةً من تهويل خطر المركزية الإفريقية ويربطها بالمطامع المائية الإثيوبية. وطبعًا يستغلّ الغرب هذه الصراعات لصالحه، ويشجّع أحيانًا مطالب الأفروسنتريك، ليُسخّرها ذريعةً تُمكّنه من الاحتفاظ بالآثار التي سرقها، ومن استمرار هيمنته على الأفروسنتريك والكيميتيين، على حدٍّ سواء.