أهوى السير في شوارع المنصورة المُزدحمة التي تحيط بها الأشجار وكأنها أذرع تتكيء بها على النهر، أستعيد معالم المدينة الكوزموبوليتانية، بحكاياتها التي لا تنتهي، لكن تمشية كهذه اليوم، تُثير تساؤلات، يتبعها الكثير من الألم والحسرة. غيّر "التطوير" ملامح المدينة الهادئة، أصبحت صاخبة بالأبينة الشاهقة والمحلات التجارية، وتحولت هواية السير، لرحلة رصد آثار التطوير.
في عشية يوم أحد من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2022، مررت بمقهى أندريا، لم أرَ سوى سيارتي شرطة مُصفحتين ماثلتين أمام المقهى، على يمينه ويساره، وسياج حديدي مطلي برسوم الداخلية ونسرها، يطوّق المبنى كله، وعلى رصيف المقهى يجلس أمينا شرطة، ومن خلفهما بابُ المقهى اليوناني موصد، وأنواره مُطفأة.
لم أفهم السبب وراء ذلك، حدثت نفسي بأن أسأل، وأثناء عبوري السياج الأمامي عبر فرجة منسية، رمقني أمين بنظرة فحواها "غور يلا" فعدلت عن رأيي.
ظل المقهى على ذلك الحال لمدة جاوزت الشهر، ومع بداية السنة الجديدة، يافطة مُعلقة على المبنى مكتوب عليها بالبنط العريض "المبنى مملوك للحزب الاشتراكي المصري".
حكاية مقهى الـ100 عام
أُفتتح المقهى عام 1907، وهو عكس المتداول من أن افتتاحه كان عام 1920، يحكي الكاتب إيهاب رجب الشربيني في كتابه المنصورة قصص وتاريخ قصة بناء المقهى المُطل على النيل "في تلك الأثناء قدِمَ إلى المنصورة الخواجة اليوناني أندريا مافيدس بوكاني ليفتتح فيها مقهى على الطراز الأوروبي، ولمّا افتتحه، لم يكن بقدر طموحه. وعندما كان يسير في شارع البحر، وقع في هوى هذا المبنى الجديد الذي وجد حلمه فيه".
في تلك الأثناء كانت المنصورة عبارة عن مجموعة من الأوقاف والأراضي التابعة لبعض الباشوات، أغلبهم لم يكونوا مصريين. يُتابع الشربيني "فقرر ، يقصد أندريا، استئجار محل فيه بأي قيمة، وبالفعل، حصل عليه من دائرة القريعي باشا". وكان هذا المحل هو أندريا الذي نعرفه اليوم.
وبعد فترة، انتقل المقهى من يدِ اليونانيين إلى عائلة الحاج حسين عثمان المصرية. وبمقارنة أسبقية أندريا بمقاهي المنصورة، سنجده الأقدم؛ فكما يقول الكاتب نفسه، في كتابه الثاني، حكاية شوارع المنصورة "إن أندريا أقدم مقهى يحتل مبناه الأصلي". أي أنه أقدم من مقهى ريش والفيشاوي بالقاهرة.
أصبح أندريا على مدار المئة عام وأكثر، قِبلةً لجميع الأعمار والأطياف؛ إذ لامست جدرانه كوكبة من المثقفين؛ كأحمد شوقي، وصاحب الأطلال، إبراهيم ناجي، وأنيس منصور، وفاتن حمامة، حتى أن نجيب الريحاني نام ليلتين في المقهى كما يذكر في مذكراته.
تشتت رواد المقهى بين المقاهي الأُخرى. يقول سامي محمد، 24 سنة "صراحة لم أكن أجلس في أندريا كثيرًا أيام الماتشات. لكني كنت أفضله برفقة صديقتي".
لم أغنم في بحثي عن السبب وراء إغلاق المقهى سوى عبارة موظف في المديرية، رفض ذكر اسمه "مشاكل في التراخيص متعلقة بالأوقاف".
بلا أشجار ولا آثار
إغلاق المقهى، كان إشارة على انتهاء عصر كامل من المنصورة التي نعرفها، التي سُميت باسمها في عهد الملك الكامل الأيوبي؛ آملًا الانتصار على الصليبيين إبان حملتهم على مصر، وقد كان، فأصبحت المنصورة بدلًا من جزيرة الورد.
حسب توصيف المعرض الفني الذي أُقيم في أندريا، في فبراير/شباط 2022، فالمنصورة قبل 1952 "مِن أبرز المُدن التي تميزت بالجاليات الأجنبية".
أشهر المُساهمين في بناء تلك المدينة وإرثها هم الجالية اليونانية، وعلى ذلك يُعلق اللورد كرومر ساخرًا، في كتابه مصر الحديثة "كلما رفعت حجرًا وجدت تحته يونانيًا". وللجاليات الأخرى إسهام، فحي توريل، وحديقة الحيوان التي بنيت فيه، أنشأهما الخواجة اليهودي الفرنسي إيلي توريل.
لكنها لم تعد كذلك، إذ يستيقظ أهلها كل صباح على خواء جديد، يحتله جبل من حجارة الهدم أو خلاء بناية جُردت قسرًا من وظيفتها. فالمنصورة؛ مُقسمة لقسمين؛ شرقي وغربي، الأخير تحتله أندية وكافيهات وبراندات ومولات الأغنياء.
أما القسم الشرقي، الأثري، فيُعانق ثلاثة مستطيلات بشكل طولي قبالة النيل مباشرة؛ المستطيل الأول يضم مقهى أندريا، بجواره مديرية أمن الدقهلية والمسرح الروماني الأثري المُهمل، ومن خلفهم شارع العباسي.
المستطيل الثاني والذي يبعد عن الأول بكيلو متر واحد، يضم النادي اليوناني المُعرّض للهدم، وشارع السكة الجديدة من خلفه، وبنك مصر والبيوت ذات الطابع اليوناني.
المُستطيل الثالث يضم شارع المُختلط وميدان وحديقة الهابي لاند سابقًا، والتي كانت في الأساس حديقة الخديو إسماعيل ومرسى لسفن الأسرة العلوية حين تحط رحالها في المنصورة.
وبحكم أن تلك المستطيلات في الأساس كانت أوقافًا مملوكة لعائلات ليست مصرية في أصلها، فهي إما يونانية أو شامية، أنّعم عليها سلطان مصر وقتها بمنح وعِزب وأراضٍ؛ فلن تجد أي مستطيل من المستطيلات الثلاثة على حاله الذي كان، إذ طالت يد التطوير المنصورة الأثرية خلال السنوات الماضية.
خلف الحديقة؛ يقع شارعَ المُختلط العريق بالقرب من السكة الحديد، والذي تعود حكايته إلى عهد الخديو إسماعيل، إذ كان امتدادًا لقصره، الذي حُوّل إلى مدرسة "ثانوية البنات الجديدة"، بعد أن أهدته الأميرة فريال لوزارة المعارف، يرجع اسم الشارع إلى المحكمة اليونانية المُختلطة فيه، كما يضم عددًا لا بأس به من المباني ذات الطراز الإيطالي واليوناني.
شهدت المنطقة عمليات هدم لتلك المباني، لتحتل عمارات وأبراج إسمنتية حداثية محل العراقة الأثرية. منها القصر الأحمر، أحد أشهر قصور مدينة المنصورة، بيعت نوافذه وأبوابه الفضية، وحول ذلك الموضوع صرّح مصدر في المجلس الأعلى للتنسيق الحضاري، رفض ذكر اسمه، "القصر الأحمر مبنى فريد من نوعه، على الطراز القوطي، يندرج ضمن قانون 144 الخاص بالتنسيق الحضاري، ولكن مع الأسف، في شهر ديسمبر/كانون الأول 2022، استطاع مُلاك وورثة المبنى رفع قضية لإثبات أن حالته سيئة، فتأتي لجنة من القاهرة للمعاينة، التي دائمًا ما تنتهي بالموافقة على الهدم، وعلى أساس ذلك أُخرج المبنى من دائرة التراث بقرار من المحكمة، "لذا فهو عرضة للهدم بين عشية وضحاها".
ليست قضايا الورثة هي السبب الوحيد للهدم، فبحسب المصدر في التنسيق الحضاري، أحيانًا ما يكون للمشاريع التخطيطية دور في هذا، كقصر الثقافة في المنصورة والذي تصادف وجوده ضمن مشروع تخطيطي "حين أرادوا منا رأيًا فنيًا حول إزالة قصر الثقافة في المنصورة؛ رفضنا، وكتبنا رأيّنا الفعلي في المبنى، مُعلقين على حالته أنها جيدة، لكن كان القصر قد دخل ضمن تخطيط مشروع تحيا مصر المنصورة".
وعمّا قدمه جهاز التنسيق الحضاري لمدينة المنصورة يستطرد المصدر "دور اللجنة يقتصر على الرأي الفني والتوصية، ولكن مفيش فلوس، لذا نوصي بترميم المباني والحفاظ على تراثها، ومع الأسف، تُحفظ تلك التوصيات على الورق فقط دون التطبيق على أرض الواقع".
يقول الدكتور مهند فودة، خبير في الحفاظ على التراث الحضاري ومؤسس مُبادرة أنقذوا المنصورة "التغير في النسيج العمراني في المدينة بدأ منذ ثورة 2011، أثناء فترة غياب الرقابة وتعطل القوانين، كان للتغير أكثر من شكل؛ اختفاء حوالي ثلث المباني التراثية بالمدينة، لم يكن ذلك بوتيرة ثابتة طول الـ 12 سنة الماضية، إنما أخذ في التزايد منذ عام 2019، عندما استغل المُلاك وجود ثغرات في القوانين لرفع قضية، وإخراج أملاكهم من الحصر، من ثم إصدار رخصة هدم ليستبدلوا بالمباني الأثرية مبانيًا خرسانية قبيحة!"
اللافت أن أشجار المدينة، لها النصيب الأكبر من عمليات التطوير، فأشجار شارع قناة السويس، تم اقتلاعها ليحل محلها أعمدة بلاستيكية لرصف الطريق المُمتد حتى ميدان أُم كلثوم، كما وضع على مدخل الشارع طائرة حربية مكتوب عليها "تحيا مصر".
ويتعرض الآن نخيل شارع 6 أكتوبر، للإزالة دون مُبرر مُعلن. كذلك الأشجار المحيطة بفيلا غيث والمُمتدة على شارع البحر، اختفى جزء منها إلى غير رجعة.
ويرصد فودة ظاهرة استهداف المُسطحات الخضراء بالمدينة، "بدأت تحديدًا في 2018، مع الاستيلاء على حديقة حيوان المنصورة وتصحيرها مع وعد المسؤولين بإنشاء حديقة أطلقوا عليها اسم توريل بارك. لكنهم باعوا الحيوانات، وحولوا المكان لمقلب قمامة بعد 5 سنوات من توقف العمل على المشروع".
ثم تكرر الأمر في حديقة الهابي لاند، إذ استيقظ الأهالي صبيحة يوم السبت من شهر ديسمبر/كانون اﻷول عام 2021 على صوت حفّارات وجرارات تغزو الحديقة دون سابق إنذار، فتقتلع الشجر من جذوره وتهدم كوبري المشاة، وتساوي كل قائم بالأرض.
الحديقة التي كانت تضم أشجارًا تزيد أعمارها على 150 عامًا، وتقع على مساحة تبلغ 10835 مترًا مُربعًا، تم تسليمها لوزارة النقل حسب ما يذكر مؤسس مبادرة أنقذوا المنصورة، والتي حاولت التصدي لتجريف الحديقة.
يقول فودة "تم تسليم الحديقة، وتجريفها، ثم إقامة مشروع استثماري يضم ثلاثة أبراج ومول تجاري ومساحات إدارية".
وتستمر حلقات القضاء على حدائق المنصورة مع الاستيلاء على حدائق شارع الجيش لإنشاء أكشاك تجارية. ويوضح فودة بقية حلقات السلسلة "بنوا مركزًا تجاريًا اسمه مول المشاية مقتطع من حديقة شجرة الدر بدعوى تنمية موارد الدولة ورغم اعتراض المواطنين، صرفت الملايين على مشروع هجره المستأجرون بعد أشهر قليلة".
تَعكر وجه المدينة، غادره اللون الأخضر، وفقد أصالته "المُشكلة أن ما هُدم وما سيُهدم قريبًا أتلف النسيج العُمراني، يعني أنك ستجد وسط المباني التراثية مبانٍ حديثة عالية الارتفاع؛ مما يُضيع فرصة أي أعمال مُستقبلية للحفاظ على المدينة" يقول فودة.
تخلى القسم الشرقي عن آثاره وأشجاره، ولم أعد قادرًا على السير في الشوراع التي تغيرت ملامحها، ولم أعد أميز فيها المنصورة التي أعرفها، والتي يبدو أنه لن ينجو مِنها شيء عدا صور تذكارية.